صفحة جزء
وأما العقل : فاعلم أن المحققين من أهل الحساب كلهم متفقون على أنه لا يمكن ضبط الرؤية بحساب بحيث يحكم بأنه يرى لا محالة أو لا يرى ألبتة على وجه مطرد وإنما قد يتفق ذلك أو لا يمكن بعض الأوقات ولهذا كان المعتنون بهذا الفن من الأمم : الروم والهند والفرس والعرب وغيرهم مثل بطليموس الذي هو مقدم هؤلاء ومن بعدهم قبل الإسلام وبعده لم ينسبوا إليه في الرؤية حرفا واحدا ولا حدوه كما حدوا اجتماع القرصين وإنما تكلم به قوم منهم في أبناء الإسلام : مثل [ ص: 184 ] كوشيار الديلمي وعليه وعلى مثله يعتمد من تكلم في الرؤية منهم . وقد أنكر ذلك عليه حذاقهم مثل أبي علي المروذي القطان وغيره وقالوا إنه تشوق بذلك عند المسلمين وإلا فهذا لا يمكن ضبطه .

ولعل من دخل في ذلك منهم كان مرموقا بنفاق فما النفاق من هؤلاء ببعيد أو يتقرب به إلى بعض الملوك الجهال ممن يحسن ظنه بالحساب مع انتسابه إلى الإسلام .

وبيان امتناع ضبط ذلك : أن الحساب إنما يقدره على ضبط شبح الشمس والقمر وجريهما أنهما يتحاذيان في الساعة الفلانية في البرج الفلاني في السماء المحاذي للمكان الفلاني من الأرض سواء كان الاجتماع من ليل أو نهار وهذا الاجتماع يكون بعد الاستسرار وقبل الاستهلال فإن القمر يجري في منازله الثمانية والعشرين كما قدره الله منازل ثم يقرب من الشمس فيستسر ليلة أو ليلتين ; لمحاذاته لها فإذا خرج من تحتها جعل الله فيه النور ثم يزداد النور كلما بعد عنها إلى أن يقابلها ليلة الإبدار ثم ينقص كلما قرب منها إلى أن يجامعها ولهذا يقولون الاجتماع والاستقبال ولا يقدرون أن يقولوا : الهلال وقت المفارقة على كذا . يقولون : الاجتماع وقت الاستسرار والاستقبال وقت الإبدار .

[ ص: 185 ] ومن معرفة الحساب الاستسرار والإبدار الذي هو الاجتماع والاستقبال فالناس يعبرون عن ذلك بالأمر الظاهر من الاستسرار الهلالي في آخر الشهر وظهوره في أوله وكمال نوره في وسطه والحساب يعبرون بالأمر الخفي من اجتماع القرصين الذي هو وقت الاستسرار ومن استقبال الشمس والقمر الذي هو وقت الإبدار فإن هذا يضبط بالحساب .

وأما الإهلال فلا له عندهم من جهة الحساب ضبط ; لأنه لا يضبط بحساب يعرف كما يعرف وقت الكسوف والخسوف فإن الشمس لا تكسف في سنة الله التي جعل لها إلا عند الاستسرار إذا وقع القمر بينها وبين أبصار الناس على محاذاة مضبوطة وكذلك القمر لا يخسف إلا في ليالي الإبدار على محاذاة مضبوطة لتحول الأرض بينه وبين الشمس فمعرفة الكسوف والخسوف لمن صح حسابه مثل معرفة كل أحد أن ليلة الحادي والثلاثين من الشهر لا بد أن يطلع الهلال وإنما يقع الشك ليلة الثلاثين . فنقول الحاسب غاية ما يمكنه إذا صح حسابه أن يعرف مثلا أن القرصين اجتمعا في الساعة الفلانية وأنه عند غروب الشمس يكون قد فارقها القمر إما بعشر درجات مثلا أو أقل أو أكثر . والدرجة هي جزء من ثلاثمائة وستين جزءا من الفلك .

[ ص: 186 ] فإنهم قسموه اثني عشر قسما سموها " الداخل " : كل برج اثنا عشر درجة وهذا غاية معرفته وهي بتحديدكم بينهما من البعد في وقت معين في مكان معين . هذا الذي يضبطه بالحساب . أما كونه يرى أو لا يرى فهذا أمر حسي طبيعي ليس هو أمرا حسابيا رياضيا . وإنما غايته أن يقول : استقرأنا أنه إذا كان على كذا وكذا درجة يرى قطعا أو لا يرى قطعا . فهذا جهل وغلط ; فإن هذا لا يجري على قانون واحد لا يزيد ولا ينقص في النفي والإثبات . بل إذا كان بعده مثلا عشرين درجة فهذا يرى ما لم يحل حائل وإذا كان على درجة واحدة فهذا لا يرى وأما ما حول العشرة فالأمر فيه يختلف باختلاف أسباب الرؤية من وجوه . أحدها : أنها تختلف وذلك لأن الرؤية تختلف لحدة البصر وكلاله فمع دقته يراه البصر الحديد دون الكليل ومع توسطه يراه غالب الناس وليست أبصار الناس محصورة بين حاصرين ولا يمكن أن يقال يراه غالب الناس ولا يراه غالبهم : لأنه لو رآه اثنان علق الشارع الحكم بهما بالإجماع وإن كان الجمهور لم يروه فإذا قال لا يرى بناء على ذلك كان مخطئا في حكم الشرع وإن قال يرى بمعنى أنه يراه البصر الحديد . فقد لا يتفق فيمن يتراءى له من يكون بصره حديدا [ ص: 187 ] فلا يلتفت إلى إمكان رؤية من ليس بحاضر .

السبب الثاني : أن يختلف بكثرة المترائين وقلتهم فإنهم إذا كثروا كان أقرب أن يكون فيهم من يراه لحدة بصره وخبرته بموضع طلوعه والتحديق نحو مطلعه وإذا قلوا : فقد لا يتفق ذلك فإذا ظن أنه يرى قد يكونون قليلا فلا يمكن أن يروه وإذا قال : لا يرى فقد يكون المتراءون كثيرا فيهم من فيه قوة على إدراك ما لم يدركه غيره .

السبب الثالث : أنه يختلف باختلاف مكان الترائي فإن من كان أعلى مكانا في منارة أو سطح عال أو على رأس جبل ليس بمنزلة من يكون على القاع الصفصف أو في بطن واد . كذلك قد يكون أمام أحد المترائين بناء أو جبل أو نحو ذلك يمكن معه أن يراه غالبا وإن منعه أحيانا وقد يكون لا شيء أمامه . فإذا قيل : يرى مطلقا لم يره المنخفض ونحوه وإذا قيل لا يرى فقد يراه المرتفع ونحوه والرؤية تختلف بهذا اختلافا ظاهرا .

السبب الرابع : أنه يختلف باختلاف وقت الترائي وذلك أن عادة الحساب أنهم يخبرون ببعده وقت غروب الشمس وفي تلك [ ص: 188 ] الساعة يكون قريبا من الشمس فيكون نوره قليلا وتكون حمرة شعاع الشمس مانعا له بعض المنع فكلما انخفض إلى الأفق بعد عن الشمس فيقوى شرط الرؤية ويبقى مانعها فيكثر نوره ويبعد عن شعاع الشمس فإذا ظن أنه لا يرى وقت الغروب أو عقبه فإنه يرى بعد ذلك ولو عند هويه في المغرب وإن قال : إنه يضبط حاله من حين وجوب الشمس إلى حين وجوبه فإنما يمكنه أن يضبط عدد تلك الدرجات لأنه يبقى مرتفعا بقدر ما بينهما من البعد أما مقدار ما يحصل فيه من الضوء وما يزول من الشعاع المانع له فإن بذلك تحصل الرؤية بضبطه على وجه واحد - يصح مع الرؤية دائما أو يمتنع دائما - فهذا لا يقدر عليه أبدا وليس هو في نفسه شيئا منضبطا خصوصا إذا كانت الشمس .

السبب الخامس : صفاء الجو وكدره . لست أعني إذا كان هناك حائل يمنع الرؤية كالغيم والقتر الهائج من الأدخنة والأبخرة وإنما إذا كان الجو بحيث يمكن فيه رؤيته أمكن من بعض إذا كان الجو صافيا من كل كدر في مثل ما يكون في الشتاء عقب الأمطار في البرية الذي ليس فيه بخار بخلاف ما إذا كان في الجو بخار بحيث لا يمكن [ ص: 189 ] فيه رؤيته كنحو ما يحصل في الصيف بسبب الأبخرة والأدخنة فإنه لا يمكن رؤيته في مثل ذلك كما يمكن في مثل صفاء الجو .

وأما صحة مقابلته ومعرفة مطلعه ونحو ذلك . فهذا من الأمور التي يمكن المترائي أن يتعلمها . أو يتحراه . فقد يقال : هو شرط الرؤية كالتحديق نحو المغرب خلف الشمس فلم نذكره في أسباب اختلاف الرؤية . وإنما ذكرنا ما ليس في مقدور المترائين الإحاطة من صفة الأبصار وأعدادها ومكان الترائي وزمانه وصفاء الجو وكدره .

فإذا كانت الرؤية حكما تشترك فيه هذه الأسباب التي ليس شيء منها داخلا في حساب الحاسب فكيف يمكنه مع ذلك يخبر خبرا عاما أنه لا يمكن أن يراه أحد حيث رآه على سبع أو ثمان درجات أو تسع أم كيف يمكنه يخبر خبرا جزما أنه يرى إذا كان على تسعة أو عشرة مثلا .

ولهذا تجدهم مختلفين في قوس الرؤية : كم ارتفاعه . منهم من يقول تسعة ونصف ومنهم من يقول ويحتاجون أن يفرقوا بين الصيف [ ص: 190 ] والشتاء : إذا كانت الشمس في البروج الشمالية مرتفعة أو في البروج الجنوبية منخفضة . فتبين بهذا البيان أن خبرهم بالرؤية من جنس خبرهم بالأحكام وأضعف وذلك أنه هب أنه قد ثبت أن الحركات العلوية سبب الحوادث الأرضية . فإن هذا القدر لا يمكن المسلم أن يجزم بنفيه إذ الله سبحانه جعل بعض المخلوقات أعيانها وصفاتها وحركاتها سببا لبعض وليس في هذا ما يحيله شرع ولا عقل لكن المسلمون قسمان : منهم من يقول هذا لا دليل على ثبوته فلا يجوز القول به فإنه قول بلا علم .

وآخر يقول : بل هو ثابت في الجملة ; لأنه قد عرف بعضه بالتجربة ولأن الشريعة دلت على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم { إن الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته لكنهما آيتان من آيات الله يخوف بهما عباده } والتخويف إنما يكون بوجود سبب الخوف فعلم أن كسوفهما قد يكون سببا لأمر مخوف وقوله { لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته } رد لما توهمه بعض الناس . فإن الشمس خسفت يوم موت إبراهيم فاعتقد بعض الناس أنها خسفت من أجل موته تعظيما لموته وأن موته سبب خسوفها فأخبر النبي [ ص: 191 ] صلى الله عليه وسلم أنه لا ينخسف لأجل أنه مات أحد ولا لأجل أنه حيي أحد .

وهذا كما في الصحيحين عن { ابن عباس قال : حدثني رجال من الأنصار أنهم كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم فرمي بنجم فاستنار فقال : ما كنتم تقولون لهذا في الجاهلية ؟ فقالوا . كنا نقول : ولد الليلة عظيم أو مات عظيم فقال : إنه لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته ولكن الله إذا قضى بالقضاء سبح حملة العرش } الحديث . فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الشهب التي يرجم بها لا يكون عن سبب حدث في الأرض وإنما يكون عن أمر حدث في السماء وأن الرمي بها لطرد الشياطين المسترقة .

وكذلك الشمس والقمر هما آيتان من آيات الله يخوف بهما عباده . كما قال الله : { وما نرسل بالآيات إلا تخويفا } فعلم أن هذه الآيات السماوية قد تكون سبب عذاب ; ولهذا شرع النبي صلى الله عليه وسلم عند وجود سبب الخوف ما يدفعه من الأعمال الصالحة فأمر بصلاة الكسوف - الصلاة الطويلة - وأمر بالعتق والصدقة وأمر بالدعاء والاستغفار . كما قال صلى الله عليه وسلم { إن البلاء والدعاء [ ص: 192 ] ليلتقيان فيعتلجان بين السماء والأرض } فالدعاء ونحوه يدفع البلاء النازل من السماء .

فإن قلت : من عوام الناس - وإن كان منتسبا إلى علم - من يجزم بأن الحركات العلوية ليست سببا لحدوث أمر ألبتة وربما اعتقد أن تجويز ذلك وإثباته من جملة التنجيم المحرم الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم { من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد } رواه أبو داود وغيره وربما احتج بعضهم بما فهمه من قوله : { لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته } واعتقد أن العلة هنا هي العلة الغائية : أي لا يكسفان ليحدث عن ذلك موت أو حياة ؟ قلت : قول هذا جهل ; لأنه قول بلا علم وقد حرم الله على الرجل أن ينفي ما ليس له به علم وحرم عليه أن يقول على الله ما لا يعلم . وأخبر أن الذي يأمر بالقول بغير علم هو الشيطان فقال : { ولا تقف ما ليس لك به علم } وقال : { إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } وقال : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } فإنه ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله ولا قال أحد من أهل العلم ذلك [ ص: 193 ] ولا في العقل وما يعلم بالعقل ما يعلم به نفي ذلك . وإنما نفي ذلك جزما بغير مثل نفي بعض الجهال أن تكون الأفلاك مستديرة : فمنهم من ينفي ذلك جزما ومنهم من ينفي الجزم به على كل أحد وكلاهما جهل . فمن أين له نفي ذلك أو نفي العام به عن جميع الخلق ولا دليل له على ذلك إلا ما قد يفهمه بفهمه الناقص .

هذا وقد ثبت بالكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة أن الأفلاك مستديرة قال الله تعالى : { ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر } وقال : { وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون } وقال تعالى : { لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون } قال ابن عباس : في فلكة مثل فلكة المغزل وهكذا هو في لسان العرب الفلك الشيء المستدير . ومنه يقال : تفلك ثدي الجارية إذا استدار . قال تعالى : { يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل } والتكوير هو التدوير . ومنه قيل : كار العمامة وكورها إذا أدارها . ومنه قيل : للكرة كرة وهي الجسم المستدير ولهذا يقال : للأفلاك كروية الشكل ; لأن أصل الكرة كورة تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا وكورت الكارة إذا دورتها ومنه الحديث : { إن الشمس والقمر يكوران يوم القيامة [ ص: 194 ] كأنهما ثوران في نار جهنم } وقال تعالى : { الشمس والقمر بحسبان } مثل حسبان الرحا وقال : { ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت } وهذا إنما يكون فيما يستدير من أشكال الأجسام دون المضلعات من المثلث أو المربع أو غيرهما فإنه يتفاوت لأن زواياه مخالفة لقوائمه والجسم المستدير متشابه الجوانب والنواحي ليس بعضه مخالفا لبعض .

{ وقال النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي قال : إنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك . فقال : ويحك إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه . إن شأنه أعظم من ذلك إن عرشه على سمواته هكذا وقال بيده مثل القبة : وإنه ليئط به أطيط الرحل الجديد براكبه } رواه . أبو داود وغيره من حديث جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم . وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنها أعلى الجنة وأوسط الجنة وسقفها عرش الرحمن } فقد أخبر أن الفردوس هي الأعلى والأوسط وهذا لا يكون إلا في الصورة المستديرة فأما المربع ونحوه فليس أوسطه أعلاه بل هو متساو .

وأما إجماع العلماء : فقال إياس بن معاوية - الإمام المشهور قاضي [ ص: 195 ] البصرة من التابعين - : السماء على الأرض مثل القبة .

وقال الإمام أبو الحسين أحمد بن جعفر بن المنادي من أعيان العلماء المشهورين بمعرفة الآثار والتصانيف الكبار في فنون العلوم الدينية من الطبقة الثانية من أصحاب أحمد : لا خلاف بين العلماء أن السماء على مثال الكرة وأنها تدور بجميع ما فيها من الكواكب كدورة الكرة على قطبين ثابتين غير متحركين : أحدهما في ناحية الشمال والآخر في ناحية الجنوب . قال : ويدل على ذلك أن الكواكب جميعها تدور من المشرق تقع قليلا على ترتيب واحد في حركاتها ومقادير أجزائها إلى أن تتوسط السماء ثم تنحدر على ذلك الترتيب . كأنها ثابتة في كرة تديرها جميعها دورا واحدا . قال : وكذلك أجمعوا على أن الأرض بجميع حركاتها من البر والبحر مثل الكرة . قال : ويدل عليه أن الشمس والقمر والكواكب لا يوجد طلوعها وغروبها على جميع من في نواحي الأرض في وقت واحد بل على المشرق قبل المغرب .

قال : فكرة الأرض مثبتة في وسط كرة السماء كالنقطة في الدائرة . يدل على ذلك أن جرم كل كوكب يرى في جميع نواحي السماء على قدر واحد فيدل ذلك على بعد ما بين السماء والأرض من جميع [ ص: 196 ] الجهات بقدر واحد فاضطرار أن تكون الأرض وسط السماء .

وقد يظن بعض الناس أن ما جاءت به الآثار النبوية من أن العرش سقف الجنة وأن الله على عرشه مع ما دلت عليه من أن الأفلاك مستديرة متناقض أو مقتض أن يكون الله تحت بعض خلقه " كما احتج بعض الجهمية على إنكار أن يكون الله فوق العرش باستدارة الأفلاك وأن ذلك مستلزم كون الرب أسفل . وهذا من غلطهم في تصور الأمر ومن علم أن الأفلاك مستديرة وأن المحيط الذي هو السقف هو أعلى عليين وأن المركز الذي هو باطن ذلك وجوفه وهو قعر الأرض هو " سجين " " وأسفل سافلين " علم من مقابلة الله بين أعلى عليين وبين سجين مع أن المقابلة : إنما تكون في الظاهر بين العلو والسفل أو بين السعة والضيق وذلك لأن العلو مستلزم للسعة والضيق مستلزم للسفول وعلم أن السماء فوق الأرض مطلقا لا يتصور أن تكون تحتها قط وإن كانت مستديرة محيطة وكذلك كلما علا كان أرفع وأشمل .

وعلم أن الجهة قسمان : قسم ذاتي . وهو العلو والسفول فقط . وقسم إضافي : وهو ما ينسب إلى الحيوان بحسب حركته : فما أمامه [ ص: 197 ] يقال له : أمام وما خلفه يقال له خلف وما عن يمينه يقال له اليمين وما عن يسرته يقال له اليسار وما فوق رأسه يقال له فوق وما تحت قدميه يقال له تحت وذلك أمر إضافي . أرأيت لو أن رجلا علق رجليه إلى السماء ورأسه إلى الأرض أليست السماء فوقه وإن قابلها برجليه وكذلك النملة أو غيرها لو مشى تحت السقف مقابلا له برجليه وظهره إلى الأرض لكان العلو محاذيا لرجليه وإن كان فوقه وأسفل سافلين ينتهي إلى جوف الأرض .

والكواكب التي في السماء وإن كان بعضها محاذيا لرءوسنا وبعضها في النصف الآخر من الفلك فليس شيء منها تحت شيء بل كلها فوقنا في السماء ولما كان الإنسان إذا تصور هذا يسبق إلى وهمه السفل الإضافي كما احتج به الجهمي الذي أنكر علو الله على عرشه وخيل على من لا يدري أن من قال : إن الله فوق العرش فقد جعله تحت نصف المخلوقات أو جعله فلكا آخر تعالى الله عما يقول الجاهل .

فمن ظن أنه لازم لأهل الإسلام من الأمور التي لا تليق بالله ولا هي لازمة بل هذا يصدقه الحديث الذي رواه أحمد في مسنده من حديث الحسن عن أبي هريرة ورواه الترمذي في حديث الإدلاء ; [ ص: 198 ] فإن الحديث يدل على أن الله فوق العرش ويدل على إحاطة العرش كونه سقف المخلوقات .

ومن تأوله على قوله هبط على علم الله كما فعل الترمذي لم يدر كيف الأمر ولكن لما كان من أهل السنة وعلم أن الله فوق العرش ولم يعرف صورة المخلوقات وخشي أن يتأوله الجهمي أنه مختلط بالخلق قال : هكذا وإلا فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كله حق يصدق بعضه بعضا .

وما علم بالمعقول من العلوم الصحيحة يصدق ما جاء به الرسول ويشهد له . فنقول : إذا تبين أنا نعرف ما قد عرف من استدارة الأفلاك علم أن المنكر له مخالف لجميع الأدلة لكن المتوقف في ذلك قبل البيان فعل الواجب وكذلك من لم يزل يستفيد ذلك من جهة لا يثق بها . فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم } وأن كون بعض الحركات العالية سبب لبعض الحوادث مما لا ينكر بل إما أن يقبل أو لا يرد .

فالقول بالأحكام النجومية باطل عقلا محرم شرعا وذلك أن حركة الفلك وإن كان لها أثر ليست مستقلة بل تأثير الأرواح وغيرها [ ص: 199 ] من الملائكة أشد من تأثيره وكذلك تأثير الأجسام الطبيعية التي في الأرض وكذلك تأثير قلوب الآدميين بالدعاء وغيره من أعظم المؤثرات باتفاق المسلمين وكالصابئة المشتغلين بأحكام النجوم وغيرهم من سائر الأمم فهو في الأمر العام جزء السبب وإن فرضنا أنه سبب مستقل أو أنه مستلزم لتمام السبب فالعلم به غير ممكن لسرعة حركته وإن فرض العلم به فمحل تأثيره لا ينضبط ; إذ ليس تأثير خسوف الشمس في الإقليم الفلاني بأولى من الإقليم الآخر وإن فرض أنه سبب مستقل قد حصل بشروطه وعلم به فلا ريب أن ما يصغر من الأعمال الصالحة من الصلاة والزكاة والصيام والحج وصلة الأرحام ونحو ذلك مما أمرت به الشريعة يعارض مقتضى ذلك السبب ; ولهذا أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة والدعاء والاستغفار والعتق والصدقة عند الخسوف وأخبر أن الدعاء والبلاء يلتقيان فيعتلجان بين السماء والأرض .

والمنجمون يعترفون بذلك حتى قال كبيرهم " بطليموس " ضجيج الأصوات في هياكل العبادات بفنون الدعوات من جميع اللغات يحلل ما عقدته الأفلاك الدائرات فصار ما جاءت به الشريعة إن حدث سبب خير كان ذلك : الصلاة والزكاة يقويه ويؤيده وإن حدث سبب شر كان ذلك العمل يدفعه وكذلك استخارة العبد لربه إذا هم بأمر كما [ ص: 200 ] أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : { إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين } الحديث فهذه الاستخارة لله العليم القدير خالق الأسباب والمسببات خير من أن يأخذ الطالع فيما يريد فعله . فإن الاختيار غايته تحصيل سبب واحد من أسباب النجح إن صح . والاستخارة أخذ للنجح من جميع طرقه فإن الله يعلم الخيرة فإما أن يشرح صدر الإنسان وييسر الأسباب أو يعسرها ويصرفه عن ذلك .

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم { من أتى عرافا فسأله } الحديث رواه مسلم من حديث صفية بنت أبي عبيد عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم . والعراف يعم المنجم وغيره إما لفظا وإما معنى . وقال صلى الله عليه وسلم { من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد } رواه أبو داود وابن ماجه فقد تبين تحريم الأخذ بأحكام النجوم علما أو عملا من جهة الشرع وقد بينا من جهة العقل أن ذلك أيضا متعذر في الغالب . لأن أسباب الحوادث وشروطها وموانعها لا تضبط بضبط حركة بعض الأمور وإنما يتفق الإصابة في ذلك إذا كان بقية الأسباب موجودة . والموانع مرتفعة . لا أن ذلك عن دليل مطرد لازما أو غالبا .

وحذاق المنجمين يوافقون على ذلك . ويعرفون أن طالع البلاد لا [ ص: 201 ] يستقيم الحكم به غالبا لمعارضة ; طالع لوقت وغيره من الموانع ويقولون : إن الأحكام مبناها على الحدس والوهم . فنبين لهم أن قولهم في رؤية الهلال وفي الأحكام من باب واحد يعلم بأدلة العقول امتناع ضبط ذلك ويعلم بأدلة الشريعة تحريم ذلك والاستغناء عما نظن من منفعته بما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة ولهذا قال من قال إن كلام هؤلاء بين علوم صادقة لا منفعة فيها ونعوذ بالله من علم لا ينفع وبين ظنون كاذبة لا ثقة بها وأن بعض الظن إثم . ولقد صدق فإن الإنسان الحاسب إذا قتل نفسه في حساب الدقائق والثواني كان غايته ما لا يفيد . وإنما تعبوا عليه لأجل الأحكام . وهي ظنون كاذبة .

أما الكلام في الشرعيات فإن كان علما كان فيه منفعة الدنيا والآخرة وإن كان ظنا مثل الحكم بشهادة الشاهدين أو العمل بالدليل الظني الراجح فهو عمل بعلم . وهو ظن يثاب عليه في الدنيا والآخرة . فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق . آخر ما وجد . وصلى الله على محمد وآله وسلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية