صفحة جزء
وسئل عن إمام يصلي صلاة الفرض بالناس ثم يصلي بعدها صلاة أخرى ويقول : هذه عن صلاة فاتتكم هل يسوغ هذا ؟ .


فأجاب : الحمد لله . ليس للإمام الراتب أن يعتاد أن يصلي بالناس الفريضة مرتين فإن هذه بدعة مخالفة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 383 ] وسنة خلفائه الراشدين ولم يستحب ذلك أحد من أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم . لا أبي حنيفة ولا مالك ولا الشافعي . ولا أحمد بن حنبل . بل هم متفقون على أن الإمام إذا أعاد بأولئك المأمومين الصلاة مرتين دائما أن هذا بدعة مكروهة ومن فعل ذلك على وجه التقرب كان ضالا .

وإنما تنازعوا في الإمام إذا صلى مرة ثانية بقوم آخرين غير الأولين .

منهم من يجيز ذلك كالشافعي وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين . ومنهم من يحرم ذلك كأبي حنيفة ومالك وأحمد في الرواية الأخرى عنه . ومن عليه فوائت فإنه يقضيها بحسب الإمكان أما كون الإمام يعيد الصلاة دائما مع الصلاة الحاضرة وأن يصلوا خلفه فهذا ليس بمشروع . وإن قال : إني أفعل ذلك لأجل ما عليهم من الفوائت . وأقل ما في هذا أنه ذريعة إلى أن يتشبه به الأئمة فتبقى به سنة يربو عليها الصغير وتغير بسببها شريعة الإسلام في البوادي ومواضع الجهل والله أعلم .

[ ص: 384 ] وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه فصل وأما من أدى فرضه إماما أو مأموما أو منفردا . فهل يجوز أن يؤم في تلك الصلاة لمن يؤدي فرضه ؟ مثل أن يصلي الإمام مرتين هذه فيها نزاع مشهور وفيها ثلاث روايات عن أحمد : إحداها : أنه لا يجوز وهي اختيار كثير من أصحابه ومذهب أبي حنيفة ومالك .

والثانية : يجوز مطلقا وهي اختيار بعض أصحابه : كالشيخ أبي محمد المقدسي وهي مذهب الشافعي .

والثانية : يجوز عند الحاجة كصلاة الخوف . قال الشيخ : وهو اختيار جدنا أبي البركات ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه بعض الأوقات صلاة الخوف مرتين وصلى بطائفة وسلم ثم صلى بطائفة أخرى وسلم .

[ ص: 385 ] ومن جوز ذلك مطلقا احتج بحديث معاذ المعروف : { أنه كان يصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم ثم ينطلق فيؤم قومه } . وفي رواية : { فكانت الأولى فرضا له والثانية نفلا .

} والذين منعوا ذلك ليس لهم حجة مستقيمة فإنهم احتجوا بلفظ لا يدل على محل النزاع . كقوله : { إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه } . و { بأن الإمام ضامن } فلا تكون صلاته أنقص من صلاة المأموم وليس في هذين ما يدفع تلك الحجج . والاختلاف المراد به الاختلاف في الأفعال كما جاء مفسرا وإلا فيجوز للمأموم أن يعيد الصلاة فيكون متنفلا خلف مفترض . كما هو قول جماهير العلماء . وقد دل على ذلك قوله في الحديث الصحيح : { يكون بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها فصلوا الصلاة لوقتها ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة } .

وأيضا فإنه { صلى بمسجد الخيف فرأى رجلين لم يصليا فقال : ما منعكما أن تصليا معنا ؟ قالا : قد صلينا في رحالنا فقال : إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة } . وفي السنن أنه { رأى رجلا يصلي وحده فقال : ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه } فقد ثبت صلاة المتنفل خلف المفترض . في عدة أحاديث وثبت أيضا بالعكس . فعلم أن موافقة الإمام في نية الفرض أو [ ص: 386 ] النفل ليست بواجبة والإمام ضامن . وإن كان متنفلا .

ومن هذا الباب صلاة العشاء الآخرة خلف من يصلي قيام رمضان يصلي خلفه ركعتين ثم يقوم فيتم ركعتين فأظهر الأقوال جواز هذا كله لكن لا ينبغي أن يصلي بغيرهم ثانيا إلا لحاجة أو مصلحة مثل أن يكون ليس هناك من يصلح للإمامة غيره أو هو أحق الحاضرين بالإمامة ; لكونه أعلمهم بكتاب الله وسنة رسوله أو كانوا مستوين في العلم وهو أسبقهم إلى هجرة ما حرم الله ورسوله أو أقدمهم سنا فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا } فقدم النبي صلى الله عليه وسلم بالفضيلة في العلم بالكتاب والسنة فإن استووا في العلم قدم بالسبق إلى العمل الصالح وقدم السابق باختياره وهو المهاجر على من سبق بخلق الله له وهو الكبير السن .

وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه } فمن سبق إلى هجر السيئات بالتوبة منها فهو أقدمهم هجرة فيقدم في الإمامة فإذا حضر من هو أحق بالإمامة وكان قد صلى [ ص: 387 ] فرضه فإنه يؤمهم كما أم النبي صلى الله عليه وسلم لطائفة بعد طائفة من أصحابه مرتين وكما كانمعاذ يصلي ثم يؤم قومه أهل قباء لأنه كان أحقهم بالإمامة وقد ادعى بعضهم أن حديث معاذ منسوخ ولم يأتوا على ذلك بحجة صحيحة وما ثبت من الأحكام بالكتاب والسنة لا يجوز دعوى نسخه بأمور محتملة للنسخ وعدم النسخ . وهذا باب واسع قد وقع في بعضه كثير من الناس كما هو مبسوط في غير هذا الموضع .

وكذلك الصلاة على الجنازة إذا صلى عليها الرجل إماما ثم قدم آخرون فله أن يصلي بالطائفة الثانية إذا كان أحقهم بالإمامة وله إذا صلى غيره على الجنازة مرة ثانية أن يعيدها معهم تبعا كما يعيد الفريضة تبعا مثل أن يصلي في بيته ثم يأتي مسجدا فيه إمام راتب فيصلي معهم فإن هذا مشروع في مذهب الإمام أحمد بلا نزاع وكذلك مذهبه فيمن لم يصل على الجنازة فله أن يصلي عليها بعد غيره وله أن يصلي على القبر إذا فاتته الصلاة . هذا مذهب فقهاء الحديث قاطبة كالشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم ومالك لا يرى الإعادة وأبو حنيفة لا يراها إلا للولي .

وأما إذا صلى هو على الجنازة ثم صلى عليها غيره : فهل له أن يعيدها مع الطائفة الثانية ؟ فيه وجهان في مذهب أحمد . قيل : [ ص: 388 ] لا يعيدها . قالوا : لأن الثانية نفل وصلاة الجنازة لا يتنفل بها . وقيل : بل له أن يعيدها وهو الصحيح فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى على قبر منبوذ صلى معه من كان صلى عليها أولا . وإعادة صلاة الجنازة من جنس إعادة الفريضة فتشرع حيث شرعها الله ورسوله . وعلى هذا : فهل يؤم على الجنازة مرتين ؟ على روايتين . والصحيح أن له ذلك . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية