صفحة جزء
وفي تعظيم الورع وأهله والزهد وذويه ما يضيق هذا الموضع عن ذكره .

وإنما ذلك عائد إلى ترك المحرمات والمكروهات وفضول المباحات وهي بقسم المنهي عنه أشبه منها بقسم المأمور به والناس يذكرون من فضائل أهل هذا الورع ومناقبهم ما لا يذكرون عن غيرهم .

[ ص: 132 ] فنقول : هذا السؤال مؤلف من شيئين : جهل بحقيقة التقوى والورع والزهد ; وجهل بجهة حمد ذلك .

فنقول أولا : ومن الذي قال : إن التقوى مجرد ترك السيئات ؟ بل التقوى - كما فسرهما الأولون والآخرون - : فعل ما أمرت به وترك ما نهيت عنه كما قال طلق بن حبيب لما وقعت الفتنة : اتقوها بالتقوى قالوا : وما التقوى ؟ قال : أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عذاب الله .

وقد قال الله تعالى في أكبر سورة في القرآن : { الم } { ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين } { الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون } إلى آخرها فوصف المتقين بفعل المأمور به : من الإيمان والعمل الصالح من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وقال : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون } .

وقال : { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون } وهذه الآية عظيمة جليلة القدر من أعظم آي القرآن وأجمعه لأمر الدين وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن خصال الإيمان فنزلت وفي الترمذي عن فاطمة بنت قيس { عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن في المال حقا سوى الزكاة وقرأ هذه الآية } " وقد دلت على أمور : أحدها : أنه أخبر أن الفاعلين لهذه الأمور هم المتقون وعامة هذه الأمور فعل مأمور به .

والثاني : أنه أخبر أن هذه الأمور هي البر وأهلها هم الصادقون يعني في قوله : ( آمنا وعامتها أمور وجودية هي أفعال مأمور بها فعلم أن المأمور به أدخل في البر والتقوى والإيمان من عدم المنهي عنه . وبهذه الأسماء الثلاثة استحقت الجنة كما قال تعالى : { إن الأبرار لفي نعيم } { وإن الفجار لفي جحيم } وقال : { أم نجعل المتقين كالفجار } { إن المتقين في جنات ونهر } وقال : { أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون } وهذه الخصال المذكورة في الآية قد دلت على وجوبها ; لأنه [ ص: 134 ] أخبر أن أهلها هم الذين صدقوا في قولهم : وهم المتقون والصدق واجب والإيمان واجب إيجاب حقوق سوى الزكاة وقوله : { فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا } وقوله لبني إسرائيل : { لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا } . وقوله : { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } وقوله : { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم } وقوله : { وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل } في " سبحان " " والروم " فإتيان ذي القربى حقه صلة الرحم والمسكين إطعام الجائع وابن السبيل قرى الضيف وفي الرقاب فكاك العاني واليتيم نوع من إطعام الفقير .

وفي البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم " { عودوا المريض وأطعموا الجائع وفكوا العاني } " وفي الحديث الذي أفتى به أحمد : " { لو صدق السائل [ ما ] أفلح من رده } " .

وأيضا فالرسول مثل نوح وهود وصالح وشعيب فاتحة دعواهم في هود : { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } وفي الشعراء : [ ص: 135 ] { ألا تتقون } { فاتقوا الله وأطيعون } وقال تعالى : { ولكن البر من اتقى } وقال تعالى : { بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين } وقال تعالى : { فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين } وقال : { فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين } .

فقد بين أن الوفاء بالعهود من التقوى التي يحبها الله والوفاء بالعهود هو جملة المأمور به فإن الواجب إما بالشرع أو بالشرط وكل ذلك فعل مأمور به . وذلك وفاء بعهد الله وعهد العبيد ; وذلك أن التقوى إما تقوى الله : وإما تقوى عذابه كما قال : { فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة } { واتقوا النار التي أعدت للكافرين } فالتقوى اتقاء المحذور بفعل المأمور به وبترك المنهي عنه وهو بالأول أكثر وإنما سمي ذلك تقوى لأن ترك المأمور به وفعل المنهي عنه سبب الأمن من ذم الله وسخط الله وعذاب الله فالباعث عليه خوف الإثم بخلاف ما فيه منفعة وليس في تركه مضرة فإن هذا هو المستحب الذي له أن يفعله وله أن لا يفعله فذكر ذلك باسم التقوى ليبين وجوب ذلك وأن صاحبه متعرض للعذاب بترك التقوى .

ونقول ثانيا : إنه حيث عبر بالتقوى عن ترك المنهي أن قيل ذلك كما في قوله : { وتعاونوا على البر والتقوى } قال بعض السلف : البر ما أمرت به ; والتقوى ما نهيت عنه . فلا يكون ذلك إلا مقرونا [ ص: 136 ] بفعل المأمور به كما ذكر معها البر وكما في قول نوح : { أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون } وذلك لأن هذه التقوى مستلزمة لفعل المأمور به .

ونقول ثالثا : إن أكثر بني آدم قد يفعل بعض المأمور به ولا يترك المنهي عنه إلا الصديقون كما قال سهل ; لأن المأمور به له مقتضى في النفس وأما ترك المنهي عنه إلى خلاف الهوى ومجاهدة النفس فهو أصعب وأشق فقل أهله ولا يمكن أحدا أن يفعله إلا مع فعل المأمور به لا تتصور تقوى وهي فعل [ و ] ترك قط ; فإن من ترك الشرك واتباع الهوى المضل واتباع الشهوات المحرمات فلا بد أن يفعل من المأمور به أمورا كثيرة تصده عن ذلك فتقواهم تحفظ لهم حسناتهم التي أمروا بها وتمنعهم من السيئات التي تضرهم بخلاف من فعل ما أمر به وما نهي عنه مثلا ; فإن وجود المنهي عنه يفسد عليه من المأمور به ما يفسد فلا يسلم له ; ولهذا كانت العاقبة للتقوى كما قال تعالى : { والعاقبة للتقوى } { والعاقبة للمتقين } { وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا } .

وذلك لأن المتقين بمنزلة من أكل الطعام النافع واتقى الأطعمة المؤذية فصح جسمه وكانت عاقبته سليمة . وغير المتقي بمنزلة من خلط من الأطعمة ; فإنه وإن اغتذى بها لكن تلك التخاليط قد تورثه [ ص: 137 ] أمراضا إما مؤذية ; وإما مهلكة . ومع هذا فلا يقول عاقل إن حاجته وانتفاعه بترك المضر من الأغذية أكثر من حاجته وانتفاعه بالأغذية النافعة بل حاجته وانتفاعه بالأغذية التي تناولها أعظم من انتفاعه بما تركه منها بحيث لو لم يتناول غذاء قط لهلك قطعا وأما إذا تناول النافع والضار فقد يرجى له السلامة ; وقد يخاف عليه العطب وإذا تناول النافع دون الضار حصلت له الصحة والسلامة .

فالأول نظير من ترك المأمور به والثاني نظير من فعل المأمور به والمنهي عنه وهو المخلط الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا . والثالث نظير المتقي الذي فعل ما أمر به واجتنب ما نهي عنه فعظم أمر التقوى لتضمنها السلامة مع الكرامة لا لأجل السلامة فقط ; فإنه ليس في الآخرة دار إلا الجنة أو النار فمن سلم من النار دخل الجنة ومن لم ينعم عذب فليس في الآدميين من يسلم من العذاب والنعيم جميعا . فتدبر هذا فكل [ خصلة ] قد أمر [ الله بها ] أو أثنى عليها ففيها فعل المأمور به ولا بد : تضمنا أو استلزاما وحمدها لنيل الخير عن الشر والثواب عن العقاب .

وكذلك الورع المشروع والزهد المشروع من نوع التقوى الشرعية ولكن قد غلط بعض الناس في ذلك فأما الورع المشروع المستحب الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم فهو : اتقاء من يخاف [ ص: 138 ] أن يكون سببا للذم والعذاب عند عدم المعارض الراجح . ويدخل في ذلك أداء الواجبات والمشتبهات التي تشبه الواجب وترك المحرمات والمشتبهات التي تشبه الحرام وإن أدخلت فيها المكروهات قلت : نخاف أن يكون سببا للنقص والعذاب .

وأما الورع الواجب فهو اتقاء ما يكون سببا للذم والعذاب وهو فعل الواجب وترك المحرم والفرق بينهما فيما اشتبه أمن الواجب هو أم ليس منه ؟ وما اشتبه تحريمه أمن المحرم أم ليس منه ; فأما ما لا ريب في حله فليس تركه من الورع وما لا ريب في سقوطه فليس فعله من الورع . وقولي عند عدم المعارض الراجح فإنه قد لا يترك الحرام البين أو المشتبه إلا عند ترك ما هو حسنة موقعها في الشريعة أعظم من ترك تلك السيئة مثل من يترك الائتمام بالإمام الفاسق فيترك الجمعة والجماعة والحج والغزو وكذلك قد لا يؤدي الواجب البين أو المشتبه إلا بفعل سيئة أعظم إثما من تركه مثل من لا يمكنه أداء الواجبات من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لذوي السلطان إلا بقتال فيه من الفساد أعظم من فساد ظلمه .

والأصل في الورع المشتبه قول النبي صلى الله عليه وسلم " { الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن ترك الشبهات استبرأ عرضه ودينه ومن وقع في الشبهات وقع في [ ص: 139 ] الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه } " وهذا في الصحيحين . وفي السنن قوله : " { دع ما يريبك إلى ما لا يريبك } " وقوله : " { البر ما اطمأنت إليه النفس وسكن إليه القلب } " وقوله في صحيح مسلم في رواية : " { البر حسن الخلق والإثم ما حاك في نفسك وإن أفتاك الناس } " { وإنه رأى على فراشه تمرة فقال : لولا أني أخاف أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها } " .

وأما في الواجبات لكن يقع الغلط في الورع من ثلاث جهات : أحدها : اعتقاد كثير من الناس أنه من باب الترك فلا يرون الورع إلا في ترك الحرام لا في أداء الواجب وهذا يبتلى به كثير من المتدينة المتورعة ترى أحدهم يتورع عن الكلمة الكاذبة وعن الدرهم فيه شبهة ; لكونه من مال ظالم أو معاملة فاسدة ويتورع [ عن ] الركون إلى الظلمة من أجل البدع في الدين وذوي الفجور في الدنيا ومع هذا يترك أمورا واجبة عليه إما عينا وإما كفاية وقد تعينت عليه من صلة رحم ; وحق جار ومسكين ; وصاحب ويتيم وابن سبيل ; وحق مسلم وذي سلطان ; وذي علم . وعن أمر بمعروف [ ص: 140 ] ونهي عن منكر ; وعن الجهاد في سبيل الله ; إلى غير ذلك مما فيه نفع للخلق في دينهم ودنياهم مما وجب عليه أو يفعل ذلك لا على وجه العبادة لله تعالى بل من جهة التكليف ونحو ذلك .

وهذا الورع قد يوقع صاحبه في البدع الكبار ; فإن ورع الخوارج والروافض والمعتزلة ونحوهم من هذا الجنس تورعوا عن الظلم وعن ما اعتقدوه ظلما من مخالطة الظلمة في زعمهم حتى تركوا الواجبات الكبار من الجمعة والجماعة ; والحج والجهاد ; ونصيحة المسلمين والرحمة لهم وأهل هذا الورع ممن أنكر عليهم الأئمة كالأئمة الأربعة وصار حالهم يذكر في اعتقاد أهل السنة والجماعة .

الجهة الثانية من الاعتقاد الفاسد أنه إذا فعل الواجب والمشتبه وترك المحرم والمشتبه فينبغي أن يكون اعتقاد الوجوب والتحريم بأدلة الكتاب والسنة وبالعلم لا بالهوى وإلا فكثير من الناس تنفر نفسه عن أشياء لعادة ونحوها فيكون ذلك مما يقوي تحريمها واشتباهها عنده ويكون بعضهم في أوهام وظنون كاذبة فتكون تلك الظنون مبناها على الورع الفاسد فيكون صاحبه ممن قال الله تعالى فيه : { إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس } وهذه حال أهل الوسوسة في النجاسات ; فإنهم من أهل الورع الفاسد المركب من نوع دين وضعف عقل وعلم وكذلك ورع قوم يعدون غالب أموال الناس محرمة [ ص: 141 ] أو مشتبهة أو كلها وآل الأمر ببعضهم إلى إحلالها لذي سلطان ; لأنه مستحق لها وإلى أنه لا يقطع بها يد السارق ولا يحكم فيها بالأموال المغصوبة .

وقد أنكر حال هؤلاء الأئمة كأحمد بن حنبل وغيره وذم المتنطعين في الورع . وقد روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود قال : { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هلك المتنطعون قالها ثلاثا } .

وورع أهل البدع كثير منه من هذا الباب . بل ورع اليهود والنصارى والكفار عن واجبات دين الإسلام من هذا الباب وكذلك ما ذمه الله تعالى في القرآن من ورعهم عما حرموه ولم يحرمه الله تعالى كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام .

ومن هذا الباب الورع الذي ذمه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في الصحيح لما ترخص في أشياء فبلغه أن أقواما تنزهوا عنها فقال : " { ما بال رجال يتنزهون عن أشياء أترخص فيها والله إني لأرجو أن أكون أعلمهم بالله وأخشاهم وفي رواية : أخشاهم وأعلمهم بحدوده له } " وكذلك حديث صاحب القبلة .

ولهذا يحتاج المتدين المتورع إلى علم كثير بالكتاب والسنة والفقه [ ص: 142 ] في الدين وإلا فقد يفسد تورعه الفاسد أكثر مما يصلحه كما فعله الكفار وأهل البدع من الخوارج والروافض وغيرهم .

الثالثة : جهة المعارض الراجح . هذا أصعب من الذي قبله ; فإن الشيء قد يكون جهة فساده يقتضي تركه فيلحظه المتورع ; ولا لحظ ما يعارضه من الصلاح الراجح ; وبالعكس فهذا هذا . وقد تبين أن من جعل الورع الترك فقط ; وأدخل في هذا الورع أفعال قوم ذوي مقاصد صالحة بلا بصيرة من دينهم وأعرض عما فوتوه بورعهم من الحسنات الراجحة فإن الذي فاته من دين الإسلام أعظم مما أدركه فإنه قد يعيب أقواما هم إلى النجاة والسعادة أقرب .

وهذه القاعدة منفعتها لهذا الضرب وأمثاله كثيرة ; فإنه ينتفع بها أهل الورع الناقص أو الفاسد وكذلك أهل الزهد الناقص أو الفاسد فإن الزهد المشروع الذي به أمر الله ورسوله هو عدم الرغبة فيما لا ينفع من فضول المباح فترك فضول المباح الذي لا ينفع في الدين زهد وليس بورع ولا ريب أن الحرص والرغبة في الحياة الدنيا وفي الدار الدنيا من المال والسلطان مضر كما روى الترمذي عن كعب بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " { ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه } " قال الترمذي حديث حسن صحيح . فذم النبي صلى الله عليه وسلم الحرص [ ص: 143 ] على المال والشرف وهو الرياسة والسلطان وأخبر أن ذلك يفسد الدين مثل أو فوق إفساد الذئبين الجائعين لزريبة الغنم .

وهذا دليل على أن هذا الحرص إنما ذم لأنه يفسد الدين الذي هو الإيمان والعمل الصالح فكان ترك هذا الحرص لصالح العمل وهذان هما المذكوران في قوله تعالى { ما أغنى عني ماليه } { هلك عني سلطانيه } وهما اللذان : ذكرهما الله في سورة القصص حيث افتتحها بأمر فرعون وذكر علوه في الأرض وهو الرياسة والشرف والسلطان ثم ذكر في آخرها قارون وما أوتيه من الأموال وذكر عاقبة سلطان هذا وعاقبة مال هذا ثم قال : { تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا } كحال فرعون وقارون ; فإن جمع الأموال من غير إنفاقها في مواضعها المأمور بها وأخذها من غير وجهها هو من نوع الفساد .

وكذلك الإنسان إذا اختار السلطان لنفسه بغير العدل والحق لا يحصل إلا بفساد وظلم وأما نفس وجود السلطان والمال الذي يبتغى به وجه الله والقيام بالحق والدار الآخرة ويستعان به على طاعة الله ولا يفتر القلب عن محبة الله ورسوله والجهاد في سبيله كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر ولا يصده عن ذكر الله فهذا من أكبر نعم الله تعالى على عبده إذا كان كذلك . ولكن قل أن [ ص: 144 ] تجد ذا سلطان أو مال إلا وهو مبطئ مثبط عن طاعة الله ومحبته متبع هواه فيما آتاه الله وفيه نكول حال الحرب والقتال في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فبهذه الخصال يكتسب المهانة والذم دنيا وأخرى .

وقد قال تعالى لنبيه وأصحابه : { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون } فأخبر أنهم هم الأعلون وهم مع ذلك لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا وقال تعالى : { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم } { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } وقال : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما } فالشرف والمال لا يحمد مطلقا ولا يذم مطلقا بل يحمد منه ما أعان على طاعة الله وقد يكون ذلك واجبا وهو ما لا بد منه في فعل الواجبات . وقد يكون مستحبا . وإنما يحمد إذا كان بهذه النية . ويذم ما استعين به على معصية الله أو صد عن الواجبات فهذا محرم .

وينتقص منه ما شغل عن المستحبات وأوقع في المكروهات . والله أعلم كما جاء في الحديث " { من طلب هذا المال استغناء عن الناس واستعفافا عن المسألة : وعودا على جاره الضعيف والأرملة والمسكين : لقي الله تعالى ووجهه كالقمر ليلة البدر ومن طلبه مرائيا مفاخرا [ ص: 145 ] مكاثرا لقي الله وهو عليه غضبان } " وقال : " { التاجر الأمين الصدوق مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين } " وقال : " { نعم المال الصالح للرجل الصالح } " .

واعلم أن الورع لا ينفع صاحبه فيكون له ثواب إلا بفعل المأمور به من الإخلاص أما في الورع بفعل المأمور به فظاهر ; فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه وأما بترك المنهي عنه الذي يسميه بعض الناس ورعا فإنه إذا ترك السيئات لغير وجه الله لم يثب عليها ; وإن لم يعاقب عليها . وإن تركها لوجه الله أثيب عليها ولا يكون ذلك إلا بما يقوم بقلبه من رجاء رحمة الله أو خشية عذابه . ورجاء رحمته وخشية عذابه من الأمور الوجودية المأمور بها فتبين أن الورع لا يكون عملا صالحا إلا بفعل المأمور به من الرجاء والخشية وإلا فمجرد الترك العدمي لا ثواب فيه .

وأما الزهد الذي هو ضد الرغبة فإنما يحمد حمدا مطلقا وتذم الرغبة لترك العمل للآخرة قال تعالى : { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون } { أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار } وقال : { من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب } وقال : { من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا } فمن لم يرد الدار الآخرة قولا وعملا وإيثارا ومحبة ورغبة وإنابة فلا خلاق له في الآخرة ولا فائدة له في الدار الدنيا بل هو كافر ملعون ; مشتت معذب لكن قد ينتفع بزهده في الدنيا بنوع من الراحة العاجلة وهو زهد غير مشروع وقد يستضر بما يفوته من لذات الدنيا وإن كان غير زاهد فلا راحة له في هذا .

فمن زهد لطلب راحة الدنيا أو رغب لطلب لذاتها لم يكن واحد منهما في عمل صالح ولا هو محمود في الشرع على ذلك ولكن قد يترجح هذا تارة وهذا تارة في مصلحة الدنيا كما تترجح صناعة على صناعة وتجارة على تجارة وذلك أن لذات الدنيا لا تنال غالبا إلا بنوع من التعب فقد تترجح تارة لذة الترك على تعب الطلب وقد يترجح تعب الطلب على لذة الترك فلا حمد على ترك الدنيا لغير عمل الآخرة كما لا حمد لطلبها لغير عمل الآخرة .

فثبت أن مجرد الزهد في الدنيا لا حمد فيه كما لا حمد على الرغبة فيها وإنما الحمد على إرادة الله والدار الآخرة والذم على إرادة الدنيا المانعة من إرادة ذلك كما تقدم وكما في قوله تعالى { إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا } { وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما } ولهذا جرت عادة أهل المعرفة بتسمية هذا : الطالب المريد ; [ ص: 147 ] فإن أول الخير إرادة الله ورسوله والدار الآخرة ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم " { إنما الأعمال بالنيات } " فثبت أن الزهد الواجب هو ترك ما ينفع عن الواجب من إرادة الله والدار الآخرة والزهد المستحب هو ما يشغل عن المستحب من أعمال المقربين والصديقين .

فظهر بذلك أن المطلوب بالزهد فعل المأمور به من ثلاثة أوجه : أحدها : أنه لولا كون الدنيا تشغل عن عبادة الله والدار الآخرة لم يشرع الزهد فيها بل كان يكون فعله وتركه سواء أو يرجح هذا أو يرجح هذا ترجحا دنيويا .

الثاني : أنه إذا قدر أن شخصين أحدهما يريد الآخرة ويريد الدنيا والآخر زاهد في الدنيا وفي الآخرة لكان الأول منهما مؤمنا محمودا والثاني كافرا ملعونا مع أن الثاني زاهد في الدنيا والأول طالب لها لكن امتاز الأول بفعل مأمور مع ارتكاب محظور والثاني لم يكن معه ذلك المأمور به . فثبت أن فعل المأمور به من إرادة الآخرة ينفع والزهد بدون فعل هذا المأمور لا ينفع .

الثالث : المحمود في الكتاب والسنة إنما هو إرادة الدار الآخرة والمذموم إنما هو من ترك إرادة الدار الآخرة واشتغل بإرادة الدنيا [ ص: 148 ] عنها فأما مجرد مدح ترك الدنيا فليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا تنظر إلى كثرة ذم الناس الدنيا ذما غير ديني فإن أكثر العامة إنما يذمونها لعدم حصول أغراضهم منها فإنها لم تصف لأحد قط ولو نال منها ما عساه أن ينال وما امتلأت دار حبرة إلا امتلأت عبرة فالعقلاء يذمون الجهال الذين يركنون إليها ويظنون بقاء الرياسة والمال وتناول الشهوات فيها وهم مع هذا يحتاجون إلى ما لا بد لهم منه منها وأكثرهم طالب لما يذمه منها وهؤلاء حقيقة ذمهم لها ذم دنيوي لما فيها من الضرر الدنيوي كما يذم العقلاء التجارة والصناعة التي لا ربح فيها بل فيها تعب وكما تذم معاشرة من يضرك ولا ينفعك في التزويج بسيئة الخلق ونحو ذلك من الأمور التي لا تعود مضرتها ومنفعتها إلا إلى الدنيا أيضا .

ولا ريب أن ما فيه ضرر في الدنيا مذموم إذا لم يكن نافعا في الآخرة كإضاعة المال والعبادات الشاقة التي لم يأمر الله بها ولا رسوله وما فيه منفعة في الدنيا مذموم إذا كان ضارا في الآخرة كنيل اللذات وإدراك الشهوات المحرمة وكذلك اللذات والشهوات المباحات إذا حصل للعبد بها وهنا وتأخيرا في أمر الآخرة وطلبها وما كان مضرا في الدنيا والآخرة فهو شر وشدة وما كان نافعا في الآخرة فهو محمود وإن كان ضارا في الدنيا كإذهاب النفوس والأموال [ ص: 149 ] في الجهاد في سبيل الله وكذلك ما لم يكن ضارا في الدنيا مثل كثير من العبادات وما كان نافعا في الدنيا والآخرة فهو محمود أيضا فالأقسام سبعة : فما كان نافعا في الآخرة فهو محمود سواء ضر في الدنيا أو نفع أو لم ينفع ولم يضر . وما كان ضارا في الآخرة فهو مذموم وإن كان نافعا في الدنيا أو ضارا أو لا نافعا ولا ضارا .

وبقي ثلاثة أقسام : ما كان نافعا في الدنيا غير ضار في الآخرة وضارا في الدنيا غير نافع في الآخرة والنافع محمود والضار مذموم .

والقسم الثالث فيه قولان : قيل : لا حمد فيه ولا ذم .

وقيل : بل هو مذموم فأكثر ذم الناس للدنيا ليس من جهة شغلها لهم عن الآخرة وإنما هو من جهة ما يلحقهم من الضرر فيها وهي مذمومة من ذلك الوجه .

وأعلى وجوه الذم هو ما شغل عن الآخرة ولكن الإنسان قد يعدد المصائب وينسى النعم فقد يذم أمورا كثيرة لمضرة تلحقه ويكون فيها منافع كثيرة لا يذكرها وهذا الذم من نوع الهلع والجزع كما [ ص: 150 ] قال تعالى : { إن الإنسان خلق هلوعا } { إذا مسه الشر جزوعا } { وإذا مسه الخير منوعا } { إلا المصلين } وإنما الذم المحقق هو ما يشغل عن مصلحة الآخرة من الواجب والنقص هو ما يشغل عن مصلحتها المستحبة ويذم ما ترجحت مضرته على منفعته فيها فهذه ثلاثة أمور هي فصل الخطاب فقد تبين أن المحمود فيها وجودي أو عدمي .

وقد يقع الغلط في الزهد من وجوه كما وقع في الورع : أحدها : أن قوما زهدوا فيما ينفعهم بلا مضرة فوقعوا به في ترك واجبات أو مستحبات كمن ترك النساء واللحم ونحو ذلك وقد { قال صلى الله عليه وسلم لكني أصوم وأفطر ; وأتزوج النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني } " .

والثاني : أن زهد هذا أوقعه في فعل محظورات كمن ترك تناول ما أبيح له من المال والمنفعة واحتاج إلى ذلك فأخذه من حرام أو سأل الناس المسألة المحرمة أو استشرف إليهم والاستشراف مكروه .

والثالث : من زهد زهد الكسل والبطالة والراحة لا لطلب الدار الآخرة بالعمل الصالح والعلم النافع ; فإن العبد إذا كان زاهدا بطالا فسد أعظم فساد فهؤلاء لا يعمرون الدنيا ولا الآخرة كما قال [ ص: 151 ] عبد الله بن مسعود : إني لأكره أن أرى الرجل بطالا ليس في أمر الدنيا ولا في أمر الآخرة . وهؤلاء من أهل النار وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه ; عن عياض بن حمار ; { عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أهل الجنة خمسة فذكر منهم : الضعيف الذي لا زبر له الذين هم فيكم تبع لا يبتغون أهلا ولا مالا } " .

فمن ترك بزهده حسنات مأمور بها كان ما تركه خيرا من زهده أو فعل سيئات منهيا عنها . أو دخل في الكسل والبطالات فهو من { بالأخسرين أعمالا } { الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا } .

ومن زهد فيما يشغله عن الواجبات أو يوقعه في المحرمات فهو من المقتصدين أصحاب اليمين .

ومن زهد فيما يشغله عن المستحبات والدرجات فهو من المقدمين السابقين .

فهذه جملة مختصرة في الزهد وقد تبين المطلوب الأول إنما هو فعل المأمور به ; لأنه يعين عليه وهذا هو المقصود هنا والله أعلم .

[ ص: 152 ] واحذر أن تغتر بزهد الكافرين والمبتدعين ; فإن الفاسق المؤمن الذي يريد الآخرة ويريد الدنيا خير من زهاد أهل البدع وزهاد الكفار إما لفساد عقدهم وإما لفساد قصدهم وإما لفسادهما جميعا .

التالي السابق


الخدمات العلمية