صفحة جزء
[ ص: 340 ] سئل عن هذه الأحاديث : { من طاف بهذا البيت أسبوعا إيمانا واحتسابا غفر له ما قد سلف } وقوله صلى الله عليه وسلم { من وقف بعرفات وظن أن الله لا يغفر له لا غفر الله له } وأيضا : { لو مر بعرفات راعي غنم - ولم يعلم أنه يوم عرفة - غفر له } وقوله عليه السلام { من حج ولم يزرني فقد جفاني ومن زارني فقد وجبت له شفاعتي } هل هذه الأحاديث في الصحيح أم لا ؟ وما معنى قوله عز وجل : { مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا } ؟ .


فأجاب : الحمد لله رب العالمين . ليس في هذه الأحاديث حديث - لا في الصحيح ولا في السنن وفيها ما معناه مخالف للكتاب والسنة فإنه لو وقف الرجل بعرفات خائفا من الله أن لا يغفر له ذنوبه ; لكونها كبائر لم يقل : إن الله لا يغفر له فإن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فما دون الشرك إن شاء الله غفره لصاحبه وإن شاء لم يغفره لكن إذا تاب العبد من الذنب غفره الله له شركا كان أو غير شرك . كما قال تعالى : { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا } فهذا في حق التائب .

وأيضا فالواقف بعرفات لا يسقط عنه ما وجب عليه من صلاة وزكاة بإجماع المسلمين بل هم متفقون على أن الصلاة أوكد من الحج بما لا نسبة بينهما . فإن الحج يجب مرة في العمر على المستطيع والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحج بعد الهجرة إلا حجة واحدة وأما الصلاة فإنها فرض على كل عاقل بالغ - إلا الحائض والنفساء - سواء كان صحيحا أو مريضا آمنا أو خائفا غنيا أو فقيرا رجلا أو امرأة في اليوم والليلة نحو أربعين ركعة سبعة عشر فريضة والسنن الرواتب عشر ركعات أو اثنتا عشرة ركعة وقيام الليل أحد عشر ركعة أو ثلاث عشرة ركعة وكذلك حقوق العباد من الذنوب والمظالم وغيرها لا تسقط بالحج باتفاق الأئمة .

والحديث الذي يروى في سقوط المظالم وغيرها بذلك في حديث عباس بن مرداس حديث ضعيف . وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر } فهذه الأمور التي هي أعظم من الحج ولكن الكبائر تكفرها التوبة منها بالكتاب والسنة وإجماع الأمة .

[ ص: 342 ] وكذلك قوله : { من حج ولم يزرني فقد جفاني } كذب فإن جفاء النبي صلى الله عليه وسلم حرام وزيارة قبره ليست واجبة باتفاق المسلمين ولم يثبت عنه حديث في زيارة قبره بل هذه الأحاديث التي تروى - من زارني وزار أبي في عام واحد ضمنت له على الله الجنة - وأمثال ذلك كذب باتفاق العلماء .

وقد روى الدارقطني وغيره في زيارة قبره أحاديث وهي ضعيفة .

وقد كره الإمام مالك - وهو من أعلم الناس بحقوق رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالسنة التي عليها أهل مدينته من الصحابة والتابعين وتابعيهم - كره أن يقال : زرت قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان هذا اللفظ ثابتا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم معروفا عند علماء المدينة لم يكره مالك ذلك .

وأما إذا قال سلمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا لا يكره بالاتفاق كما في السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام } وكان ابن عمر يقول : السلام عليك يا رسول الله ; السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبت . وفي سنن أبي داود عنه أنه قال : { أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي قالوا وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت قال : إن الله حرم على [ ص: 343 ] الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء } .

وأما قوله تعالى { ومن دخله كان آمنا } فهذا من باب البيت . كما قال تعالى : { أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم } وقال تعالى : { فليعبدوا رب هذا البيت } { الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف } وقال تعالى : { أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء } فكانوا في الجاهلية يقتل بعضهم بعضا خارج الحرم فإذا دخلوا الحرم أو لقي الرجل قاتل أبيه لم يهجه وكان هذا من الآيات التي جعلها الله فيه كما قال : { فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا } والإسلام زاد حرمته .

فمذهب أكثر الفقهاء أن من أصاب حدا خارج الحرم ثم لجأ إلى الحرم لم يقم عليه الحد حتى يخرج منه كما قال ابن عمر وابن عباس . وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد وغيرهما ; لما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرا وأنها لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس } .

[ ص: 344 ] ومن ظن أن من دخل الحرم كان آمنا من عذاب الآخرة مع ترك الفرائض من الصلاة وغيرها ومع ارتكاب المحارم فقد خالف إجماع المسلمين فقد دخل البيت من الكفار والمنافقين والفاسقين من هو من أهل النار بإجماع المسلمين . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية