صفحة جزء
[ ص: 258 ] فصل و " المسجد الأقصى " صلت فيه الأنبياء من عهد الخليل كما في الصحيحين عن أبي ذر قال : { قلت يا رسول الله أي مسجد وضع أولا ؟ قال : المسجد الحرام قلت : ثم أي ؟ قال : المسجد الأقصى قلت : كم بينهما ؟ قال : أربعون سنة ثم حيث ما أدركتك الصلاة فصل فإنه مسجد وصلى فيه من أولياء الله ما لا يحصيه إلا الله وسليمان بناه هذا البناء وسأل ربه ثلاثا : سأله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده وسأله حكما يوافق حكمه وسأله أنه لا يؤم هذا المسجد أحد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا غفر له } .

ولهذا كان ابن عمر يأتي من الحجاز فيدخل فيصلي فيه ثم يخرج ولا يشرب فيه ماء لتصيبه دعوة سليمان . وكان الصحابة ثم التابعون يأتون ولا يقصدون شيئا مما حوله من البقاع ولا يسافرون إلى قرية الخليل ولا غيرها .

وكذلك " مسجد نبينا " بناه أفضل الأنبياء ومعه المهاجرون [ ص: 259 ] والأنصار وهو أول مسجد أذن فيه في الإسلام وفيه كان الرسول يصلي بالمسلمين الجمعة والجماعة ويعلمهم الكتاب والحكمة وفيه كان يأمرهم بما يأمرهم به من المغازي وغير المغازي . وفيه سنت السنة والإسلام منه خرج وكانت الصلاة فيه بألف والسفر إليه مشروعا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وليس عنده قبر ; لا قبره ولا قبر غيره ثم لما دفن الرسول دفن في حجرته وبيته لم يدفن في المسجد .

والفرق بين البيت والمسجد مما يعرفه كل مسلم ; فإن المسجد يعتكف فيه والبيت لا يعتكف فيه وكان إذا اعتكف يخرج من بيته إلى المسجد ولا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان والمسجد لا يمكث فيه جنب ولا حائض وبيته كانت عائشة تمكث فيه وهي حائض وكذلك كل بيت مرسوم تمكث فيه المرأة وهي حائض وكانت تصيبه فيه الجنابة فيمكث فيه جنبا حتى يغتسل وفيه ثيابه وطعامه وسكنه وراحته ; كما جعل الله البيوت .

وقد ذكر الله " بيوت النبي " في كتابه وأضافها تارة إلى الرسول وتارة إلى أزواجه ; وليس لتلك البيوت حرمة المسجد وفضيلته وفضيلة الصلاة فيه ولا تشد الرحال إليها ولا الصلاة في شيء منها بألف صلاة . ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم في حال [ ص: 260 ] حياته كان هو وأصحابه . أفضل ممن جاء بعدهم وعبادتهم أفضل من عبادة من جاء بعدهم وهم لما ماتوا لم تكن قبورهم أفضل من بيوتهم التي كانوا يسكنونها في حال الحياة ولا أبدانهم بعد الموت أكثر عبادة لله وطاعة مما كانت في حال الحياة .

والله تعالى قد أخبر أنه جعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا . تكفت الناس أحياء على ظهرها وأمواتا في بطنها وليس كفتهم أمواتا بأفضل من كفتهم أحياء ; ولهذا تستحب زيارة أهل البقيع وأحد وغيرهم من المؤمنين . فيدعى لهم ويستغفر لهم ولا يستحب أن تقصد قبورهم لما تقصد له المساجد من الصلاة والاعتكاف ونحو ذلك وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { أحب البقاع إلى الله المساجد } فليس في البقاع أفضل منها وليست مساكن الأنبياء لا أحياء ولا أمواتا بأفضل من المساجد . هذا هو الثابت بنص الرسول صلى الله عليه وسلم واتفاق علماء أمته .

وما ذكره بعضهم من أن قبور الأنبياء والصالحين أفضل من المساجد وأن الدعاء عندها أفضل من الدعاء في المساجد حتى في المسجد الحرام والمسجد النبوي . فقول يعلم بطلانه بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم ويعلم إجماع علماء الأمة على بطلانه إجماعا ضروريا كإجماعهم على أن الاعتكاف في المساجد أفضل منه عند القبور . والمقصود [ ص: 261 ] بالاعتكاف : العبادة والصلاة والقراءة والذكر والدعاء .

وما ذكره بعضهم من الإجماع على تفضيل قبر من القبور على المساجد كلها . فقول محدث في الإسلام ; لم يعرف عن أحد من السلف ولكن ذكره بعض المتأخرين فأخذه عنه آخر وظنه إجماعا ; لكون أجساد الأنبياء أنفسها أفضل من المساجد . فقولهم يعم المؤمنين كلهم فأبدانهم أفضل من كل تراب في الأرض ولا يلزم من كون أبدانهم أفضل أن تكون مساكنهم أحياء وأمواتا أفضل ; بل قد علم بالاضطرار من دينهم أن مساجدهم أفضل من مساكنهم .

وقد يحتج بعضهم بما روي من : { أن كل مولود يذر عليه من تراب حفرته } فيكون قد خلق من تراب قبره . وهذا الاحتجاج باطل لوجهين .

أحدهما : أن هذا لا يثبت وما روي فيه كله ضعيف والجنين في بطن أمه يعلم قطعا أنه لم يذر عليه تراب ولكن آدم نفسه هو الذي خلق من تراب ثم خلقت ذريته من سلالة من ماء مهين . ومعلوم أن ذلك التراب لا يتميز بعضه لشخص وبعضه لشخص آخر فإنه إذا استحال وصار بدنا حيا لما نفخ في آدم الروح فلم يبق ترابا . وبسط هذا له موضع آخر .

[ ص: 262 ] والمقصود هنا : التنبيه على مثل هذه الإجماعات التي يذكرها بعض الناس ويبنون عليها ما يخالف دين المسلمين : الكتاب والسنة والإجماع .

الوجه الثاني : أنه لو ثبت أن الميت خلق من ذلك التراب فمعلوم أن خلق الإنسان من مني أبويه أقرب من خلقه من التراب ومع هذا فالله يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي : يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن فيخلق من الشخص الكافر مؤمنا نبيا وغير نبي كما خلق الخليل من آزر وإبراهيم خير البرية هو أفضل الأنبياء بعد محمد صلى الله عليه وسلم وآزر من أهل النار كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة فيقول إبراهيم : ألم أقل لك لا تعصني فيقول له : فاليوم لا أعصيك . فيقول إبراهيم : يا رب ألم تعدني أن لا تخزيني وأي خزي أخزى من أبي الأبعد فيقال له : التفت فيلتفت فإذا هو بذيخ عظيم والذيخ ذكر الضباع فيمسخ آزر في تلك الصورة ويؤخذ بقوائمه فيلقى في النار فلا يعرف أنه أبو إبراهيم } . وكما خلق نبينا صلى الله عليه وسلم من أبويه وقد نهي عن الاستغفار لأمه وفي الصحيح { أن رجلا قال له : أين أبي ؟ قال : إن أباك في النار فلما أدبر دعاه فقال : إن أبي وأباك في النار } وقد أخرج من نوح وهو [ ص: 263 ] رسول كريم ابنه الكافر الذي حق عليه القول وأغرقه ونهى نوحا عن الشفاعة فيه . والمهاجرون والأنصار مخلوقون من آبائهم وأمهاتهم الكفار .

فإذا كانت المادة القريبة التي يخلق منها الأنبياء والصالحون لا يجب أن تكون مساوية لأبدانهم في الفضيلة ; لأن الله يخرج الحي من الميت فأخرج البدن المؤمن من مني كافر فالمادة البعيدة وهي التراب أولى أن لا تساوي أبدان الأنبياء والصالحين وهذه الأبدان عبدت الله وجاهدت فيه ومستقرها الجنة . وأما المواد التي خلقت منها هذه الأبدان فما استحال منها وصار هو البدن فحكمه حكم البدن وأما ما فضل منها فذاك بمنزلة أمثاله .

ومن هنا غلط من لم يميز بين ما استحال من المواد فصار بدنا وبين ما لم يستحل ; بل بقي ترابا أو ميتا . فتراب القبور إذا قدر أن الميت خلق من ذلك التراب فاستحال منه وصار بدن الميت : فهو بدنه وفضله معلوم . وأما ما بقي في القبر فحكمه حكم أمثاله بل تراب كان يلاقي جباههم عند السجود - وهو أقرب ما يكون العبد من ربه المعبود - أفضل من تراب القبور واللحود . وبسط هذا له موضع آخر .

[ ص: 264 ] والمقصود هنا : أن مسجد الرسول وغيره من المساجد فضيلتها بكونها بيوت الله التي بنيت لعبادته قال تعالى : { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا } وقال تعالى : { قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد } وقال تعالى : { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر } - إلى قوله - { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين } وقال تعالى : { في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال } { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار } { ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب } .

التالي السابق


الخدمات العلمية