صفحة جزء
[ ص: 129 ] وسئل شيخ الإسلام عن { قوله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل : وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته } " ما معنى تردد الله ؟


فأجاب : هذا حديث شريف قد رواه البخاري من حديث أبي هريرة وهو أشرف حديث روي في صفة الأولياء وقد رد هذا الكلام طائفة وقالوا : إن الله لا يوصف بالتردد وإنما يتردد من لا يعلم عواقب الأمور والله أعلم بالعواقب . وربما قال بعضهم : إن الله يعامل معاملة المتردد .

والتحقيق : أن كلام رسوله حق وليس أحد أعلم بالله من رسوله ولا أنصح للأمة منه ولا أفصح ولا أحسن بيانا منه فإذا كان كذلك كان المتحذلق والمنكر عليه من أضل الناس ; وأجهلهم وأسوئهم أدبا بل يجب تأديبه وتعزيره ويجب أن يصان كلام رسول صلى الله عليه وسلم [ ص: 130 ] عن الظنون الباطلة ; والاعتقادات الفاسدة ولكن المتردد منا وإن كان تردده في الأمر لأجل كونه ما يعلم عاقبة الأمور لا يكون ما وصف الله به نفسه بمنزلة ما يوصف به الواحد منا فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ثم هذا باطل ; فإن الواحد منا يتردد تارة لعدم العلم بالعواقب وتارة لما في الفعلين من المصالح والمفاسد فيريد الفعل لما فيه من المصلحة ويكرهه لما فيه من المفسدة لا لجهله منه بالشيء الواحد الذي يحب من وجه ويكره من وجه كما قيل :

الشيب كره وكره أن أفارقه فاعجب لشيء على البغضاء محبوب

وهذا مثل إرادة المريض لدوائه الكريه بل جميع ما يريده العبد من الأعمال الصالحة التي تكرهها النفس هو من هذا الباب وفي الصحيح { حفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره } وقال تعالى : { كتب عليكم القتال وهو كره لكم } الآية .

ومن هذا الباب يظهر معنى التردد المذكور في هذا الحديث فإنه قال : { لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه } . فإن العبد الذي هذا حاله صار محبوبا للحق محبا له يتقرب إليه أولا بالفرائض وهو [ ص: 131 ] يحبها ثم اجتهد في النوافل التي يحبها ويحب فاعلها فأتى بكل ما يقدر عليه من محبوب الحق ; فأحبه الحق لفعل محبوبه من الجانبين بقصد اتفاق الإرادة بحيث يحب ما يحبه محبوبه ويكره ما يكرهه محبوبه والرب يكره أن يسوء عبده ومحبوبه فلزم من هذا أن يكره الموت ليزداد من محاب محبوبه . والله سبحانه وتعالى قد قضى بالموت فكل ما قضى به فهو يريده ولا بد منه فالرب مريد لموته لما سبق به قضاؤه وهو مع ذلك كاره لمساءة عبده ; وهي المساءة التي تحصل له بالموت فصار الموت مرادا للحق من وجه مكروها له من وجه وهذا حقيقة التردد وهو : أن يكون الشيء الواحد مرادا من وجه مكروها من وجه وإن كان لا بد من ترجح أحد الجانبين كما ترجح إرادة الموت ; لكن مع وجود كراهة مساءة عبده وليس إرادته لموت المؤمن الذي يحبه ويكره مساءته كإرادته لموت الكافر الذي يبغضه ويريد مساءته .

ثم قال بعد كلام سبق ذكره : ومن هذا الباب ما يقع في الوجود من الكفر والفسوق والعصيان ; فإن الله تعالى يبغض ذلك ويسخطه ويكرهه وينهى عنه وهو سبحانه قد قدره وقضاه وشاءه بإرادته الكونية وإن لم يرده بإرادة دينية هذا هو فصل الخطاب فيما تنازع فيه الناس : من أنه سبحانه هل يأمر بما لا يريده .

[ ص: 132 ] فالمشهور عند متكلمة أهل الإثبات ومن وافقهم من الفقهاء أنه يأمر بما لا يريده وقالت القدرية والمعتزلة وغيرهم : إنه لا يأمر إلا بما يريده .

والتحقيق : أن الإرادة في كتاب الله نوعان : إرادة دينية شرعية وإرادة كونية قدرية : فالأول كقوله تعالى : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } وقوله تعالى { ولكن يريد ليطهركم } وقوله تعالى { يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم } إلى قوله : { والله يريد أن يتوب عليكم } فإن الإرادة هنا بمعنى المحبة والرضى وهي الإرادة الدينية . وإليه الإشارة بقوله : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } .

وأما الإرادة الكونية القدرية فمثل قوله تعالى { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء } ومثل قول المسلمين : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن . فجميع الكائنات داخلة في هذه الإرادة والمشيئة لا يخرج عنها خير ولا شر ولا عرف ولا نكر وهذه الإرادة والمشيئة تتناول ما لا يتناوله الأمر الشرعي وأما الإرادة الدينية فهي مطابقة للأمر الشرعي لا يختلفان وهذا التقسيم الوارد في اسم الإرادة يرد مثله في اسم الأمر والكلمات ; والحكم والقضاء والكتاب والبعث [ ص: 133 ] والإرسال ونحوه ; فإن هذا كله ينقسم إلى كوني قدري وإلى ديني شرعي .

والكلمات الكونية هي : التي لا يخرج عنها بر ولا فاجر وهي التي استعان بها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر } قال الله تعالى : { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } .

وأما الدينية فهي : الكتب المنزلة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم { من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله } وقال تعالى : { وصدقت بكلمات ربها وكتبه } .

وكذلك الأمر الديني كقوله تعالى : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } والكونية : { إنما أمره إذا أراد شيئا } .

والبعث الديني كقوله تعالى : { هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم } والبعث الكوني : { بعثنا عليكم عبادا لنا } والإرسال الديني كقوله : { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق } .

والكوني : { ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا } .

[ ص: 134 ] وهذا مبسوط في غير هذا الموضع . فما يقع في الوجود من المنكرات هي مرادة لله إرادة كونية داخلة في كلماته التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر وهو سبحانه مع ذلك لم يردها إرادة دينية ولا هي موافقة لكلماته الدينية ولا يرضى لعباده الكفر ولا يأمر بالفحشاء فصارت له من وجه مكروهة . ولكن هذه ليست بمنزلة قبض المؤمن فإن ذلك يكرهه ; والكراهة مساءة المؤمن وهو يريده لما سبق في قضائه له بالموت فلا بد منه وإرادته لعبده المؤمن خير له ورحمة به ; فإنه قد ثبت في الصحيح : { أن الله تعالى لا يقضي للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له } .

وأما المنكرات فإنه يبغضها ويكرهها ; فليس لها عاقبة محمودة من هذه الجهة إلا أن يتوبوا منها فيرحموا بالتوبة وإن كانت التوبة لا بد أن تكون مسبوقة بمعصية ; ولهذا يجاب عن قضاء المعاصي على المؤمن بجوابين : أحدهما : أن هذا الحديث لم يتناولها وإنما تناول المصائب . والثاني : أنه إذا تاب منها كان ما تعقبه التوبة [ خيرا ] فإن التوبة حسنة وهي من أحب الحسنات إلى الله والله يفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه أشد ما يمكن أن يكون من الفرح وأما المعاصي التي لا يتابا منها فهي شر . على صاحبها والله سبحانه قدر كل شيء وقضاه ; لما له في ذلك من [ ص: 135 ] الحكمة كما قال : { صنع الله الذي أتقن كل شيء } وقال تعالى : { الذي أحسن كل شيء خلقه } فما من مخلوق إلا ولله فيه حكمة .

ولكن هذا بحر واسع قد بسطناه في مواضع والمقصود هنا : التنبيه على أن الشيء . المعين يكون محبوبا من وجه مكروها من وجه وأن هذا حقيقة التردد وكما أن هذا في الأفعال فهو في الأشخاص . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية