صفحة جزء
[ ص: 97 ] وقال شيخ الإسلام رحمه الله فصل : ذكر الله عن إمامنا إبراهيم خليل الله أنه قال لمناظريه من المشركين الظالمين { وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون } { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } .

وفي الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود أن { النبي صلى الله عليه وسلم فسر الظلم بالشرك وقال ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح { إن الشرك لظلم عظيم } } فأنكر أن نخاف ما أشركوهم بالله من جميع المخلوقات العلويات والسفليات وعدم خوفهم من إشراكهم بالله شريكا لم ينزل الله به سلطانا وبين أن القسم الذي لم يشرك هو الآمن المهتدي . وهذه آية عظيمة تنفع المؤمن الحنيف في مواضع فإن الإشراك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل دع جليله وهو شرك في العبادة والتأله وشرك في الطاعة والانقياد وشرك في الإيمان والقبول . فالغالية من النصارى والرافضة وضلال الصوفية والفقراء والعامة يشركون بدعاء غير الله تارة وبنوع من عبادته أخرى وبهما جميعا تارة ومن أشرك هذا الشرك أشرك في الطاعة . [ ص: 98 ]

وكثير من المتفقهة وأجناد الملوك وأتباع القضاة والعامة المتبعة لهؤلاء يشركون شرك الطاعة وقد {قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم لما قرأ { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم } فقال يا رسول الله ما عبدوهم فقال ما عبدوهم ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم } . فتجد أحد المنحرفين يجعل الواجب ما أوجبه متبوعه والحرام ما حرمه والحلال ما حلله والدين ما شرعه إما دينا وإما دنيا وإما دنيا ودينا . ثم يخوف من امتنع من هذا الشرك وهو لا يخاف أنه أشرك به شيئا في طاعته بغير سلطان من الله وبهذا يخرج من أوجب الله طاعته من رسول وأمير وعالم ووالد وشيخ وغير ذلك . وأما الشرك الثالث فكثير من أتباع المتكلمة والمتفلسفة بل وبعض المتفقهة والمتصوفة بل وبعض أتباع الملوك والقضاة يقبل قول متبوعه فيما يخبر به من الاعتقادات الخبرية ومن تصحيح بعض المقالات وإفساد بعضها ومدح بعضها وبعض القائلين وذم بعض بلا سلطان من الله . ويخاف ما أشركه في الإيمان والقبول ولا يخاف إشراكه بالله شخصا في الإيمان به وقبول قوله بغير سلطان من الله . وبهذا يخرج من شرع الله تصديقه من المرسلين والعلماء المبلغين والشهداء الصادقين وغير ذلك . فباب الطاعة والتصديق ينقسم إلى مشروع في حق البشر وغير مشروع .

وأما العبادة والاستعانة والتأله فلا حق فيها للبشر بحال فإنه كما قال القائل ما وضعت يدي في قصعة أحد إلا ذللت له . ولا ريب أن من نصرك ورزقك [ ص: 99 ] كان له سلطان عليك فالمؤمن يريد أن لا يكون عليه سلطان إلا لله ولرسوله ولمن أطاع الله ورسوله . وقبول مال الناس فيه سلطان لهم عليه فإذا قصد دفع هذا السلطان وهذا القهر عن نفسه كان حسنا محمودا يصح له دينه بذلك وإن قصد الترفع عليهم والترؤس والمراءاة بالحال الأولى كان مذموما وقد يقصد بترك الأخذ غنى نفسه عنهم في ترك أموالهم لهم . فهذه أربع مقاصد صالحة : غنى نفسه ، وعزتها حتى لا تفتقر إلى الخلق ولا تذل لهم ، وسلامة مالهم ودينهم عليهم حتى لا تنقص عليهم أموالهم فلا يذهبها عنهم ولا يوقعهم بأخذها منهم فيما يكره لهم من الاستيلاء عليه ففي ذلك منفعة له ألا يذل ولا يفتقر إليهم ومنفعة لهم أن يبقى لهم مالهم ودينهم وقد يكون في ذلك منفعة بتأليف قلوبهم بإبقاء أموالهم لهم حتى يقبلوا منه ويتألفون بالعطاء لهم فكذلك في إبقاء أموالهم لهم وقد يكون في ذلك أيضا حفظ دينهم فإنهم إذا قبل منهم المال قد يطمعون هم أيضا في أنواع من المعاصي ويتركون أنواعا من الطاعات فلا يقبلون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي ذلك منافع ومقاصد أخر صالحة . وأما إذا كان الأخذ يفضي إلى طمع فيه حتى يستعان به في معصية أو يمنع من طاعة فتلك مفاسد أخر وهي كثيرة ترجع إلى ذله وفقره لهم فإنهم لا يتمكنون من منعه من طاعة إلا إذا كان ذليلا أو فقيرا إليهم ولا يتمكنون هم من استعماله في المعصية إلا مع ذله أو فقره فإن العطاء يحتاج إلى جزاء ومقابلة فإذا لم تحصل مكافأة دنيوية من مال أو نفع لم يبق إلا ما ينتظر من المنفعة الصادرة منه إليهم . [ ص: 100 ]

وللرد وجوه مكروهة مذمومة منها : الرد مراءاة بالتشبه بمن يريد غنى وعزة ورحمة للناس في دينهم ودنياهم . ومنها التكبر عليهم والاستعلاء حتى يستعبدهم ويستعلي عليهم بذلك فهذا مذموم أيضا . ومنها البخل عليهم فإنه إذا أخذ منهم احتاج أن ينفعهم ويقضي حوائجهم فقد يترك الأخذ بخلا عليهم بالمنافع . ومنها الكسل عن الإحسان إليهم فهذه أربع مقاصد فاسدة في الرد للعطاء : الكبر والرياء والبخل والكسل . فالحاصل أنه قد يترك قبول المال لجلب المنفعة لنفسه أو لدفع المضرة عنها أو لجلب المنفعة للناس أو دفع المضرة عنهم فإن في ترك أخذه غنى نفسه وعزها وهو منفعة لها وسلامة دينه ودنياه مما يترتب على القبول من أنواع المفاسد وفيه نفع الناس بإبقاء أموالهم ودينهم لهم ودفع الضرر المتولد عليهم إذا بذلوا بذلا قد يضرهم وقد يتركه لمضرة الناس أو لترك منفعتهم فهذا مذموم كما تقدم وقد يكون في الترك أيضا مضرة نفسه أو ترك منفعتها إما بأن يكون محتاجا إليه فيضره تركه أو يكون في أخذه وصرفه منفعة له في الدين والدنيا فيتركها من غير معارض مقاوم .

فلهذا فصلنا هذه المسألة فإنها مسألة عظيمة وبإزائها مسألة القبول أيضا وفيها التفصيل لكن الأغلب أن ترك الأخذ كان أجود من القبول ولهذا يعظم الناس هذا الجنس أكثر وإذا صح الأخذ كان أفضل أعني الأخذ والصرف إلى الناس

التالي السابق


الخدمات العلمية