صفحة جزء
ثم قال : - ( باب ذكر الاستواء .

فإن قال قائل : ما تقولون في الاستواء : قيل بأن الله مستو على عرشه .

كما قال سبحانه : { الرحمن على العرش استوى } وقال : { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } وقال سبحانه : { بل رفعه الله إليه } وقال فرعون : { يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب } { أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا } كذب موسى في قوله إن الله فوق السموات .

وقال : { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض } والسموات فوقها العرش وإنما أراد العرش الذي هو على السموات ألا ترى أن الله ذكر السموات فقال : { وجعل القمر فيهن نورا } لم يرد أن القمر يملؤهن جميعا وأنه فيهن جميعا .

ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو العرش .

قال وقد قال قائلون : من المعتزلة والجهمية والحرورية إن معنى قوله { الرحمن على العرش استوى } أي استولى وملك وقهر .

والله في كل مكان ، وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قاله أهل الحق .

قال : ولو كان كما قالوا : كان لا فرق بين العرش وبين الأرض السابعة السفلى ; لأن الله قادر على كل شيء وقدر ذلك .

[ ص: 226 ] وساق الكلام إلى أن قال : ومما يؤكد لكم أن الله مستو على عرشه دون الأشياء كلها ما نقله أهل الرواية عن رسول الله من قوله " { ينزل الله إلى سماء الدنيا كل ليلة فيقول هل من سائل فأعطيه ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ حتى يطلع الفجر } " ثم ذكر الأحاديث .

وقال تعالى { يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا } قال : وأجمعت الأمة على أن الله رفع عيسى إلى السماء .

وذكر دلائل .

إلى أن قال : كل ذلك يدل على أن الله ليس في خلقه ولا خلقه فيه وأنه عز وجل مستو على عرشه جل وعز وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا .

جل عما يقول الذين لم يثبتوا له في وصفهم له حقيقة ولا أوجبوا له بذكرهم إياه وحدانية ، إذا كان كلامهم يؤول إلى التعطيل وجميع أوصافهم على النفي في التأويل : يريدون بذلك فيما زعموا التنزيه ونفي التشبيه ، فنعوذ بالله من تنزيه يوجب النفي والتعطيل ، وهذا باب واسع لا يحصر فيه كلام العلماء من جميع الطوائف وما في ذلك من الدلائل العقلية والنقلية وما يعارض ذلك أيضا من حجج النفاة والجواب عنها ، وقد كتبت في هذا ما يجيء عدة مجلدات وذكرت فيها مقالات الطوائف جميعها ، وحججها الشرعية والعقلية واستوعبت ما ذكره الرازي في كتاب " تأسيس التقديس " " ونهاية العقول " وغير ذلك ، حتى أتيت على مذاهب [ ص: 227 ] الفلاسفة المشائين أصحاب أرسطو وغير المشائين متقدميهم ومتأخريهم : كأفضل متأخريهم " ابن سينا " وأوحدهم في زمانه " أبي البركات " وذكرت حججهم .

فإني أعلم أن هذا الباب قد كثر فيه الاضطراب وحار فيه طوائف من الفضلاء الأذكياء ; لتعارض الأدلة عندهم .

وقررت الأدلة اللفظية الصحيحة وميزت بينها وبين الشبهات الفاسدة ، مع ما يجيء في ضمن ذلك من أصول عظيمة وقواعد جسيمة .

من أولها - وهو من أجل الأمور عند كثير من الناس - من تقرير استدارة الأفلاك .

فإني قررت ذلك وذكرت كلام من ذكر إجماع المسلمين على ذلك : مثل ابن المنادي وابن حزم وابن الجوزي وما يتعلق بذلك من الأمور الحسابية السمعية من الكتاب والسنة إلى أمثال ذلك مما يطول وصفه .

وأيضا لما كنت في البرج ذكر لي أن بعض الناس علق مؤاخذة على الفتيا " الحموية " وأرسلت إلي وقد كتبت فيما بلغ مجلدات ولا حول ولا قوة إلا بالله .

والناس يعلمون أنه كان بين الحنبلية والأشعرية وحشة ومنافرة .

وأنا كنت من أعظم الناس تأليفا لقلوب المسلمين وطلبا لاتفاق كلمتهم واتباعا لما أمرنا به من الاعتصام بحبل الله وأزلت عامة ما كان في النفوس من الوحشة وبينت لهم أن الأشعري كان من أجل المتكلمين المنتسبين [ ص: 228 ] إلى الإمام أحمد رحمه الله ونحوه المنتصرين لطريقه كما يذكر الأشعري ذلك في كتبه .

وكما قال أبو إسحاق الشيرازي : إنما نفقت الأشعرية عند الناس بانتسابهم إلى الحنابلة وكان أئمة الحنابلة المتقدمين كأبي بكر عبد العزيز وأبي الحسن التميمي ونحوهما يذكرون كلامه في كتبهم بل كان عند متقدميهم كابن عقيل عند المتأخرين ، لكن ابن عقيل له اختصاص بمعرفة الفقه وأصوله وأما الأشعري فهو أقرب إلى أصول أحمد من ابن عقيل وأتبع لها فإنه كلما كان عهد الإنسان بالسلف أقرب كان أعلم بالمعقول والمنقول .

وكنت أقرر هذا للحنبلية - وأبين أن الأشعري ، وإن كان من تلامذة المعتزلة ثم تاب ، فإنه كان تلميذ الجبائي ومال إلى طريقة ابن كلاب وأخذ عن زكريا الساجي أصول الحديث بالبصرة ، ثم لما قدم بغداد أخذ عن حنبلية بغداد أمورا أخرى ، وذلك آخر أمره كما ذكره هو وأصحابه في كتبهم .

وكذلك ابن عقيل كان تلميذ ابن الوليد وابن التبان المعتزليين ثم تاب من ذلك ، وتوبته مشهورة بحضرة الشريف أبي جعفر .

وكما أن في أصحاب أحمد من يبغض ابن عقيل ويذمه : فالذين يذمون الأشعري ليسوا مختصين بأصحاب أحمد بل في جمع الطوائف من هو كذلك .

ولما أظهرت كلام الأشعري - ورآه الحنبلية - قالوا : هذا خير من [ ص: 229 ] كلام الشيخ الموفق وفرح المسلمون باتفاق الكلمة .

وأظهرت ما ذكره ابن عساكر في مناقبه أنه لم تزل الحنابلة والأشاعرة متفقين إلى زمن القشيري فإنه لما جرت تلك الفتنة ببغداد تفرقت الكلمة ومعلوم أن في جميع الطوائف من هو زائغ ومستقيم .

مع أني في عمري إلى ساعتي هذه لم أدع أحدا قط في أصول الدين إلى مذهب حنبلي وغير حنبلي ، ولا انتصرت لذلك ، ولا أذكره في كلامي ، ولا أذكر إلا ما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها .

وقد قلت لهم غير مرة : أنا أمهل من يخالفني ثلاث سنين إن جاء بحرف واحد عن أحد من أئمة القرون الثلاثة يخالف ما قلته فأنا أقر بذلك .

وأما ما أذكره فأذكره عن أئمة القرون الثلاثة بألفاظهم وبألفاظ من نقل إجماعهم من عامة الطوائف .

هذا مع أني دائما ومن جالسني يعلم ذلك مني : أني من أعظم الناس نهيا عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية ، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافرا تارة وفاسقا أخرى وعاصيا أخرى وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها : وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية .

وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ولا بفسق ولا معصية كما أنكر شريح قراءة من قرأ { بل عجبت ويسخرون } وقال : إن الله لا يعجب ، فبلغ ذلك إبراهيم النخعي [ ص: 230 ] فقال إنما شريح شاعر يعجبه علمه .

كان عبد الله أعلم منه وكان يقرأ { بل عجبت } .

وكما نازعت عائشة وغيرها من الصحابة في رؤية محمد ربه وقالت : من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية ومع هذا لا نقول لابن عباس ونحوه من المنازعين لها : إنه مفتر على الله .

وكما نازعت في سماع الميت كلام الحي وفي تعذيب الميت ببكاء أهله وغير ذلك .

وقد آل الشر بين السلف إلى الاقتتال .

مع اتفاق أهل السنة على أن الطائفتين جميعا مؤمنتان ، وأن الاقتتال لا يمنع العدالة الثابتة لهم ، لأن المقاتل وإن كان باغيا فهو متأول والتأويل يمنع الفسوق .

وكنت أبين لهم أنما نقل لهم عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضا حق ، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين .

وهذه أول مسألة تنازعت فيها الأمة من مسائل الأصول الكبار وهي مسألة " الوعيد " فإن نصوص القرآن في الوعيد مطلقة كقوله { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما } الآية وكذلك سائر ما ورد : من فعل كذا فله كذا .

فإن هذه مطلقة عامة .

وهي بمنزلة قول من قال من السلف من قال كذا : فهو كذا .

ثم الشخص المعين يلتغي حكم الوعيد فيه : بتوبة أو حسنات ماحية أو مصائب مكفرة أو شفاعة مقبولة .

[ ص: 231 ] والتكفير هو من الوعيد .

فإنه وإن كان القول تكذيبا لما قاله الرسول ، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام أو نشأ ببادية بعيدة .

ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة .

وقد يكون الرجل لا يسمع تلك النصوص أو سمعها ولم تثبت عنده أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها ، وإن كان مخطئا ، وكنت دائما أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال : " { إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ، ثم ذروني في اليم فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا من العالمين ، ففعلوا به ذلك فقال الله له : ما حملك على ما فعلت .

قال خشيتك : فغفر له
} " .

فهذا رجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذري ، بل اعتقد أنه لا يعاد ، وهذا كفر باتفاق المسلمين ، لكن كان جاهلا لا يعلم ذلك وكان مؤمنا يخاف الله أن يعاقبه فغفر له بذلك .

والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول أولى بالمغفرة من مثل هذا .

التالي السابق


الخدمات العلمية