صفحة جزء
[ ص: 345 ] وسئل شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية - قدس الله روحه - عن قوله صلى الله عليه وسلم " تفترق أمتي ثلاثة وسبعين فرقة " .

ما الفرق ؟ وما معتقد كل فرقة من هذه الصنوف ؟ .


فأجاب : - الحمد لله .

الحديث صحيح مشهور في السنن والمساند ; كسنن أبي داود والترمذي والنسائي وغيرهم ولفظه { افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة } وفي لفظ { على ثلاث وسبعين ملة } وفي رواية { قالوا : يا رسول الله من الفرقة الناجية ؟ قال : من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي } وفي رواية قال { هي الجماعة يد الله على الجماعة } .

ولهذا وصف الفرقة الناجية بأنها أهل السنة والجماعة وهم الجمهور الأكبر والسواد الأعظم .

[ ص: 346 ] وأما الفرق الباقية فإنهم أهل الشذوذ والتفرق والبدع والأهواء ولا تبلغ الفرقة من هؤلاء قريبا من مبلغ الفرقة الناجية فضلا عن أن تكون بقدرها بل قد تكون الفرقة منها في غاية القلة .

وشعار هذه الفرق مفارقة الكتاب والسنة والإجماع .

فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة .

وأما تعيين هذه الفرق فقد صنف الناس فيهم مصنفات وذكروهم في كتب المقالات ; لكن الجزم بأن هذه الفرقة الموصوفة هي إحدى الثنتين والسبعين لا بد له من دليل فإن الله حرم القول بلا علم عموما ; وحرم القول عليه بلا علم خصوصا ; فقال تعالى : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } وقال تعالى : { يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين } { إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } وقال تعالى : { ولا تقف ما ليس لك به علم } .

وأيضا فكثير من الناس يخبر عن هذه الفرق بحكم الظن والهوى فيجعل طائفته والمنتسبة إلى متبوعه الموالية له هم أهل السنة والجماعة ; ويجعل من خالفها أهل البدع وهذا ضلال مبين .

فإن أهل الحق والسنة لا يكون متبوعهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى فهو الذي يجب تصديقه في كل ما أخبر ; وطاعته في كل ما أمر وليست [ ص: 347 ] هذه المنزلة لغيره من الأئمة بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فمن جعل شخصا من الأشخاص غير رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحبه ووافقه كان من أهل السنة والجماعة ومن خالفه كان من أهل البدعة والفرقة - كما يوجد ذلك في الطوائف من اتباع أئمة في الكلام في الدين وغير ذلك - كان من أهل البدع والضلال والتفرق .

وبهذا يتبين أن أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية أهل الحديث والسنة ; الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله وأعظمهم تمييزا بين صحيحها وسقيمها وأئمتهم فقهاء فيها [ وأهل ] معرفة بمعانيها واتباعا لها : تصديقا وعملا وحبا وموالاة لمن والاها ومعاداة لمن عاداها الذين يروون المقالات المجملة إلى ما جاء به من الكتاب والحكمة ; فلا ينصبون مقالة ويجعلونها من أصول دينهم وجمل كلامهم إن لم تكن ثابتة فيما جاء به الرسول بل يجعلون ما بعث به الرسول من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه .

وما تنازع فيه الناس من مسائل الصفات والقدر والوعيد والأسماء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك يردونه إلى الله ورسوله ويفسرون الألفاظ المجملة التي تنازع فيها أهل التفرق والاختلاف ; فما كان من معانيها موافقا للكتاب والسنة أثبتوه ; وما كان منها مخالفا للكتاب والسنة [ ص: 348 ] أبطلوه ; ولا يتبعون الظن وما تهوى الأنفس فإن اتباع الظن جهل واتباع هوى النفس بغير هدى من الله ظلم .

وجماع الشر الجهل والظلم قال الله تعالى : { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا } إلى آخر السورة .

وذكر التوبة لعلمه سبحانه وتعالى أنه لا بد لكل إنسان من أن يكون فيه جهل وظلم ثم يتوب الله على من يشاء فلا يزال العبد المؤمن دائما يتبين له من الحق ما كان جاهلا به ويرجع عن عمل كان ظالما فيه .

وأدناه ظلمه لنفسه كما قال تعالى : { الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور } وقال تعالى { هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور } وقال تعالى { الر } { كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور } .

ومما ينبغي أيضا أن يعرف أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في أصول الدين والكلام : على درجات منهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة ومنهم من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة .

ومن يكون قد رد على غيره من الطوائف الذين هم أبعد عن السنة منه ; فيكون محمودا فيما رده من الباطل وقاله من الحق ; لكن يكون قد جاوز العدل في رده بحيث جحد بعض الحق وقال بعض الباطل فيكون قد رد بدعة كبيرة ببدعة أخف منها ; ورد بالباطل باطلا بباطل أخف منه وهذه حال أكثر أهل الكلام المنتسبين إلى السنة والجماعة .

[ ص: 349 ] ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولا يفارقون به جماعة المسلمين ; يوالون عليه ويعادون ; كان من نوع الخطأ .

والله سبحانه وتعالى يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك .

ولهذا وقع في مثل هذا كثير من سلف الأمة وأئمتها : لهم مقالات قالوها باجتهاد وهي تخالف ما ثبت في الكتاب والسنة ; بخلاف من والى موافقه وعادى مخالفه وفرق بين جماعة المسلمين وكفر وفسق مخالفه دون موافقه في مسائل الآراء والاجتهادات ; واستحل قتال مخالفه دون موافقه فهؤلاء من أهل التفرق والاختلافات .

ولهذا كان أول من فارق جماعة المسلمين من أهل البدع " الخوارج " المارقون .

وقد صح الحديث في الخوارج عن النبي صلى الله عليه وسلم من عشرة أوجه خرجها مسلم في صحيحه ; وخرج البخاري منها غير وجه .

وقد قاتلهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فلم يختلفوا في قتالهم كما اختلفوا في قتال الفتنة يوم الجمل وصفين إذ كانوا في ذلك ثلاثة أصناف : صنف قاتلوا مع هؤلاء ; وصنف قاتلوا مع هؤلاء ; وصنف أمسكوا عن القتال وقعدوا .

وجاءت النصوص بترجيح هذه الحال .

فالخوارج لما فارقوا جماعة المسلمين وكفروهم واستحلوا قتالهم جاءت السنة [ ص: 350 ] بما جاء فيهم ; كقول النبي صلى الله عليه وسلم { يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة } .

وقد كان أولهم خرج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى قسمة النبي صلى الله عليه وسلم { قال : يا محمد اعدل فإنك لم تعدل فقال له النبي صلى الله عليه وسلم لقد خبت وخسرت إن لم أعدل فقال له بعض أصحابه : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال : إنه يخرج من ضئضئ هذا أقوام يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم } الحديث .

فكان مبدأ البدع هو الطعن في السنة بالظن والهوى ; كما طعن إبليس في أمر ربه برأيه وهواه .

وأما تعيين الفرق الهالكة فأقدم من بلغنا أنه تكلم في تضليلهم يوسف بن أسباط ثم عبد الله بن المبارك وهما - إمامان جليلان من أجلاء أئمة المسلمين قالا : أصول البدع أربعة : الروافض والخوارج والقدرية والمرجئة .

فقيل لابن المبارك : والجهمية ؟ فأجاب : بأن أولئك ليسوا من أمة محمد .

وكان يقول : إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية .

وهذا الذي قاله اتبعه عليه طائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم قالوا : [ ص: 351 ] إن الجهمية كفار فلا يدخلون في الاثنتين والسبعين فرقة كما لا يدخل فيهم - المنافقون الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام وهم الزنادقة .

وقال آخرون من أصحاب أحمد وغيرهم : بل الجهمية داخلون في الاثنتين والسبعين فرقة وجعلوا أصول البدع خمسة فعلى قول هؤلاء : يكون كل طائفة من " المبتدعة الخمسة " اثنا عشر فرقة وعلى قول الأولين : يكون كل طائفة من " المبتدعة الأربعة " ثمانية عشر فرقة .

وهذا يبنى على أصل آخر وهو " تكفير أهل البدع " فمن أخرج الجهمية منهم لم يكفرهم فإنه لا يكفر سائر أهل البدع بل يجعلهم من أهل الوعيد بمنزلة الفساق والعصاة ، ويجعل قوله هم في النار مثل ما جاء في سائر الذنوب مثل أكل مال اليتيم وغيره كما قال تعالى : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا } .

ومن أدخلهم فيهم فهم على قولين : منهم من يكفرهم كلهم وهذا إنما قاله بعض المستأخرين المنتسبين إلى الأئمة أو المتكلمين .

وأما السلف والأئمة فلم يتنازعوا في عدم تكفير " المرجئة " و " الشيعة " المفضلة ونحو ذلك ولم تختلف نصوص أحمد في أنه لا يكفر هؤلاء وإن كان من أصحابه من حكى في تكفير جميع أهل البدع - من هؤلاء وغيرهم - خلافا [ ص: 352 ] عنه أو في مذهبه حتى أطلق بعضهم تخليد هؤلاء وغيرهم وهذا غلط على مذهبه وعلى الشريعة .

ومنهم من لم يكفر أحدا من هؤلاء إلحاقا لأهل البدع بأهل المعاصي قالوا : فكما أن من أصول أهل السنة والجماعة أنهم لا يكفرون أحدا بذنب فكذلك لا يكفرون أحدا ببدعة .

والمأثور عن السلف والأئمة إطلاق أقوال بتكفير " الجهمية المحضة " الذين ينكرون الصفات وحقيقة قولهم أن الله لا يتكلم ولا يرى ; ولا يباين الخلق ; ولا له علم ولا قدرة ولا سمع ولا بصر ولا حياة بل القرآن مخلوق وأهل الجنة لا يرونه كما لا يراه أهل النار وأمثال هذه المقالات .

وأما الخوارج والروافض ففي تكفيرهم نزاع وتردد عن أحمد وغيره .

وأما القدرية الذين ينفون [ الكتابة ] والعلم فكفروهم ولما يكفروا من أثبت العلم ولم يثبت خلق الأفعال .

وفصل الخطاب في هذا الباب بذكر أصلين : ( أحدهما ) : أن يعلم أن الكافر في نفس الأمر من أهل الصلاة لا يكون إلا منافقا فإن الله منذ بعث محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن وهاجر إلى المدينة صار الناس ثلاثة أصناف : مؤمن به وكافر به مظهر الكفر [ ص: 353 ] ومنافق مستخف بالكفر .

ولهذا ذكر الله هذه الأصناف الثلاثة في أول سورة البقرة ذكر أربع آيات في نعت المؤمنين ; وآيتين في الكفار ; وبضع عشر آية في المنافقين .

وقد ذكر الله الكفار والمنافقين في غير موضع من القرآن كقوله : { ولا تطع الكافرين والمنافقين } .

وقوله : { إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا } .

وقوله : { فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا } .

وعطفهم على الكفار ليميزهم عنهم بإظهار الإسلام وإلا فهم في الباطن شر من الكفار كما قال تعالى : { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } .

وكما قال : { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله } .

وكما قال : { قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين } { وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون } .

وإذا كان كذلك فأهل البدع فيهم المنافق الزنديق فهذا كافر ويكثر مثل هذا في الرافضة والجهمية فإن رؤساءهم كانوا منافقين زنادقة .

وأول من ابتدع الرفض كان منافقا .

وكذلك التجهم فإن أصله زندقة ونفاق .

ولهذا كان الزنادقة المنافقون من القرامطة الباطنية المتفلسفة وأمثالهم يميلون إلى الرافضة والجهمية لقربهم منهم .

ومن أهل البدع من يكون فيه إيمان باطنا وظاهرا لكن فيه جهل وظلم [ ص: 354 ] حتى أخطأ ما أخطأ من السنة ; فهذا ليس بكافر ولا منافق ثم قد يكون منه عدوان وظلم يكون به فاسقا أو عاصيا ; وقد يكون مخطئا متأولا مغفورا له خطؤه ; وقد يكون مع ذلك معه من الإيمان والتقوى ما يكون معه من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه فهذا أحد الأصلين .

والأصل الثاني : أن المقالة تكون كفرا : كجحد وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وتحليل الزنا والخمر والميسر ونكاح ذوات المحارم ثم القائل بها قد يكون بحيث لم يبلغه الخطاب وكذا لا يكفر به جاحده كمن هو حديث عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه شرائع الإسلام فهذا لا يحكم بكفره بجحد شيء مما أنزل على الرسول إذا لم يعلم أنه أنزل على الرسول ومقالات الجهمية هي من هذا النوع فإنها جحد لما هو الرب تعالى عليه ولما أنزل الله على رسوله .

وتغلط مقالاتهم من ثلاثة أوجه : أحدها : أن النصوص المخالفة لقولهم في الكتاب والسنة والإجماع كثيرة جدا مشهورة وإنما يردونها بالتحريف .

الثاني : أن حقيقة قولهم تعطيل الصانع وإن كان منهم من لا يعلم أن قولهم مستلزم تعطيل الصانع ، فكما أن أصل الإيمان الإقرار بالله فأصل الكفر الإنكار لله .

[ ص: 355 ] الثالث : أنهم يخالفون ما اتفقت عليه الملل كلها وأهل الفطر السليمة كلها ; لكن مع هذا قد يخفى كثير من مقالاتهم على كثير من أهل الإيمان حتى يظن أن الحق معهم لما يوردونه من الشبهات .

ويكون أولئك المؤمنون مؤمنين بالله ورسوله باطنا وظاهرا ; وإنما التبس عليهم واشتبه هذا كما التبس على غيرهم من أصناف المبتدعة فهؤلاء ليسوا كفارا قطعا بل قد يكون منهم الفاسق والعاصي ; وقد يكون منهم المخطئ المغفور له ; وقد يكون معه من الإيمان والتقوى ما يكون معه به من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه .

وأصل قول أهل السنة الذي فارقوا به الخوارج والجهمية والمعتزلة والمرجئة أن الإيمان يتفاضل ويتبعض ; كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان } وحينئذ فتتفاضل ولاية الله وتتبعض بحسب ذلك .

وإذا عرف أصل البدع فأصل قول الخوارج أنهم يكفرون بالذنب ، ويعتقدون ذنبا ما ليس بذنب ، ويرون اتباع الكتاب دون السنة التي تخالف ظاهر الكتاب - وإن كانت متواترة - ويكفرون من خالفهم ويستحلون منه لارتداده عندهم ما لا يستحلونه من الكافر الأصلي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم { يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان } ولهذا كفروا عثمان وعليا وشيعتهما ; وكفروا أهل صفين - الطائفتين - في نحو ذلك من المقالات الخبيثة .

[ ص: 356 ] وأصل قول الرافضة : أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على علي نصا قاطعا للعذر ; وأنه إمام معصوم ومن خالفه كفر ; وأن المهاجرين والأنصار كتموا النص وكفروا بالإمام المعصوم ; واتبعوا أهواءهم وبدلوا الدين وغيروا الشريعة وظلموا واعتدوا ; بل كفروا إلا نفرا قليلا : بضعة عشر أو أكثر ثم يقولون : إن أبا بكر وعمر ونحوهما ما زالا منافقين .

وقد يقولون : بل آمنوا ثم كفروا .

وأكثرهم يكفر من خالف قولهم ويسمون أنفسهم المؤمنين ومن خالفهم كفارا ويجعلون مدائن الإسلام التي لا تظهر فيها أقوالهم دار ردة أسوأ حالا من مدائن المشركين والنصارى ولهذا يوالون اليهود والنصارى والمشركين على بعض جمهور المسلمين .

وعلى معاداتهم ومحاربتهم : كما عرف من موالاتهم الكفار المشركين على جمهور المسلمين ; ومن موالاتهم الإفرنج النصارى على جمهور المسلمين ; ومن موالاتهم اليهود على جمهور المسلمين .

ومنهم ظهرت أمهات الزندقة والنفاق كزندقة القرامطة الباطنية وأمثالهم ولا ريب أنهم أبعد طوائف المبتدعة عن الكتاب والسنة ولهذا كانوا هم المشهورين عند العامة بالمخالفة للسنة فجمهور العامة لا تعرف ضد السني إلا الرافضي فإذا قال أحدهم : أنا سني فإنما معناه لست رافضيا .

ولا ريب أنهم شر من الخوارج : لكن الخوارج كان لهم في مبدأ الإسلام سيف على أهل الجماعة وموالاتهم الكفار أعظم من سيوف [ ص: 357 ] الخوارج فإن القرامطة والإسماعيلية ونحوهم من أهل المحاربة لأهل الجماعة وهم منتسبون إليهم وأما الخوارج فهم معروفون بالصدق ; والروافض معروفون بالكذب .

والخوارج مرقوا من الإسلام وهؤلاء نابذوا الإسلام .

وأما القدرية المحضة فهم خير من هؤلاء بكثير وأقرب إلى الكتاب والسنة لكن المعتزلة وغيرهم من القدرية هم جهمية أيضا وقد يكفرون من خالفهم ويستحلون دماء المسلمين فيقربون من أولئك .

وأما المرجئة فليسوا من هذه البدع المغلظة بل قد دخل في قولهم طوائف من أهل الفقه والعبادة ; وما كانوا يعدون إلا من أهل السنة ; حتى تغلظ أمرهم بما زادوه من الأقوال المغلظة .

ولما كان قد نسب إلى الإرجاء والتفضيل قوم مشاهير متبعون : تكلم أئمة السنة المشاهير في ذم المرجئة المفضلة تنفيرا عن مقالتهم كقول سفيان الثوري : من قدم عليا على أبي بكر والشيخين فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار ; وما أرى يصعد له إلى الله عمل مع ذلك .

أو نحو هذا القول .

قاله لما نسب إلى تقديم على بعض أئمة الكوفيين .

وكذلك قول أيوب السختياني : من قدم عليا ع لي عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار قاله لما بلغه ذلك عن بعض أئمة الكوفيين .

وقد روي أنه رجع عن ذلك .

وكذلك قول الثوري ومالك والشافعي وغيرهم في ذم المرجئة لما نسب إلى الإرجاء بعض المشهورين .

[ ص: 358 ] وكلام الإمام أحمد في هذا الباب جار على كلام من تقدم من أئمة الهدى ليس له قول ابتدعه ولكن أظهر السنة وبينها ; وذب عنها وبين حال مخالفيها وجاهد عليها ; وصبر على الأذى فيها لما أظهرت الأهواء والبدع ; وقد قال الله تعالى : { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون } فالصبر واليقين بهما تنال الإمامة في الدين فلما قام بذلك قرنت باسمه من الإمامة في السنة ما شهر به وصار متبوعا لمن بعده كما كان تابعا لمن قبله .

وإلا فالسنة هي ما تلقاه الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقاه عنهم التابعون ثم تابعوهم إلى يوم القيامة وإن كان بعض الأئمة بها أعلم وعليها أصبر .

والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم .

والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية