صفحة جزء
[ ص: 248 ] قال شيخ الإسلام : - رحمه الله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا .

من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، ونشهد أن لا إله إلا الله ، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم تسليما .

أما بعد : فقد وصلت ورقتك التي ذكرت فيها إخبارك الشيخ باجتماع الرسول بي وما أخبرته من الكلام وأن الشيخ قال : " اعلم أني والله قد عظم عندي كيف وقعت الصورة على هذا إلى آخره .

وأنه قال : تجتمع بالشيخ وتتفق معه - على ما يراه هو ويختاره .

إن يكن كما قلت أو غيره - فتسلم عليه وتقول له : أما هذه القضية ليس لي فيها غرض معين أصلا ولست فيها إلا واحدا من المسلمين .

لي ما لهم وعلي ما عليهم [ ص: 249 ] وليس لي ولله الحمد حاجة إلى شيء معين يطلب من المخلوق ولا في ضرر يطلب زواله من المخلوق بل أنا في نعمة من الله سابغة ورحمة عظيمة أعجز عن شكرها .

ولكن علي أن أطيع الله ورسوله وأطيع أولي الأمر إذا أمروني بطاعة الله ، فإذا أمروني بمعصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .

هكذا دل عليه " الكتاب " و " السنة " واتفق عليه " أئمة الأمة " قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } .

وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { لا طاعة لمخلوق في معصية الله } " " { إنما الطاعة في المعروف } " وأن أصبر على جور الأئمة وأن لا أخرج عليهم في فتنة ; لما في الصحيح عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " { من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فمات فميتته جاهلية } " .

ومأمور أيضا مع ذلك أن أقول : أو أقوم : بالحق حيث ما كنت ، لا أخاف في الله لومة لائم كما أخرجا في الصحيحين عن عبادة بن الصامت قال : " { بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في يسرنا وعسرنا ومنشطنا ومكرهنا ، وأثرة علينا ، وأن لا ننازع الأمر أهله ، وأن [ ص: 250 ] نقول - أو نقوم - بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم } " .

فبايعهم على هذه " الأصول الثلاثة الجامعة " وهي الطاعة في طاعة الله ، وإن كان الآمر ظالما ، وترك منازعة الأمر أهله ، والقيام بالحق بلا مخافة من الخلق .

والله سبحانه قد أمر في كتابه عند تنازع الأمة بالرد إلى الله ورسوله ، لم يأمر عند التنازع إلى شيء معين أصلا .

وقد قال الأئمة : إن أولي الأمر صنفان العلماء والأمراء .

وهذا يدخل فيه مشايخ الدين وملوك المسلمين : كل منهم يطاع فيما إليه من الأمر .

كما يطاع هؤلاء بما يؤمرون به من العبادات ويرجع إليهم في معاني القرآن والحديث ، والإخبار عن الله ، وكما يطاع هؤلاء في الجهاد وإقامة الحد وغير ذلك : مما يباشرونه من الأفعال التي أمرهم الله بها .

وإذا اتفق هؤلاء على أمر فإجماعهم حجة قاطعة فإن أمة محمد صلى الله عليه وسلم لا تجتمع على ضلالة وإن تنازعوا فالمرد إلى الكتاب والسنة .

وهذه القضية قد جرى فيها ما جرى مما ليس هذا موضع ذكره .

وكنت تبلغني بخطابك وكتابك عن الشيخ ما تبلغني .

وقد رأيت وسمعت موافقتي على كل ما فيه طاعة الله ورسوله ، وعدم التفاتي إلى المطالبة بحظوظي أو مقابلة من يؤذيني وتيقنت هذا مني فما الذي يطلب من المسلم فوق هذا وأشرت بترك المخافة ولين الجانب وأنا مجيب إلى هذا كله .

فجاء الفتاح أولا فقال : يسلم عليك النائب .

وقال : إلى متى يكون المقام [ ص: 251 ] في الحبس ؟ .

أما تخرج ؟ هل أنت مقيم على تلك الكلمة أم لا ؟ .

وعلمت أن الفتاح ليس في استقلاله بالرسالة مصلحة لأمور لا تخفى .

فقلت له : سلم على النائب وقل له أنا ما أدري ما هذه الكلمة ؟ وإلى الساعة لم أدر على أي شيء حبست ؟ ولا علمت ذنبي ؟ .

وأن جواب هذه الرسالة لا يكون مع خدمتك ، بل يرسل من ثقاته - الذين يفهمون ويصدقون - أربعة أمراء ; ليكون الكلام معهم مضبوطا عن الزيادة والنقصان .

فأنا قد علمت ما وقع في هذه القصة من الأكاذيب .

فجاء بعد ذلك الفتاح ومعه شخص ما عرفته لكن ذكر لي أنه يقال له علاء الدين الطيبرسي ورأيت الذين عرفوه أثنوا عليه بعد ذلك خيرا وذكروه بالحسنى ، لكنه لم يقل ابتداء من الكلام : ما يحتمل الجواب بالحسنى فلم يقل الكلمة التي أنكرت : كيت وكيت ولا استفهم هل أنت مجيب إلى كيت وكيت .

ولو قال ما قال : - من الكذب علي والكفر والمجادلة - على الوجه الذي يقتضي الجواب بالحسنى لفعلت ذلك فإن الناس يعلمون أني من أطول الناس روحا وصبرا على مر الكلام وأعظم الناس عدلا في المخاطبة لأقل الناس ، دع ( لولاة الأمور لكنه جاء مجيء المكره على أن أوافق إلى ما دعا إليه وأخرج درجا فيه [ ص: 252 ] من الكذب والظلم والدعاء إلى معصية الله والنهي عن طاعته ما الله به عليم وجعلت كلما أردت أن أجيبه وأحمله رسالة يبلغها لا يريد أن يسمع شيئا من ذلك ويبلغه بل لا يريد إلا ما مضمونه الإقرار بما ذكر والتزام عدم العود إليه والله تعالى يقول : { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم } .

فمتى ظلم المخاطب لم نكن مأمورين أن نجيبه بالتي هي أحسن بل قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه - لعروة بن مسعود بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم لما قال : إني لأرى أوباشا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك - امصص بظر اللات أنحن نفر عنه وندعه ومعلوم أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين من كانوا .

وقد قال تعالى : { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } .

فمن كان مؤمنا فهو الأعلى كائنا من كان .

ومن حاد الله ورسوله فقد قال تعالى : { إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين } .

وأنا أو غيري من أي القسمين كنت فإن الله يعاملني وغيري بما وعده فإن قوله الحق { وعد الله لا يخلف الله وعده } فقلت له في ضمن الكلام : الحق في هذه القصة ليس لي ، ولكن لله ولرسوله ولسائر المؤمنين من شرق الأرض إلى غربها .

وأنا لا أعني تبديل الدين وتغييره ، وليس لأجلك ، أو أجل غيرك أرتد عن دين الإسلام : وأقر بالكفر والكذب والبهتان .

راجعا عنه أو موافقا عليه .

[ ص: 253 ] ولما رأيته يلح في الأمر بذلك أغلظت عليه في الكلام .

وقلت دع هذا الفشار وقم رح في شغلك .

فأنا ما طلبت منكم أن تخرجوني - وكانوا قد أغلقوا الباب القائم الذي يدخل منه إلى الباب المطبق - فقلت أنا افتحوا لي الباب حتى أنزل يعني فرغ الكلام .

وجعل غير مرة يقول لي : أتخالف المذاهب الأربعة فقلت : أنا ما قلت : إلا ما يوافق المذاهب الأربعة ، ولم يحكم علي أحد من الحكام إلا ابن مخلوف وأنت كنت ذلك اليوم حاضرا .

وقلت له أنت وحدك تحكم أو أنت وهؤلاء .

فقال : بل أنا وحدي فقلت له : أنت خصمي ، فكيف تحكم علي ؟ فقال : كذا ومد صوته وانزوى إلى الزاوية .

وقال : قم ، قم .

فأقاموني وأمروا بي إلى الحبس ثم جعلت أقول : أنا وإخوتي غير مرة : أنا أرجع وأجيب وإن كنت أنت الحاكم وحدك .

فلم يقبل ذلك مني .

فلما ذهبوا بي إلى الحبس حكم بما حكم به وأثبت ما أثبت وأمر في الكتاب السلطاني بما أمر به فهل يقول أحد من اليهود أو النصارى دع المسلمين إن هذا حبس بالشرع فضلا عن أن يقال : شرع محمد بن عبد الله .

وهذا مما يعلم الصبيان الصغار بالاضطرار من دين الإسلام أنه مخالف لشرع محمد بن عبد الله .

وهذا الحاكم هو وذووه دائما يقولون فعلنا ما فعلنا بشرع محمد بن عبد الله .

[ ص: 254 ] وهذا الحكم مخالف لشرع الله - الذي أجمع المسلمون عليه - من أكثر من عشرين وجها .

ثم النصارى في حبس حسن : يشركون فيه بالله ويتخذون فيه الكنائس فيا ليت حبسنا كان من جنس حبس النصارى ويا ليتنا سوينا بالمشركين وعباد الأوثان بل لأولئك الكرامة ولنا الهوان .

فهل يقول من يؤمن بالله واليوم الآخر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بهذا .

وبأي ذنب حبس إخوتي في دين الإسلام غير الكذب والبهتان ومن قال : إن ذلك فعل بالشرع فقد كفر بإجماع المسلمين .

وقلت له في ضمن الكلام أنت لو ادعى عليك رجل بعشرة دراهم وأنت حاضر في البلد ، غير ممتنع من حضور مجلس الحاكم لم يكن للحاكم أن يحكم عليك في غيبتك هذا في الحقوق فكيف بالعقوبات التي يحرم فيها ذلك بإجماع المسلمين .

ثم هذا الرجل قد ظهر كذبه غير مرة .

ذلك اليوم كذب علي في أكثر ما قاله وهذه الورقة التي أمر بكتابتها أكثرها كذب والكتاب السلطاني الذي كتب بأمره مخالف للشريعة من نحو عشرة أوجه وفيه من الكذب على المجلس الذي عقد أمور عظيمة قد علمها الخاص والعام .

فإذا كان الكتاب [ ص: 255 ] الذي كتب على لسان السلطان وقرئ على منابر الإسلام أخبر فيه عن أهل المجلس : من الأمراء والقضاة بما هو من أظهر الكذب والبهتان ، فكيف فيما غاب عنهم .

قلت وهو دائما يقول عني : إني أقول إن الله في زاوية ولد ولدا وهذا كله كذب .

وشهرته بالكذب والفجور يعلمه الخاص والعام .

فهل يصلح مثل هذا أن يحكم في أصول الدين ومعاني الكتاب والسنة وهو لا يعرف ذلك ورأيته هنا يتبسم تبسم العارف بصحة ما قلته فكأن سيرة هذا الحاكم مشهورة بالشر بين المسلمين .

وأخذ يقول لي : هذه المحاضر ووجدوا بخطك فقلت أنت كنت حاضرا ذلك اليوم .

هل أراني أحد ذلك اليوم خطأ أو محضرا ؟ أو قيل لي شهد عليك بكذا أو سمع لي كلام ، بل حين شرعت أحمد الله وأثني عليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم " { كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم } " منعوني من حمد الله .

وقالوا : لا تحمد الله بل أجب .

فقلت لابن مخلوف : ألك أجيب أو لهذا المدعي ؟ وكان كل منهما قد ذكر كلاما أكثره كذب .

فقال : أجب المدعي .

فقلت : فأنت وحدك تحكم أو أنت وهؤلاء القضاة فقال : بل أنا وحدي .

فقلت : فأنت خصمي فكيف يصح حكمك علي فلم تطلب مني الاستفسار عن وجه المخاصمة ؟ ، فإن هذا كان [ ص: 256 ] خصما : من وجوه متعددة معروفة عند جميع المسلمين .

ثم قلت : أما ما كان بخطي فأنا مقيم عليه .

وأما المحاضر : فالشهود فيها فيهم من الأمور القادحة في شهادتهم وجوه متعددة تمنع قبول شهادتهم بإجماع المسلمين والذي شهدوا به فقد علم المسلمون خاصتهم وعامتهم بالشام وغيره ضد ما شهدوا به .

وهذا القاضي " شرف الدين " بن المقدسي قد سمع منه الناس العدول أنه كان يقول أنا على عقيدة فلان حتى قبل موته بثلاث دخلت عليه فيما يرى مع طائفة فقال قدامهم : أنا أموت على عقيدتك يا فلان ، لست على عقيدة هؤلاء يعني الخصوم ، وكذلك القاضي شهاب الدين الخولي غير مرة يقول : في قفاك أنا على عقيدته .

والقاضي " إمام الدين " قد شهد على العدول أنه قال ما ظهر في كلامه شيء ومن تكلم فيه عزرته .

وقال لي في أثناء كلامه : فقد قال بعض القضاة : أنهم أنزلوك عن الكرسي .

فقلت : هذا من أظهر الكذب الذي يعلمه جميع الناس ما أنزلت من الكرسي قط ولا استتابني أحد قط عن شيء ولا استرجعني .

وقلت قد وصل إليكم المحضر الذي فيه خطوط مشايخ الشام وسادات الإسلام - والكتاب الذي فيه كلام الحكام : الذين هم خصومي كجمال الدين المالكي ، وجلال الدين الحنفي وما ذكروا فيه مما يناقض [ ص: 257 ] هذه المحاضر .

وقول المالكي ما بلغني قط أنه استتيب ولا منع من فتيا ولا أنزل ولا كذا ولا كذا .

ولا ثبت عليه عندي قط شيء يقدح في دينه وكذلك قول سائر العلماء والحكام في غيبتي .

وأما الشهادات ففيها أمور عظيمة فتدبروها فكيف وشهود المحضر فيهم من موانع الشهادة أمور تقال عند الحاجة

التالي السابق


الخدمات العلمية