صفحة جزء
[ ص: 254 ] باب صلاة الكسوف سئل شيخ الإسلام عن قول أهل التقاويم : في أن الرابع عشر من هذا الشهر يخسف القمر وفي التاسع والعشرين تكسف الشمس فهل يصدقون في ذلك ؟ وإذا خسفا هل يصلى لهما ؟ أم يسبح ؟ وإذا صلى كيف صفة الصلاة ؟ ويذكر لنا أقوال العلماء في ذلك .


فأجاب : الحمد لله . الخسوف والكسوف لهما أوقات مقدرة كما لطلوع الهلال وقت مقدر وذلك ما أجرى الله عادته بالليل والنهار ، والشتاء والصيف وسائر ما يتبع جريان الشمس والقمر .

وذلك من آيات الله تعالى . كما قال تعالى : { وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون } وقال تعالى : { هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق } وقال تعالى : [ ص: 255 ] { الشمس والقمر بحسبان } وقال تعالى : { فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم } وقال تعالى : { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج } وقال تعالى : { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم } .

وقال تعالى : { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون } { والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم } { والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم } { لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون } .

وكما أن العادة التي أجراها الله تعالى أن الهلال لا يستهل إلا ليلة ثلاثين من الشهر أو ليلة إحدى وثلاثين وأن الشهر لا يكون إلا ثلاثين أو تسعة وعشرين . فمن ظن أن الشهر يكون أكثر من ذلك أو أقل فهو غالط .

فكذلك أجرى الله العادة أن الشمس لا تكسف إلا وقت الاستسرار وأن القمر لا يخسف إلا وقت الإبدار ووقت إبداره هي الليالي البيض التي يستحب صيام أيامها : ليلة الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر . فالقمر لا يخسف إلا في هذه الليالي .

[ ص: 256 ] والهلال يستسر آخر الشهر : إما ليلة وإما ليلتين . كما يستسر ليلة تسع وعشرين وثلاثين والشمس لا تكسف إلا وقت استسراره وللشمس والقمر ليالي معتادة من عرفها عرف الكسوف والخسوف . كما أن من علم كم مضى من الشهر يعلم أن الهلال يطلع في الليلة الفلانية أو التي قبلها .

لكن العلم بالعادة في الهلال علم عام يشترك فيه جميع الناس وأما العلم بالعادة في الكسوف والخسوف فإنما يعرفه من يعرف حساب جريانهما وليس خبر الحاسب بذلك من باب علم الغيب ولا من باب ما يخبر به من الأحكام التي يكون كذبه فيها أعظم من صدقه فإن ذلك قول بلا علم ثابت وبناء على غير أصل صحيح .

وفي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد } . وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه لم يقبل الله صلاته أربعين يوما } . والكهان أعلم بما يقولونه من المنجمين في الأحكام ومع هذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن إتيانهم ومسألتهم فكيف بالمنجم ؟ وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع عن هذا الجواب .

[ ص: 257 ] وأما ما يعلم بالحساب فهو مثل العلم بأوقات الفصول كأول الربيع والصيف والخريف والشتاء لمحاذاة الشمس أوائل البروج التي يقولون فيها إن الشمس نزلت في برج كذا : أي حاذته .

ومن قال من الفقهاء إن الشمس تكسف في غير وقت الاستسرار فقد غلط وقال ما ليس له به علم . وما يروى عن الواقدي من ذكره : أن إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم مات يوم العاشر من الشهر وهو اليوم الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الكسوف : غلط . والواقدي لا يحتج بمسانيده فكيف بما أرسله من غير أن يسنده إلى أحد وهذا فيما لم يعلم أنه خطأ فأما هذا فيعلم أنه خطأ . ومن جوز هذا فقد قفا ما ليس له به علم ومن حاج في ذلك فقد حاج في ما ليس له به علم .

وأما ما ذكره طائفة من الفقهاء من اجتماع صلاة العيد والكسوف فهذا ذكروه في ضمن كلامهم فيما إذا اجتمع صلاة الكسوف وغيرها من الصلوات فقد رأوا اجتماعها مع الوتر والظهر وذكروا صلاة العيد مع عدم استحضارهم هل يمكن ذلك في العادة أو لا يمكن فلا يوجد في تقديرهم ذلك العلم بوجود ذلك في الخارج لكن استفيد من ذلك العلم علم ذلك على تقدير وجوده كما يقدرون مسائل يعلم أنها لا تقع لتحرير القواعد وتمرين الأذهان على ضبطها .

[ ص: 258 ] وأما تصديق المخبر بذلك وتكذيبه فلا يجوز أن يصدق إلا أن يعلم صدقه ولا يكذب إلا أن يعلم كذبه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوهم وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوهم } .

والعلم بوقت الكسوف والخسوف وإن كان ممكنا لكن هذا المخبر المعين قد يكون عالما بذلك وقد لا يكون وقد يكون ثقة في خبره وقد لا يكون . وخبر المجهول الذي لا يوثق بعلمه وصدقه ولا يعرف كذبه موقوف . ولو أخبر مخبر بوقت الصلاة وهو مجهول لم يقبل خبره ولكن إذا تواطأ خبر أهل الحساب على ذلك فلا يكادون يخطئون ومع هذا فلا يترتب على خبرهم علم شرعي فإن صلاة الكسوف والخسوف لا تصلى إلا إذا شاهدنا ذلك وإذا جوز الإنسان صدق المخبر بذلك أو غلب على ظنه فنوى أن يصلي الكسوف والخسوف عند ذلك واستعد ذلك الوقت لرؤية ذلك كان هذا حثا من باب المسارعة إلى طاعة الله تعالى وعبادته فإن الصلاة عند الكسوف متفق عليها بين المسلمين وقد تواترت بها السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواها أهل الصحيح والسنن والمسانيد من وجوه كثيرة . واستفاض عنه أنه صلى بالمسلمين صلاة الكسوف يوم مات ابنه إبراهيم .

[ ص: 259 ] وكأن بعض الناس ظن أن كسوفها كان لأن إبراهيم مات فخطبهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال : { إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة } . وفي رواية في الصحيح { ولكنهما آيتان من آيات الله يخوف بهما عباده } . وهذا بيان منه صلى الله عليه وسلم أنهما سبب لنزول عذاب بالناس فإن الله إنما يخوف عباده بما يخافونه إذا عصوه وعصوا رسله وإنما يخاف الناس مما يضرهم فلولا إمكان حصول الضرر بالناس عند الخسوف ما كان ذلك تخويفا قال تعالى : { وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا } وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بما يزيل الخوف ، أمر بالصلاة والدعاء والاستغفار والصدقة والعتق حتى يكشف ما بالناس وصلى بالمسلمين في الكسوف صلاة طويلة .

وقد روي في صفة صلاة الكسوف أنواع ; لكن الذي استفاض عند أهل العلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورواه البخاري ومسلم من غير وجه وهو الذي استحبه أكثر أهل العلم : كمالك والشافعي وأحمد : أنه صلى بهم ركعتين في كل ركعة ركوعان يقرأ قراءة طويلة ثم يركع ركوعا طويلا دون القراءة ثم يقوم فيقرأ قراءة طويلة دون القراءة الأولى ثم يركع ركوعا دون الركوع [ ص: 260 ] الأول ثم يسجد سجدتين طويلتين . وثبت عنه في الصحيح : أنه جهر بالقراءة فيها .

والمقصود أن تكون الصلاة وقت الكسوف إلى أن يتجلى فإن فرغ من الصلاة قبل التجلي ذكر الله ودعاه إلى أن يتجلى .

والكسوف يطول زمانه تارة ويقصر أخرى بحسب ما يكسف منها فقد تكسف كلها وقد يكسف نصفها أو ثلثها . فإذا عظم الكسوف طول الصلاة حتى يقرأ بالبقرة ونحوها في أول ركعة وبعد الركوع الثاني يقرأ بدون ذلك .

وقد جاءت الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم بما ذكرناه كله مثل ما في الصحيحين عن أبي مسعود الأنصاري قال : { انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم فقال الناس : انكسفت الشمس لموت إبراهيم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله وإلى الصلاة } . وفي الصحيح عن أبي موسى أنه صلى الله عليه وسلم قال : { هذه الآيات التي يرسلها الله لا تكون لموت أحد ولا لحياته ولكن الله يخوف بها عباده فإذا رأيتم شيئا من ذلك فافزعوا إلى ذكره [ ص: 261 ] ودعائه واستغفاره } . وفي الصحيحين من { حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال : إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله وإنهما لا ينكسفان لموت أحد من الناس فإذا رأيتم شيئا من ذلك فصلوا حتى ينجلي } وفي رواية عن ابن مسعود { فإذا رأيتم شيئا منها فصلوا وادعوا حتى يكشف ما بكم } . وفي رواية لعائشة { فصلوا حتى يفرج الله ما بكم } .

وفي الصحيحين { عن عائشة : أن الشمس خسفت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فقام وكبر وصف الناس وراءه فاقترأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة طويلة ثم كبر فركع ركوعا طويلا ثم رفع رأسه . فقال : سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد . ثم قام فاقترأ قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى ثم كبر فركع ركوعا طويلا هو أدنى من الركوع الأول ثم قال : سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ثم سجد ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ذلك حتى استكمل أربع ركعات وأربع سجدات وانجلت الشمس قبل أن ينصرف } .

وقد جاء إطالته للسجود في حديث صحيح وكذلك الجهر بالقراءة لكن روي في القراءة المخافتة والجهر أصح . وأما تطويل السجود فلم [ ص: 262 ] يختلف فيه الحديث لكن في كل حديث زيادة ليست في الآخر والأحاديث الصحيحة كلها متفقة لا تختلف والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية