صفحة جزء
فصل وقوله : { أو جاء أحد منكم من الغائط } ذكر الحدث الأصغر . فالمجيء من الغائط هو مجيء من الموضع الذي يقضي فيه الحاجة . وكانوا [ ص: 391 ] ينتابون الأماكن المنخفضة وهي الغائط . وهو كقولك : جاء من المرحاض . وجاء من الكنيف ونحو ذلك . هذا كله عبارة عمن جاء وقد قضى حاجته بالبول أو الغائط . والريح يخرج معهما .

وقد تنازع الفقهاء : هل تنقض الريح لكونها تستصحب جزءا من الغائط . فلا يكون على هذا نوعا آخر ؟ أو هي لا تستصحب جزءا من الغائط . بل هي نفسها تنقض . ونقضها متفق عليه بين المسلمين . وقد دل عليه القرآن في قوله : { إذا قمتم } سواء كان أريد القيام من النوم أو مطلقا . فإن القيام من النوم : مراد على كل تقدير . وهو إنما نقض بخروج الريح . هذا مذهب الأئمة الأربعة وجمهور السلف والخلف : أن النوم نفسه ليس بناقض ولكنه مظنة خروج الريح .

وقد ذهبت طائفة إلى أن النوم نفسه ينقض ونقض الوضوء بقليله وكثيره . وهو قول ضعيف . وقد ثبت في الصحيحين { عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ينام حتى يغط ثم يقوم يصلي ولا يتوضأ ويقول : تنام عيناي ولا ينام قلبي } .

فدل على أن قلبه الذي لم ينم كان يعرف به أنه لم يحدث ولو كان النوم نفسه كالبول والغائط والريح : لنقض كسائر النواقض .

وأيضا قد ثبت في الصحيحين " أن الصحابة كانوا ينتظرون الصلاة حتى [ ص: 392 ] تخفق رءوسهم . ثم يصلون ولا يتوضئون وهم في المسجد ينتظرون العشاء خلف النبي صلى الله عليه وسلم " .

وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شغل عن العشاء ليلة فأخرها حتى رقدنا في المسجد ثم استيقظنا . ثم رقدنا ثم استيقظنا . ثم خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم قال : ليس أحد من أهل الأرض الليلة ينتظر الصلاة غيركم } .

ولمسلم عنه قال { مكثنا ذات ليلة ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة . فخرج علينا حين ذهب ثلث الليل أو بعضه - ولا ندري أي شيء شغله من أهله أو غير ذلك - فقال حين خرج : إنكم لتنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم ولولا أن يثقل على أمتي لصليت بهم هذه الساعة . ثم أمر المؤذن فأقام الصلاة وصلى } .

ولمسلم أيضا عن عائشة رضي الله عنها قالت { اعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة حتى ذهب عامة الليل وحتى نام أهل المسجد ثم خرج فصلى . فقال : إنه لوقتها ; لولا أن أشق على أمتي } .

ففي هذه الأحاديث الصحيحة : أنهم ناموا وقال في بعضها " إنهم [ ص: 393 ] رقدوا ثم استيقظوا ثم رقدوا ثم استيقظوا " وكان الذين يصلون خلفه جماعة كثيرة وقد طال انتظارهم وناموا . ولم يستفصل أحدا لا سئل ولا سأل الناس : هل رأيتم رؤيا ؟ أو هل مكن أحدكم مقعدته ؟ أو هل كان أحدكم مستندا ؟ وهل سقط شيء من أعضائه على الأرض ؟ فلو كان الحكم يختلف لسألهم .

وقد علم أنه في مثل هذا الانتظار بالليل - مع كثرة الجمع - يقع هذا كله . وقد كان يصلي خلفه النساء والصبيان .

وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : { اعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي بصلاة العشاء فلم يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال عمر بن الخطاب : نام النساء والصبيان . فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأهل المسجد حين خرج عليهم : ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم . وذلك قبل أن يفشو الإسلام في الناس } .

وقد خرج البخاري هذا الحديث في " باب خروج النساء إلى المسجد بالليل والغلس " وفي " باب النوم قبل العشاء لمن غلب عليه النوم " وخرجه في " باب وضوء الصبيان وحضورهم الجماعة " وقال فيه { إنه ليس أحد من أهل الأرض يصلي هذه الصلاة غيركم } .

[ ص: 394 ] وهذا يبين أن قول عمر " نام النساء والصبيان " يعني والناس في المسجد ينتظرون الصلاة .

وهذا يبين أن المنتظرين للصلاة كالذي ينتظر الجمعة إذا نام أي نوم كان لم ينتقض وضوءه . فإن النوم ليس بناقض . وإنما الناقض : الحدث فإذا نام النوم المعتاد الذي يختاره الناس في العادة - كنوم الليل والقائلة - فهذا يخرج منه الريح في العادة وهو لا يدري إذا خرجت فلما كانت الحكمة خفية لا نعلم بها : قام دليلها مقامها . وهذا هو النوم الذي يحصل هذا فيه في العادة .

وأما النوم الذي يشك فيه : هل حصل معه ريح أم لا ؟ فلا ينقض الوضوء . لأن الطهارة ثابتة بيقين فلا تزول بالشك .

وللناس في هذه المسألة أقوال متعددة ليس هذا موضع تفصيلها لكن هذا هو الذي يقوم عليه الدليل .

وليس في الكتاب والسنة نص يوجب النقض بكل نوم .

فإن قوله : { العين وكاء السه فإذا نامت العينان استطلق الوكاء } قد روي في السنن من حديث علي بن أبي طالب ومعاوية [ ص: 395 ] رضي الله عنهما وقد ضعفه غير واحد . وبتقدير صحته : فإنما فيه { إذا نامت العينان استطلق الوكاء } وهذا يفهم منه : أن النوم المعتاد هو الذي يستطلق منه الوكاء . ثم نفس الاستطلاق لا ينقض . وإنما ينقض ما يخرج مع الاستطلاق . وقد يسترخي الإنسان حتى ينطلق الوكاء ولا ينتقض وضوءه .

وإنما قوله في حديث صفوان بن عسال { أمرنا أن لا ننزع خفافنا إذا كنا سفرا - أو مسافرين - ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة . لكن من غائط أو بول أو نوم } فهذا ليس فيه ذكر نقض النوم . ولكن فيه : أن لابس الخفين لا ينزعهما ثلاثة أيام إلا من جنابة ولا ينزعهما من الغائط والبول والنوم فهو نهي عن نزعهما لهذه الأمور . وهو يتناول النوم الذي ينقض . ليس فيه : أن كل نوم ينقض الوضوء .

هذا إذا كان لفظ " النوم " من كلام النبي صلى الله عليه وسلم . فكيف إذا كان من كلام الراوي ؟ وصاحب الشريعة قد يعلم أن الناس إذا كانوا قعودا أو قياما في الصلاة أو غيرها فينعس أحدهم وينام ولم يأمر أحدا بالوضوء في مثل هذا .

أما الوضوء من النوم المعروف عند الناس : فهو الذي يترجح معه في العادة خروج الريح وأما ما كان قد يخرج معه الريح وقد لا يخرج : فلا ينقض على أصل الجمهور . الذين يقولون : إذا شك هل ينقض أو لا ينقض ؟ أنه لا ينقض . بناء على يقين الطهارة .

التالي السابق


الخدمات العلمية