صفحة جزء
وأما ما يفعله من يريد التقرب إلى الله من واجب ومستحب فكلهم يأخذه عن الكتاب والسنة ; فإن القرآن والحديث مملوء من هذا ; وإن تكلم أحدهم في ذلك بكلام لم يسنده هو يكون هو أو معناه مسندا عن الله ورسوله وقد ينطق أحدهم بالكلمة من الحكمة فتجدها مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا كما قيل في تفسير قوله : { نور على نور } ولكن كثير من أهل العبادة والزهادة أعرض عن طلب العلم النبوي الذي يعرف به طريق الله ورسوله فاحتاج لذلك إلى تقليد شيخ .

[ ص: 274 ] وفي السلوك مسائل تنازع فيها الشيوخ لكن يوجد في الكتاب والسنة من النصوص الدالة على الصواب في ذلك ما يفهمه غالب السالكين فمسائل السلوك من جنس مسائل العقائد كلها منصوصة في الكتاب والسنة وإنما اختلفأهل الكلام لما أعرضوا عن الكتاب والسنة فلما دخلوا في البدع وقع الاختلاف وهكذا طريق العبادة عامة ما يقع فيه من الاختلاف إنما هو بسبب الإعراض عن الطريق المشروع فيقعون في البدع فيقع فيهم الخلاف .

وهكذا الفقه إنما وقع فيه الاختلاف لما خفي عليهم بيان صاحب الشرع ولكن هذا إنما يقع النزاع في الدقيق منه وأما الجليل فلا يتنازعون فيه . والصحابة أنفسهم تنازعوا في بعض ذلك ولم يتنازعوا في العقائد ولا في الطريق إلى الله التي يصير بها الرجل من أولياء الله الأبرار المقربين ; ولهذا كان عامة المشايخ إذا احتاجوا في مسائل الشرع مثل مسائل النكاح والفرائض والطهارة وسجود السهو ونحو ذلك قلدوا الفقهاء ; لصعوبة أخذ ذلك عليهم من النصوص . وأما مسائل التوكل والإخلاص والزهد ونحو ذلك فهم يجتهدون فيها فمن كان منهم متبعا للرسول أصاب ومن خالفه أخطأ .

ولا ريب أن البدع كثرت في باب العبادة والإرادة أعظم مما كثرت في باب الاعتقاد والقول ; لأن الإرادة يشترك الناس فيها أكثر مما [ ص: 275 ] يشتركون في القول ; فإن القول لا يكون إلا بعقل والنطق من خصائص الإنسان . وأما جنس الإرادة فهو مما يتصف به كل الحيوان فما من حيوان إلا وله إرادة وهؤلاء اشتركوا في إرادة التأله ; لكن افترقوا في المعبود وفي عبادته ; ولهذا وصف الله في القرآن رهبانية النصارى بأنهم ابتدعوها وذم المشركين في القرآن على ما ابتدعوه من العبادات والتحريمات وذلك أكثر مما ابتدعوه من الاعتقادات ; فإن الاعتقادات كانوا فيها جهالا في الغالب فكانت بدعهم فيها أقل ; ولهذا كلما قرب الناس من الرسول كانت بدعهم أخف فكانت في الأقوال ولم يكن في التابعين وتابعيهم من تعبد بالرقص والسماع كما كان فيهم خوارج ومعتزلة وشيعة وكان فيهم من يكذب بالقدر ولم يكن فيهم من يحتج بالقدر .

فالبدع الكثيرة التي حصلت في المتأخرين من العباد والزهاد والفقراء والصوفية لم يكن عامتها في زمن التابعين وتابعيهم بخلاف أقوال أهل البدع القولية فإنها ظهرت في عصر الصحابة والتابعين فعلم أن الشبهة فيها أقوى وأهلها أعقل وأما بدع هؤلاء فأهلها أجهل وهم أبعد عن متابعة الرسول .

ولهذا يوجد في هؤلاء من يدعي الإلهية والحلول والاتحاد ومن يدعي أنه أفضل من الرسول وأنه مستغن عن الرسول وأن [ ص: 276 ] لهم إلى الله طريقا غير طريق الرسول وهذا ليس من جنس بدع المسلمين بل من جنس بدع الملاحدة من المتفلسفة ونحوهم وأولئك قد عرف الناس أنهم ليسوا مسلمين وهؤلاء يدعون أنهم أولياء الله مع هذه الأقوال التي لا يقولها إلا من هو أكفر من اليهود والنصارى . وكثير منهم أو أكثرهم لا يعرف أن ذلك مخالفة للرسول بل عند طائفة منهم أن أهل الصفة قاتلوا الرسول وأقرهم على ذلك وعند آخرين أن الرسول أمر أن يذهب ليسلم عليهم ويطلب الدعاء منهم وأنهم لم يأذنوا له وقالوا : اذهب إلى من أرسلت إليهم وأنه رجع إلى ربه فأمره أن يتواضع ويقول : خويدمكم جاء ليسلم عليكم فجبروا قلبه وأذنوا له بالدخول .

فمع اعتقادهم هذا الكفر العظيم الذي لا يعتقده يهودي ولا نصراني يقر بأنه رسول الله إلى الأميين يقولون : إن الرسول أقرهم على ذلك واعترف به واعترف أنهم خواص الله وأن الله يخاطبهم بدون الرسول لم يحوجهم إليه كبعض خواص الملك مع وزرائه ويحتجون بقصة الخضر مع موسى وهي حجة عليهم لا لهم من وجوه كثيرة قد بسطت في موضع آخر .

والضلال والجهل في جنس العباد والمبتدعة أكثر منه في جنس أهل الأقوال لكن فيهم من الزهد والعبادة والأخلاق ما لا يوجد في [ ص: 277 ] أولئك وفي أولئك من الكبر والبخل والقسوة ما ليس فيهم فهؤلاء فيهم شبه من النصارى وهؤلاء فيهم شبه من اليهود والله تعالى أمرنا أن نقول : { اهدنا الصراط المستقيم } { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } ولهذا آل الأمر بكثير من أكابر مشايخهم إلى أنهم شهدوا توحيد الربوبية والإيمان بالقدر وذلك شامل لجميع الكائنات فعدوا الفناء في هذا بزوال الفرق بين الحسنات والسيئات غاية المقامات وليس بعده إلا ما سموه توحيدا وهو من جنس الحلول والاتحاد الذي تقوله النصارى ولكنهم يهابون الإفصاح عن ذلك ويجعلونه من الأسرار المكتومة .

ومنه من يقول : إن الحلاج هذا كان مشهده وإنما قتل لأنه باح بالسر الذي ما ينبغي البوح به . وإذا انضم إلى ذلك أن يكون أحدهم قد أخذ عمن يتكلم في إثبات القدر من أهل الكلام أو غيرهم ; ويجعل الجميع صادرا عن إرادة واحدة وليس هنا حب ولا بغض ولا رضا ولا سخط ولا فرح ; ولكن المرادات متنوعة فما كان ثوابا سمي تعلق الإرادة به رضا وما كان عقابا سمي سخطا فحينئذ مع هذا المشهد لا يبقى عنده تمييز ويسمون هذا : الجمع والاصطلام .

وكان الجنيد - قدس الله روحه - لما وصل أصحابه كالثوري [ ص: 278 ] وأمثاله إلى هذا المقام أمرهم بالفرق الثاني وهو : أن يفرقوا بين المأمور والمحظور ; ومحبوب الله ومرضيه ; ومسخوطه ومكروهه ; وهو مشهد الإلهية الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب وهو حقيقة قول : لا إله إلا الله . فمنهم من أنكر على الجنيد ومنهم من توقف ومنهم من وافق والصواب ما قاله الجنيد من ذكر هذه الكلمة في الفرق بين المأمور والمحظور والكلمة الأخرى في الفرق بين الرب والعبد وهو قوله : التوحيد إفراد الحدوث عن القدم . فهذا رد على الاتحادية والحلولية منهم وتلك رد على من يقف عند الحقيقة الكونية منهم وما أكثر من ابتلي بهذين منهم .

ثم من الناس من يقوم بهذا الفرق لكن لنفسه وهواه لا عبادة وطاعة لله فهذا مثل من يجاهد ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لهواه كالمقاتل شجاعة وحمية ورياء وذاك بمنزلة من لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر ولا يجاهد هذا شبيه بالراهب وذاك شبيه بمن لم يطلب إلا الدنيا ذاك مبتدع وهذا فاجر .

وقد كثر في المتزهدة والمتفقرة البدع وفي المعرضين عن ذلك طلب الدنيا وطلاب الدنيا لا يعارضون تاركها إلا لأغراضهم وإن كانوا مبتدعة وأولئك لا يعارضون أبناء الدنيا إلا لأغراضهم فتبقى المنازعات للدنيا [ ص: 279 ] لا لتكون كلمة الله هي العليا ولا ليكون الدين لله بخلاف طريقة السلف رضي الله عنهم أجمعين وكلاهما خارج عن الصراط المستقيم .

نسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا آخره والحمد لله رب العالمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية