صفحة جزء
فصل في الأفضل من ذلك : فالتحقيق في ذلك أنه يتنوع باختلاف حال الحاج فإن كان يسافر سفرة للعمرة ، وللحج سفرة أخرى أو يسافر إلى مكة قبل أشهر الحج ويعتمر ويقيم بها حتى يحج فهذا الإفراد له أفضل باتفاق الأئمة الأربعة .

والإحرام بالحج قبل أشهره ليس مسنونا بل مكروه وإذا فعله فهل يصير محرما بعمرة أو بحج فيه نزاع .

وأما إذا فعل ما يفعله غالب الناس وهو أن يجمع بين العمرة والحج في سفرة واحدة ويقدم مكة في أشهر الحج : وهن شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة فهذا إن ساق الهدي فالقران أفضل له وإن لم يسق الهدي فالتحلل من إحرامه بعمرة أفضل فإنه قد ثبت بالنقول المستفيضة التي لم يختلف في صحتها أهل [ ص: 102 ] العلم بالحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حج حجة الوداع . هو وأصحابه أمرهم جميعهم أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي فإنه أمره أن يبقى على إحرامه حتى يبلغ الهدي محله يوم النحر { وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد ساق الهدي هو وطائفة من أصحابه وقرن هو بين العمرة والحج فقال لبيك عمرة وحجا } - .

ولم يعتمر بعد الحج أحد ممن كان مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا عائشة وحدها لأنها كانت قد حاضت فلم يمكنها الطواف لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت } فأمرها أن تهل بالحج وتدع أفعال العمرة لأنها كانت متمتعة ثم إنها طلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعمرها فأرسلها مع أخيها عبد الرحمن فاعتمرت من التنعيم والتنعيم هو أقرب الحل إلى مكة وبه اليوم المساجد التي تسمى " مساجد عائشة " ولم تكن هذه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وإنما بنيت بعد ذلك علامة على المكان الذي أحرمت منه عائشة ؟ وليس دخول هذه المساجد ولا الصلاة فيها - لمن اجتاز بها محرما - لا فرضا ولا سنة بل قصد ذلك واعتقاد أنه يستحب بدعة مكروهة لكن من خرج من مكة ليعتمر فإنه إذا دخل واحدا منها وصلى فيه لأجل الإحرام [ ص: 103 ] فلا بأس بذلك .

ولم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أحد يخرج من مكة ليعتمر إلا لعذر لا في رمضان ولا في غير رمضان والذين حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيهم من اعتمر بعد الحج من مكة إلا عائشة كما ذكر . ولا كان هذا من فعل الخلفاء الراشدين والذين استحبوا الإفراد من الصحابة إنما استحبوا أن يحج في سفرة ويعتمر في أخرى ولم يستحبوا أن يحج ويعتمر عقب ذلك عمرة مكية بل هذا لم يكونوا يفعلونه قط اللهم إلا أن يكون شيئا نادرا .

وقد تنازع السلف في هذا : هل يكون متمتعا عليه دم ؟ أم لا ؟ وهل تجزئه هذه العمرة عن عمرة الإسلام ؟ أم لا ؟ .

وقد اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته أربع عمر : عمرة الحديبية وصل إلى الحديبية والحديبية وراء الجبل الذي بالتنعيم عند مساجد عائشة عن يمينك وأنت داخل إلى مكة فصده المشركون عن البيت فصالحهم وحل من إحرامه وانصرف . وعمرة القضية اعتمر من العام القابل .

وعمرة الجعرانة فإنه كان قد قاتل المشركين بحنين وحنين من [ ص: 104 ] ناحية المشرق من ناحية الطائف ; وأما بدر فهي بين المدينة وبين مكة وبين الغزوتين ست سنين ولكن قرنتا في الذكر ; لأن الله تعالى أنزل فيهما الملائكة لنصر النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في القتال ثم ذهب فحاصر المشركين بالطائف ثم رجع وقسم غنائم حنين بالجعرانة فلما قسم غنائم حنين اعتمر من الجعرانة داخلا إلى مكة لا خارجا منها للإحرام .

والعمرة الرابعة مع حجته فإنه قرن بين العمرة والحج باتفاق أهل المعرفة بسنته وباتفاق الصحابة على ذلك ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه تمتع تمتعا حل فيه بل كانوا يسمون القران تمتعا ولا نقل عن أحد من الصحابة أنه لما قرن طاف طوافين وسعى سعيين .

وعامة المنقول عن الصحابة في صفة حجته ليست بمختلفة . وإنما اشتبهت على من لم يعرف مرادهم وجميع الصحابة الذين نقل عنهم أنه أفرد الحج : كعائشة وابن عمر وجابر . قالوا : إنه تمتع بالعمرة إلى الحج . فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة وابن عمر بإسناد أصح من إسناد الإفراد ومرادهم بالتمتع القران كما ثبت ذلك في الصحاح أيضا .

فإذا أراد الإحرام فإن كان قارنا قال : لبيك عمرة وحجا . وإن كان متمتعا قال لبيك عمرة متمتعا بها إلى الحج . وإن كان مفردا قال : لبيك حجة [ ص: 105 ] أو قال : اللهم إني أوجبت عمرة وحجا أو أوجبت عمرة أتمتع بها إلى الحج أو أوجبت حجا أو أريد الحج أو أريدهما أو أريد التمتع بالعمرة إلى الحج فمهما قال من ذلك أجزأه باتفاق الأئمة ليس في ذلك عبارة مخصوصة ولا يجب شيء من هذه العبارات باتفاق الأئمة كما لا يجب التلفظ بالنية في الطهارة والصلاة والصيام باتفاق الأئمة بل متى لبى قاصدا للإحرام انعقد إحرامه باتفاق المسلمين . ولا يجب عليه أن يتكلم قبل التلبية بشيء .

ولكن تنازع العلماء : هل يستحب أن يتكلم بذلك ؟ كما تنازعوا : هل يستحب التلفظ بالنية في الصلاة ؟ والصواب المقطوع به أنه لا يستحب شيء من ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع للمسلمين شيئا من ذلك ولا كان يتكلم قبل التكبير بشيء من ألفاظ النية لا هو ولا أصحابه بل { لما أمر ضباعة بنت الزبير بالاشتراط قالت : فكيف أقول ؟ قال : قولي : لبيك اللهم لبيك ومحلي من الأرض حيث تحبسني رواه أهل السنن وصححه الترمذي ولفظ النسائي : إني أريد الحج فكيف أقول ؟ قال : قولي : لبيك اللهم لبيك : ومحلي من الأرض حيث تحبسني فإن لك على ربك ما استثنيت } وحديث الاشتراط في الصحيحين .

لكن المقصود بهذا اللفظ أنه أمرها بالاشتراط في التلبية ولم [ ص: 106 ] يأمرها أن تقول قبل التلبية شيئا لا اشتراطا ولا غيره { وكان يقول في تلبيته لبيك عمرة وحجا } وكان يقول للواحد من أصحابه : " بم أهللت ؟ " { وقال في المواقيت : مهل أهل المدينة ذو الحليفة ومهل أهل الشام الجحفة ومهل أهل اليمن يلملم ومهل أهل نجد قرن المنازل ومهل أهل العراق ذات عرق ومن كان دونهن فمهله من أهله } والإهلال هو التلبية فهذا هو الذي شرع النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين التكلم به في ابتداء الحج والعمرة وإن كان مشروعا بعد ذلك كما تشرع تكبيرة الإحرام ويشرع التكبير بعد ذلك عند تغير الأحوال .

ولو أحرم إحراما مطلقا جاز فلو أحرم بالقصد للحج من حيث الجملة ولا يعرف هذا التفصيل جاز .

ولو أهل ولبى كما يفعل الناس قاصدا للنسك ولم يسم شيئا بلفظه ولا قصد بقلبه لا تمتعا ولا إفرادا ولا قرانا صح حجه أيضا وفعل واحدا من الثلاثة : فإن فعل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه كان حسنا وإن اشترط على ربه خوفا من العارض فقال : وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني كان حسنا . فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ابنة عمه ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب أن تشترط على ربها لما كانت شاكية فخاف أن يصدها المرض عن البيت ولم [ ص: 107 ] يكن يأمر بذلك كل من حج .

وكذلك إن شاء المحرم أن يتطيب في بدنه فهو حسن ولا يؤمر المحرم قبل الإحرام بذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم فعله ولم يأمر به الناس ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر أحدا بعبارة بعينها وإنما يقال : أهل بالحج أهل بالعمرة أو يقال : لبى بالحج لبى بالعمرة وهو تأويل قوله تعالى { الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } .

وثبت عنه في الصحيحين أنه قال : { من حج هذا البيت : فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه } وهذا على قراءة من قرأ { فلا رفث ولا فسوق } بالرفع فالرفث اسم للجماع قولا وعملا والفسوق اسم للمعاصي كلها والجدال على هذه القراءة هو المراء في أمر الحج . فإن الله قد أوضحه وبينه وقطع المراء فيه كما كانوا في الجاهلية يتمارون في أحكامه وعلى القراءة الأخرى قد يفسر بهذا المعنى أيضا وقد فسروها بأن لا يماري الحاج أحدا والتفسير الأول أصح فإن الله لم ينه المحرم ولا غيره عن الجدال مطلقا ; بل الجدال قد يكون واجبا أو مستحبا كما قال تعالى : { وجادلهم بالتي هي أحسن } وقد يكون الجدال محرما في الحج وغيره كالجدال بغير علم . وكالجدال في الحق بعد ما تبين .

[ ص: 108 ] ولفظ ( الفسوق يتناول ما حرمه الله تعالى ولا يختص بالسباب وإن كان سباب المسلم فسوقا فالفسوق يعم هذا وغيره .

و ( الرفث هو الجماع وليس في المحظورات ما يفسد الحج إلا جنس الرفث فلهذا ميز بينه وبين الفسوق .

وأما سائر المحظورات : كاللباس والطيب فإنه وإن كان يأثم بها فلا تفسد الحج عند أحد من الأئمة المشهورين .

وينبغي للمحرم أن لا يتكلم إلا بما يعنيه وكان شريح إذا أحرم كأنه الحية الصماء ولا يكون الرجل محرما بمجرد ما في قلبه من قصد الحج ونيته فإن القصد ما زال في القلب منذ خرج من بلده بل لا بد من قول أو عمل يصير به محرما هذا هو الصحيح من القولين . والتجرد من اللباس واجب في الإحرام وليس شرطا فيه فلو أحرم وعليه ثياب صح ذلك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وباتفاق أئمة أهل العلم وعليه أن ينزع اللباس المحظور .

التالي السابق


الخدمات العلمية