صفحة جزء
[ ص: 64 ] باب الأذان والإقامة وسئل عن الأذان . هل هو فرض أم سنة ؟ وهل يستحب الترجيع أم لا . وهل التكبير أربع أو اثنتان . كمالك . وهل الإقامة شفع أو فرد ؟ وهل يقول قد قامت الصلاة مرة أو مرتين ؟ .


فأجاب : الصحيح أن الأذان فرض على الكفاية فليس لأهل مدينة ولا قرية أن يدعوا الأذان والإقامة " وهذا هو المشهور من مذهب أحمد وغيره .

وقد أطلق طوائف من العلماء أنه سنة . ثم من هؤلاء من يقول إنه إذا اتفق أهل بلد على ترك قوتلوا والنزاع مع هؤلاء . قريب من النزاع اللفظي . فإن كثيرا من العلماء يطلق القول بالسنة على ما يذم تاركه شرعا ويعاقب تاركه شرعا فالنزاع بين هذا وبين من يقول : إنه واجب نزاع لفظي ولهذا نظائر متعددة .

[ ص: 65 ] وأما من زعم أنه سنة لا إثم على تاركيه ولا عقوبة فهذا القول خطأ . فإن الأذان هو شعار دار الإسلام الذي ثبت في الصحيح أن { النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلق استحلال أهل الدار بتركه فكان يصلي الصبح ثم ينظر فإن سمع مؤذنا لم يغر وإلا أغار } . وفي السنن لأبي داود والنسائي عن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { ما من ثلاثة في قرية لا يؤذن ولا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان فعليك بالجماعة فإن الذئب يأكل الشاة القاصية } . وقد قال تعالى : { استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون } .

وأما الترجيع وتركه وتثنية التكبير وتربيعه " وتثنية الإقامة وإفرادها فقد ثبت في صحيح مسلم والسنن { حديث أبي محذورة الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم الأذان عام فتح مكة وكان الأذان فيه وفي ولده . بمكة ثبت أنه علمه الأذان والإقامة وفيه الترجيع } . وروى في حديثه { التكبير مرتين } كما في صحيح مسلم . وروى { أربعا } كما في سنن أبي داود وغيره . وفي حديثه أنه علمه الإقامة شفعا . وثبت في الصحيح عن أنس بن مالك قال : { لما كثر الناس قال : تذاكروا أن يعلموا وقت الصلاة . بشيء يعرفونه [ ص: 66 ] فذكروا أن يوروا نارا أو يضربوا ناقوسا فأمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة } . وفي رواية للبخاري : " إلا الإقامة " . وفي سنن أبي داود وغيره . أن { عبد الله بن زيد لما أرى الأذان أمره . النبي صلى الله عليه وسلم أن يلقيه على بلال فألقاه . عليه وفيه التكبير أربعا بلا ترجيع } .

وإذا كان كذلك فالصواب مذهب أهل الحديث ومن وافقهم وهو تسويغ كل ما ثبت في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يكرهون شيئا من ذلك إذ تنوع صفة الأذان والإقامة كتنوع صفة القراءات والتشهدات ونحو ذلك . وليس لأحد أن يكره . ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته .

وأما من بلغ به الحال إلى الاختلاف والتفرق حتى يوالي ويعادي ويقاتل على مثل هذا ونحوه . مما سوغه الله تعالى كما يفعله بعض أهل المشرق فهؤلاء من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا . وكذلك ما يقوله بعض الأئمة - ولا أحب تسميته - من كراهة بعضهم للترجيع وظنهم أن أبا محذورة غلط في نقله وأنه كرره . ليحفظه ومن كراهة من خالفهم لشفع الإقامة مع أنهم يختارون أذان أبي محذورة . هؤلاء يختارون إقامته ويكرهون أذانه وهؤلاء يختارون أذانه ويكرهون [ ص: 67 ] إقامته . فكلاهما قولان متقابلان . والوسط أنه لا يكره لا هذا ولا هذا .

وإن كان أحمد وغيره من أئمة الحديث يختارون أذان بلال وإقامته لمداومته على ذلك بحضرته صلى الله عليه وسلم فهذا كما يختار بعض القراءات . والتشهدات ونحو ذلك . ومن تمام السنة في مثل هذا : أن يفعل هذا تارة وهذا تارة وهذا في مكان وهذا في مكان ; لأن هجر ما وردت به السنة وملازمة غيره قد يفضي إلى أن يجعل السنة بدعة والمستحب واجبا ويفضي ذلك إلى التفرق والاختلاف إذا فعل آخرون الوجه الآخر .

فيجب على المسلم أن يراعي القواعد الكلية التي فيها الاعتصام بالسنة والجماعة لا سيما في مثل صلاة الجماعة . وأصح الناس طريقة في ذلك هم علماء الحديث الذين عرفوا السنة واتبعوها إذ من أئمة الفقه من اعتمد في ذلك على أحاديث ضعيفة ومنهم من كان عمدته العمل الذي وجده ببلده وجعل ذلك السنة دون ما خالفه مع العلم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد وسع في ذلك وكل سنة .

وربما جعل بعضهم أذان بلال وإقامته ما وجده في بلده : إما بالكوفة وإما بالشام وإما بالمدينة . وبلال لم يؤذن بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا قليلا وإنما أذن بالمدينة سعد القرظي مؤذن أهل قباء .

[ ص: 68 ] والترجيع في الأذان اختيار مالك والشافعي : لكن مالكا يرى التكبير مرتين والشافعي يراه . أربعا وتركه اختيار أبي حنيفة . وأما أحمد فعنده كلاهما سنة وتركه أحب إليه ; لأنه أذان بلال .

والإقامة يختار إفرادها مالك والشافعي وأحمد وهو مع ذلك يقول : إن تثنيتها سنة والثلاثة : أبو حنيفة والشافعي وأحمد يختارون تكرير لفظ الإقامة دون مالك والله أعلم .

وقال شيخ الإسلام وأما الأذان الذي هو شعار الإسلام فقد استعمل فقهاء الحديث - كأحمد - فيه جميع سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم استحسن أذان بلال وإقامته وأذان أبي محذورة وإقامته .

وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أبا محذورة الأذان مرجعا وفي الإقامة مشفوعة .

وثبت في الصحيحين { أن بلالا أمر أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة } . وفي السنن أنه لم يكن يرجع فرجح أحمد أذان بلال ; لأنه الذي كان يفعل بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم دائما قبل [ ص: 69 ] أذان أبي محذورة وبعده إلى أن مات . واستحسن أذان أبي محذورة ولم يكرهه .

وهذا أصل مستمر له في جميع صفات العبادات أقوالها وأفعالها يستحسن كل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير كراهة لشيء منه مع علمه بذلك واختياره . للبعض أو تسويته بين الجميع . كما يجوز القراءة بكل قراءة ثابتة وإن كان قد اختار بعض القراءة : مثل أنواع الأذان والإقامة وأنواع التشهدات الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم كتشهد ابن مسعود وأبي موسى وابن عباس وغيرهم .

وأحبها إليه تشهد ابن مسعود ; لأسباب متعددة : ( منها كونه أصحها وأشهرها . و ( منها كونه محفوظ الألفاظ لم يختلف في حرف منه . و ( منها كون غالبها يوافق ألفاظه فيقتضي أنه الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر به غالبا .

وكذلك أنواع الاستفتاح والاستعاذة المأثورة وأنه اختار بعضها .

وكذلك موضع رفع اليدين في الصلاة ومحل وضعها بعد الرفع وصفات التحميد المشروع بعد التسميع ومنها صفات الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وإن اختار بعضها .

[ ص: 70 ] ومنها أنواع صلاة الخوف ويجوز كل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من غير كراهة .

ومنها أنواع تكبيرات العيد يجوز كل مأثور وإن استحب بعضه . ومنها التكبير على الجنائز يجوز على المشهور : التربيع والتخميس والتسبيع وإن اختار التربيع . وأما بقية الفقهاء فيختارون بعض ذلك ويكرهون بعضه .

فمنهم من يكره " الترجيع " في الأذان : كأبي حنيفة ومنهم من يكره . تركه كالشافعي . ومنهم من يكره شفع الإقامة كالشافعي . ومنهم من يكره . إفرادها حتى قد آل الأمر بالأتباع إلى نوع جاهلية فصاروا يقتتلون في بعض بلاد المشرق على ذلك حمية جاهلية مع أن الجميع حسن قد أمر به { رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلالا بإفراد الإقامة وأمر أبا محذورة بشفعها } . وإن الضلالة حق الضلالة أن ينهى عما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية