صفحة جزء
[ ص: 19 ] وسئل هل الجمع بين الصلاتين في السفر أفضل أم القصر ؟ وما أقوال العلماء في ذلك ؟ وما حجة كل منهم ؟ وما الراجح من ذلك ؟


فأجاب : الحمد لله . بل فعل كل صلاة في وقتها أفضل إذا لم يكن به حاجة إلى الجمع فإن غالب صلاة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يصليها في السفر إنما يصليها في أوقاتها . وإنما كان الجمع منه مرات قليلة .

وفرق كثير من الناس بين الجمع والقصر وظنهم أن هذا يشرع سنة ثابتة والجمع رخصة عارضة وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم في جميع أسفاره كان يصلي الرباعية ركعتين ولم ينقل أحد أنه صلى في سفره الرباعية أربعا ; بل وكذلك أصحابه معه .

والحديث الذي يروى { عن عائشة : أنها أتمت معه وأفطرت } حديث ضعيف . بل قد ثبت عنها في الصحيح : " أن الصلاة أول ما فرضت كانت ركعتين ركعتين ثم زيد في صلاة الحضر وأقرت [ ص: 20 ] صلاة السفر " . وثبت في الصحيح { عن عمر بن الخطاب أنه قال : صلاة السفر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان وصلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم } .

وأما قوله تعالى { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } فإن نفي الجناح لبيان الحكم وإزالة الشبهة لا يمنع أن يكون القصر هو السنة . كما قال : { إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما } نفى الجناح لأجل الشبهة التي عرضت لهم من الطواف بينهما ; لأجل ما كانوا عليه في الجاهلية من كراهة بعضهم للطواف بينهما والطواف بينهما مأمور به باتفاق المسلمين وهو إما ركن وإما واجب وإما سنة مؤكدة .

وهو سبحانه ذكر الخوف والسفر لأن القصر يتناول قصر العدد وقصر الأركان فالخوف يبيح قصر الأركان والسفر يبيح قصر العدد فإذا اجتمعا أبيح القصر بالوجهين وإن انفرد السفر أبيح أحد نوعي القصر والعلماء متنازعون في المسافر : هل فرضه الركعتان ؟ ولا يحتاج قصره إلى نية ؟ أم لا يقصر إلا بنية ؟ على قولين : [ ص: 21 ] والأول : قول أكثرهم كأبي حنيفة ومالك وهو أحد القولين في مذهب أحمد اختاره أبو بكر وغيره .

والثاني : قول الشافعي وهو القول الآخر في مذهب أحمد اختاره الخرقي وغيره .

والأول هو الصحيح الذي تدل عليه سنة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان يقصر بأصحابه ولا يعلمهم قبل الدخول في الصلاة أنه يقصر ولا يأمرهم بنية القصر . ولهذا { لما سلم من ركعتين ناسيا قال له ذو اليدين : أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ فقال : لم أنس ولم تقصر قال : بلى قد نسيت } . وفي رواية . { لو كان شيء لأخبرتكم به } ولم يقل لو قصرت لأمرتكم أن تنووا القصر وكذلك لما جمع بهم لم يعلمهم أنه جمع قبل الدخول بل لم يكونوا يعلمون أنه يجمع حتى يقضي الصلاة الأولى فعلم أيضا أن الجمع لا يفتقر إلى أن ينوي حين الشروع في الأولى كقول الجمهور والمنصوص عن أحمد يوافق ذلك .

وقد تنازع العلماء في التربيع في السفر : هل هو حرام ؟ أو مكروه ؟ أو ترك الأولى ؟ أو هو الراجح ؟ فمذهب أبي حنيفة وقول في مذهب مالك : أن القصر واجب وليس له أن يصلي أربعا [ ص: 22 ] ومذهب مالك في الرواية الأخرى وأحمد في أحد القولين بل نصهما أن الإتمام مكروه . ومذهبه في الرواية الأخرى ومذهب الشافعي في أظهر قوليه : أن القصر هو الأفضل والتربيع ترك الأولى . وللشافعي قول أن التربيع أفضل وهذا أضعف الأقوال .

وقد ذهب بعض الخوارج إلى أنه لا يجوز القصر إلا مع الخوف ويذكر هذا قولا للشافعي وما أظنه يصح عنه فإنه قد ثبت بالسنة المتواترة : { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بأصحابه بمنى ركعتين ركعتين آمن ما كان الناس } وكذلك بعده أبو بكر وكذلك بعده عمر .

وإذا كان كذلك فكيف يسوى بين الجمع والقصر وفعل كل صلاة في وقتها أفضل إذا لم يكن حاجة عند الأئمة كلهم وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في ظاهر مذهبيهما بل تنازعوا في جواز الجمع على ثلاثة أقوال .

فمذهب أبي حنيفة أنه لا يجمع إلا بعرفة ومزدلفة . ومذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين أنه لا يجمع المسافر إذا كان نازلا وإنما يجمع إذا كان سائرا بل عند مالك إذا جد به السير ومذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى أنه يجمع المسافر وإن كان نازلا .

[ ص: 23 ] وسبب هذا النزاع ما بلغهم من أحاديث الجمع فإن أحاديث الجمع قليلة فالجمع بعرفة ومزدلفة متفق عليه وهو منقول بالتواتر فلم يتنازعوا فيه . وأبو حنيفة لم يقل بغيره لحديث ابن مسعود الذي في الصحيح أنه قال : { ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة لغير وقتها إلا صلاة الفجر بمزدلفة وصلاة المغرب ليلة جمع } . وأراد بقوله { في الفجر لغير وقتها } التي كانت عادته أن يصليها فيه فإنه جاء في الصحيح عن جابر { أنه صلى الفجر بمزدلفة بعد أن برق الفجر } وهذا متفق عليه بين المسلمين أن الفجر لا يصلى حتى يطلع الفجر لا بمزدلفة ولا غيرها لكن بمزدلفة غلس بها تغليسا شديدا .

وأما أكثر الأئمة فبلغتهم أحاديث في الجمع صحيحة كحديث أنس وابن عباس وابن عمر ومعاذ وكلها من الصحيح . ففي الصحيحين عن أنس : { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فصلاهما جميعا وإذا ارتحل بعد أن تزيغ الشمس صلى الظهر والعصر ثم ركب } وفي لفظ في الصحيح { كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين في السفر أخر الظهر حتى يدخل أول وقت العصر ثم يجمع بينهما } وفي الصحيحين عن ابن عمر { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا عجل به السير جمع بين المغرب والعشاء } وفي لفظ في الصحيح " أن [ ص: 24 ] ابن عمر كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء " بعد أن يغيب الشفق . ويقول : { إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء } .

وفي صحيح مسلم عن ابن عباس { أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين في سفرة سافرها في غزوة تبوك فجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء } . قال سعيد بن جبير قلت لابن عباس : ما حمله على ذلك ؟ قال : أراد أن لا يحرج أمته . وكذلك في صحيح مسلم عن أبي الطفيل عن معاذ بن جبل قال : { جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء . قال : فقلت : ما حمله على ذلك ؟ قال : أراد أن لا يحرج أمته } بل قد ثبت عنه أنه جمع في المدينة كما في الصحيحين عن ابن عباس قال : { صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعا من غير خوف ولا سفر } . وفي لفظ في الصحيحين عن ابن عباس : { أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالمدينة سبعا وثمانيا جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء } قال أيوب لعله في ليلة مطيرة وكان أهل المدينة يجمعون في الليلة المطيرة بين المغرب والعشاء ويجمع معهم عبد الله بن عمر . وروي ذلك مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وهذا العمل من الصحابة .

[ ص: 25 ] وقولهم : " أراد أن لا يحرج أمته " يبين أنه ليس المراد بالجمع تأخير الأولى إلى آخر وقتها وتقديم الثانية في أول وقتها فإن مراعاة مثل هذا فيه حرج عظيم . ثم إن هذا جائز لكل أحد في كل وقت ورفع الحرج إنما يكون عند الحاجة فلا بد أن يكون قد رخص لأهل الأعذار فيما يرفع به عنهم الحرج دون غير أرباب الأعذار .

وهذا ينبني على أصل كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو : أن المواقيت لأهل الأعذار ثلاثة ولغيرهم خمسة فإن الله تعالى قال : { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل } فذكر ثلاثة مواقيت والطرف الثاني يتناول الظهر والعصر . والزلف يتناول المغرب والعشاء . وكذلك قال : { أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل } والدلوك هو الزوال في أصح القولين . يقال : دلكت الشمس وزالت وزاغت ومالت . فذكر الدلوك والغسق وبعد الدلوك يصلى الظهر والعصر وفي الغسق تصلى المغرب والعشاء ذكر أول الوقت وهو الدلوك وآخر الوقت وهو الغسق والغسق اجتماع الليل وظلمته .

ولهذا قال الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وغيره : المرأة الحائض إذا طهرت قبل طلوع الفجر صلت المغرب والعشاء . وإذا طهرت قبل غروب الشمس صلت الظهر والعصر . وهذا مذهب جمهور الفقهاء كمالك والشافعي وأحمد .

[ ص: 26 ] وأيضا فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة ومزدلفة يدل على جواز الجمع بغيرهما للعذر فإنه قد كان من الممكن أن يصلي الظهر ويؤخر العصر إلى دخول وقتها ولكن لأجل النسك والاشتغال بالوقوف قدم العصر . ولهذا كان القول المرضي عند جماهير العلماء أنه يجمع بمزدلفة وعرفة من كان أهله على مسافة القصر ومن لم يكن أهله كذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى صلى معه جميع المسلمين أهل مكة وغيرهم ولم يأمر أحدا منهم بتأخير العصر ولا بتقديم المغرب فمن قال من أصحاب الشافعي وأحمد : أن أهل مكة لا يجمعون فقوله ضعيف في غاية الضعف مخالف للسنة البينة الواضحة التي لا ريب فيها ; وعذرهم في ذلك أنهم اعتقدوا أن سبب الجمع هو السفر الطويل والصواب أن الجمع لا يختص بالسفر الطويل بل يجمع للمطر ويجمع للمرض كما جاءت بذلك السنة في جمع المستحاضة فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بالجمع في حديثين .

وأيضا فكون الجمع يختص بالطويل فيه قولان للعلماء وهما وجهان في مذهب أحمد : أحدهما : يجمع في القصير وهو المشهور ومذهب الشافعي لا .

والأول أصح لما تقدم والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية