صفحة جزء
ومنها أنه قال : لم يلزم من دعواه بأن ذلك مجمع على تحريمه أن يكون السادة الصحابة مع التابعين ومن بعدهم من العلماء المجتهدين للإجماع خارقين مصرين على تقرير الحرام مرتكبين بأنفسهم وفتاويهم ما لا يجوز عليه الإقدام مجمعين على الضلالة سالكين طريق العماية والجهالة .

وفي هذا الكلام من الجهل بالشريعة وما أجمع عليه المسلمون والتسوية بين عبادة الرحمن - التي أجمع عليها أهل الإيمان - وبين عبادة الأوثان - التي أجمعوا على تحريمها وغير ذلك : مما يبين اشتمال هذا الكلام على أنواع من مخالفة دين الإسلام ولو كان صاحبه ممن يفهم ما قال ولوازمه لكان مرتدا يجب قتله لكنه جاهل قد يتكلم بما لا يتصوره ويتصور لوازمه .

فيقال له ولأمثاله - ممن ظن أن في الجواب ما يخالف الإجماع - [ ص: 245 ] الذي أجمع عليه المسلمون سلفا وخلفا قرنا بعد قرن هو السفر إلى مسجده صلى الله عليه وسلم والصلاة والسلام عليه فيه ونحو ذلك مما يحبه الله ورسوله من الأعمال المتضمنة لعبادة الله وحده والقيام بحق رسوله : من أفضل العبادات لله كشهادتنا له وثنائنا عليه . وصلاتنا وسلامنا عليه من أفضل ما عبدنا الله به وهذا ونحوه هو المشروع في مسجده سواء سمي زيارة لقبره أو لم يسم .

فإن لفظ الزيارة لقبره واستحباب ذلك لا يعرف عن أحد من الصحابة بل المنقول عن ابن عمر ومن وافقه السلام عليه هناك والصلاة . وهم لا يسمون هذا زيارة لقبره . فكيف بالذين لم يكونوا يقفون عند القبر بحال وهم جمهور الصحابة .

وأما ما ابتدعه بعض الناس من الشرك والبدع وسمى ذلك " زيارة لقبره " فهو من جنس الزيارة البدعية التي تفعل عند قبر غيره ليس هو من الزيارة الشرعية .

وأما ما يدخل في الأعمال الشرعية فهذا هو المستحب بسنته الثابتة عنه وبإجماع أمته . ثم من أئمة العلم من لا يسمي هذا " زيارة لقبره " بل يكره هذه التسمية ; فضلا عن أن يقول : إن ذلك سفر إلى قبره . وقد صرح من قال ذلك مثل مالك وغيره بأن المسافر إلى هناك إذا [ ص: 246 ] كان مقصوده القبر أنه سفر منهي عنه داخل في قوله : { لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد } وأن السفر الذي هو طاعة وقربة أن يقصد السفر لأجل الصلاة في المسجد وأنه لو نذر أن يسافر إلى المدينة لغير الصلاة في المسجد فإنه ينهى عن الوفاء بنذره : لأنه نذر معصية .

فإذا كان هذا من قولهم معروفا في الكتب الصغار والكبار فكيف يظن أن السفر لمجرد زيارة القبور هو مجمع عليه بين الأئمة . وطائفة أخرى من العلماء يسمون هذا زيارة لقبره . ويقولون : تستحب زيارة قبره أو السفر لزيارة قبره ومقصودهم بالزيارة هو مقصود الأولين وهو السفر إلى مسجده وأن يفعل في مسجده ما يشرع من الصلاة والسلام عليه والدعاء له والثناء عليه وهذا عندهم يسمى زيارة لقبره مع اتفاق الجميع على أن أحدا لا يزور قبره الزيارة المعروفة في سائر القبور فإن تلك قبور بارزة يوصل إليها ويقعد عندها . أو يقام عندها ويمكن أن يفعل عندها ما يشرع : كالدعاء للميت والاستغفار له وما ينهى عنه : كدعائه والشرك به والنياحة عند قبره والندب . فهذا هو المفهوم من " زيارة القبور " .

والرسول دفن في بيته في حجرته ومنع الناس من الدخول إلى هناك والوصول إلى قبره فلا يقدر أحد أن يزور قبره كما يزور قبر غيره ; لا زيارة شرعية ولا بدعية ; بل إنما يصل جميع الخلق [ ص: 247 ] إلى مسجده وفيه يفعلون ما يشرع لهم أو ما يكره لهم . والسفر إلى مسجده - لما شرع - سفر طاعة وقربة بالإجماع ; وهو الذي أجمع عليه المسلمون .

والمجيب قد ذكر استحباب هذا السفر وأنه يستحب بالنص والإجماع في مواضع كثيرة وقد ذكر ذلك في هذا الجواب وبين ما ثبت بالنص والإجماع من السفر إلى مسجده وزيارته الشرعية وبين ما لم يشرع من السفر إلى زيارة قبر غيره مما في قبور الأنبياء والصالحين ; فإن السفر إلى هناك ليس هو سفر إلى مسجد شرع السفر إليه بل المساجد التي هناك إن كانت مما يشرع بناؤه والصلاة فيه - كجوامع المسلمين التي في الأمصار - فهذه ليس السفر إليها قربة ولا طاعة ; لا عند الأئمة الأربعة ولا عامة أئمة المسلمين . والسفر إليها داخل في قوله : { لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد } باتفاق الناس . فإن هذا استثناء مفرغ . والتقدير فيه أحد أمرين : إما أن يقال : { لا تشد الرحال } إلى مسجد { إلا المساجد الثلاثة } فيكون نهيا عنها باللفظ ونهيا عن سائر البقاع التي يعتقد فضيلتها بالتنبيه والفحوى وطريق الأولى ; فإن المساجد والعبادة فيها أحب إلى الله من العبادة في تلك البقاع بالنص والإجماع فإذا كان السفر إلى البقاع الفاضلة قد نهي عنه فالسفر إلى المفضولة [ ص: 248 ] أولى وأحرى .

وكذلك من جعل معنى الحديث : لا يستحب السفر إلا إلى الثلاثة . إن جعل معناه لا يجب إلا إلى الثلاثة وأراد به الوجوب بالنذر - كما ذكر ذلك طائفة - فهؤلاء يقولون : ما سوى الثلاثة لا يستحب السفر إليه ولا يجب بالنذر . ومن حمل معنى الحديث على نفي الاستحباب أو نفي الوجوب بالنذر فقولهما واحد في المعنى فإذا لم يجب بالنذر إلا هذه الثلاثة فقد وجب بالنذر السفر إلى المسجدين وليس واجبا بالشرع . فعلم أن وجوبه لكونه مستحبا بالشرع . فإذا لم يجب إلا هذان مما ليس واجبا بالشرع علم أنه ليس مستحبا إلا هذان . وقد بسط هذا في موضع آخر .

وإما أن يقال : التقدير لا تسافروا إلى بقعة ومكان غير الثلاثة . أو يكون المعنى لا يستحب إلى مكان غير الثلاثة وهو معنى كل من قال : لا يجب بالنذر إلى غير الثلاثة . أي لا تسافروا لقصد ذلك المكان والبقعة بعينه ; بحيث يكون المقصود والعبادة في نفس تلك البقعة كالسفر إلى المساجد الثلاثة ; بخلاف السفر إلى الثغور فإن المقصود السفر إلى مكان الرباط .

و " الثغر " قد يكون مكانا ثم يفتح المسلمون ما جاورهم فينتقل [ ص: 249 ] الثغر إلى حد بلاد المسلمين ; ولهذا يكون المكان تارة ثغرا وتارة ليس بثغر ; كما يكون تارة دار إسلام وبر وتارة دار كفر وفسق ; كما كانت مكة دار كفر وحرب وكانت المدينة دار إيمان وهجرة ومكانا للرباط فلما فتحت مكة صارت دار إسلام ولم تبق المدينة دار هجرة ورباط كما كانت قبل فتح مكة ; بل قد قال صلى الله عليه وسلم { لا هجرة بعد الفتح ; ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا } وصارت الثغور أطراف أرض الحجاز المجاورة لأرض الحرب : أرض الشام وأرض العراق . ثم لما فتح المسلمون الشام والعراق صارت الثغور بالشام سواحل البحر ; كعسقلان وعكة وما جاور ذلك . وبالعراق عبادان ونحوها ; ولهذا يكثر ذكر " عسقلان " و " عبادان " في كلام المتقدمين ; لكونهما كانا ثغرين وكانت أيضا " طرطوش " ثغرا لما كانت للمسلمين ولما أخذها الكفار صار الثغر ما يجاور أرض العدو من البلاد الحلبية .

فالمسافر إلى الثغور أو طلب العلم أو التجارة أو زيارة قريبه ليس مقصوده مكانا معينا إلا بالعرض إذا عرف أن مقصوده فيه ولو كان مقصوده في غيره لذهب إليه . فالسفر إلى مثل هذا لم يدخل في الحديث باتفاق العلماء وإنما دخل فيه من يسافر لمكان معين لفضيلة ذلك بعينه كالذي يسافر إلى المساجد وآثار الأنبياء : كالطور الذي كلم الله [ ص: 250 ] عليه موسى وغار حراء الذي نزل فيه الوحي ابتداء على الرسول وغار ثور المذكور في القرآن في قوله : { إذ هما في الغار } وما هو دون ذلك من المغارات والجبال : كالسفر إلى جبل لبنان ومغارة الدم ونحو ذلك . فإن كثيرا من الناس يسافر إلى ما يعتقد فضله من الجبال والغيران . فإذا كان الطور الذي كلم الله عليه موسى وسماه البقعة المباركة والوادي المقدس لا يستحب السفر إليه فغير ذلك من الجبال أولى أن لا يسافر إليه .

وقولي بالإجماع . أعني به إجماع السلف والأئمة فإن الصحابة كابن عمر وأبي سعيد وأبي بصرة وغيرهم فهموا من قول النبي صلى الله عليه وسلم { لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد } أن الطور الذي كلم الله عليه موسى وسماه بالواد المقدس والبقعة المباركة داخل في النهي ونهوا الناس عن السفر إليه ولم يخصوا النهي بالمساجد . ولهذا لم يوجب أحد ذلك بالنذر وما علمت في هذا نزاعا قديما ولا رأيت أحدا صرح بخلاف ذلك ; إلا ابن حزم الظاهري فإنه يحرم السفر إلى مسجد غير الثلاثة إذا نذره كقول الجمهور وإذا نذر السفر إلى أثر من آثار الأنبياء أوجب الوفاء به ; لأنه لا يقول بفحوى الخطاب وتنبيهه وهذا هو إحدى الروايتين عن داود فلا يجعل قوله : { فلا تقل لهما أف } دليلا على النهي عن السب والشتم [ ص: 251 ] والضرب ولا نهيه عن أن يبال في الماء الدائم ثم يغتسل فيه نهيا عن صب البول ثم الاغتسال فيه وجمهور العلماء يرون أن مثل هذا من نقص العقل والفهم وأنه من " باب السفسطة " في جحد مراد المتكلم كما هو مبسوط في موضع آخر .

وإذا كان غار حراء الذي كان أهل مكة يصعدون إليه للتعبد فيه ويقال : إن عبد المطلب سن لهم ذلك وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة يتحنث فيه وفيه نزل عليه الوحي أولا ; لكن من حين نزل الوحي عليه ما صعد إليه بعد ذلك ولا قربه ; لا هو ولا أصحابه وقد أقام بمكة بعد النبوة بضع عشرة سنة لم يزره ولم يصعد إليه وكذلك المؤمنون معه بمكة . وبعد الهجرة أتى مكة مرارا في عمرة الحديبية وعام الفتح وأقام بها قريبا من عشرين يوما وفي عمرة الجعرانة ولم يأت غار حراء ولا زاره . فإذا كان هذا الغار لا يسافر إليه ولا يزار فغيره من المغارات كمغارة الدم ونحوها أولى أن لا تزار . فإن العبادات بعد مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم كالصلاة والذكر والدعاء مشروعة في كل مكان جعلت الأرض كلها له ولأمته مسجدا وطهورا " .

التالي السابق


الخدمات العلمية