وقوله { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه  } يبين  
[ ص: 570 ] أن كل من رغب عنها فقد سفه نفسه . وفيه من جهة الإعراب والمعنى قولان . 
أحدهما وهو قول 
الفراء  وغيره من 
نحاة الكوفة   واختيار 
 nindex.php?page=showalam&ids=13436ابن قتيبة  وغيره وهو معنى قول أكثر 
السلف  أن النفس هي التي سفهت . فإن " سفه " فعل لازم لا يتعدى لكن المعنى : إلا من كان سفيها فجعل الفعل له ونصب النفس على التمييز لا النكرة كقوله { 
واشتعل الرأس شيبا  } . 
وأما 
الكوفيون  فعرفوا هذا وهذا . قال 
الفراء   : نصب النفس على التشبيه بالتفسير كما يقال : ضقت بالأمر ذرعا معناه : ضاق ذرعي به . ومثله { 
واشتعل الرأس شيبا  } أي اشتعل الشيب في الرأس . قال : ومنه قوله : ألم فلان رأسه ووجع بطنه ورشد أمره . وكان الأصل : سفهت نفس زيد ورشد أمره فلما حول الفعل إلى زيد انتصب ما بعده على التمييز . 
فهذه شواهد عرفها 
الفراء  من كلام 
العرب   . ومثله قوله : غبن فلان رأيه وبطر عيشه . ومثل هذا قوله { 
بطرت معيشتها  } أي بطرت نفس المعيشة . وهذا معنى قول 
يمان بن رباب   : حمق رأيه ونفسه وهو معنى قول 
ابن السائب   : ضل من قبل نفسه وقول  
[ ص: 571 ] أبي روق   : عجز رأيه عن نفسه . 
والبصريون  لم يعرفوا ذلك . فمنهم من قال : جهل نفسه كما قاله 
ابن كيسان  والزجاج   . قال : لأن من عبد غير الله فقد جهل نفسه لأنه لم يعلم خالقها . 
وهذا الذي قالوه ضعيف . فإنه إن قيل إن المعنى صحيح فهو إنما قال ( سفه و " سفه " فعل لازم ليس بمتعد و " جهل " فعل متعد . وليس في كلام 
العرب   " سفهت كذا " ألبتة بمعنى : جهلته . بل قالوا : سفه بالضم سفاهة أي صار سفيها وسفه بالكسر أي حصل منه سفه كما قالوا في " فقه وفقه " . ونقل بعضهم : سفهت الشرب إذا أكثرت منه . وهو يوافق ما حكاه 
الفراء  أي صار شربه سفيها فسفه شربه لما جاوز الحد . 
وقال 
الأخفش  ويونس   : نصب بإسقاط الخافض أي سفه في نفسه . وقولهم " بإسقاط الخافض " ليس هو أصلا فيعتبر به ولكن قد تنزع حروف الجر في مواضع مسموعة فيتعدى الفعل بنفسه . وإن كان مقيسا في بعض الصور . ف " سفه " ليس من هذا لا يقال : سفهت أمر الله ولا دين الإسلام بمعنى : جهلته أي سفهت فيه . وإنما يوصف بالسفه وينصب على التمييز ما خص به .  
[ ص: 572 ] مثل نفسه أو شربه ونحو ذلك . 
والمقصود أن كل من رغب عن ملة 
إبراهيم  فهو سفيه . قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=11873أبو العالية   : رغبت 
اليهود  والنصارى  عن ملة 
إبراهيم  وابتدعوا اليهودية والنصرانية وليست من الله وتركوا دين 
إبراهيم   . وكذلك قال قتادة : بدلوا دين الأنبياء واتبعوا المنسوخ . 
فأما 
موسى  والمسيح  ومن اتبعهما فهم على ملة 
إبراهيم  متبعون له وهو إمامهم . وهذا معنى قوله { 
إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا  } . فهو يتناول الذين اتبعوه قبل مبعث 
محمد  وبعد مبعثه . وقيل إنه عام قال 
الحسن البصري   : كل مؤمن ولي 
إبراهيم  ممن مضى وممن بقي . وقال 
الربيع بن أنس   : هم المؤمنون الذين صدقوا نبي الله واتبعوه وكان 
محمد  والذين معه من المؤمنين أولى الناس 
بإبراهيم   . وهذا وغيره مما يبين 
أن اليهود  والنصارى  لا يعبدون الله وليسوا على ملة إبراهيم   . 
فإن قيل : فالمشرك يعبد الله وغيره بدليل قول 
الخليل   { 
أفرأيتم ما كنتم تعبدون  } { 
أنتم وآباؤكم الأقدمون  } { 
فإنهم عدو لي إلا رب العالمين  } . فقد استثناه مما يعبدون فدل على أنهم كانوا يعبدون الله . وكذلك قوله { 
إنني براء مما تعبدون  } { 
إلا الذي فطرني  } واستثناه  
[ ص: 573 ] أيضا . وفي المسند وغيره حديث { 
nindex.php?page=hadith&LINKID=597905حصين الخزاعي  لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم يا حصين  كم تعبد اليوم ؟ قال : سبعة آلهة ستة في الأرض وواحد في السماء . قال : فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك ؟ قال : الذي في السماء  } . 
قيل : هذا قول 
المشركين  كما تقول 
اليهود  والنصارى   : نحن نعبد الله . فهم يظنون أن عبادته مع الشرك به عبادة وهم كاذبون في هذا . 
وأما قول 
الخليل  ففيه قولان . قال طائفة : إنه استثناء منقطع . وقال 
عبد الرحمن بن زيد   : كانوا يعبدون الله مع آلهتهم . 
وعلى هذا فهذا لفظ مقيد . فإنه قال { 
ما تعبدون  } . فسماه عبادة إذا عرف المراد لكن ليست هي العبادة التي هي عند الله عبادة . فإنه كما قال تعالى : " { 
nindex.php?page=hadith&LINKID=6944أنا أغنى الشركاء عن الشرك . من عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بريء وهو كله للذي أشرك  } " . وهذا كقوله تعالى { 
وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون  } . سماه إيمانا مع التقييد وإلا فالمشرك الذي جعل مع الله إلها آخر لا يدخل في مسمى الإيمان عند الإطلاق . وقد قال { 
يؤمنون بالجبت والطاغوت  } { 
فبشرهم بعذاب أليم  } . فهذا مع التقييد . ومع الإطلاق فالإيمان هو الإيمان بالله والبشارة بالخير .  
[ ص: 574 ]