صفحة جزء
وقد دلهم صلى الله عليه وسلم على أفضل العبادات وأفضل البقاع كما في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : { قلت [ ص: 403 ] يا رسول الله أي العمل أفضل ؟ قال : الصلاة على مواقيتها . قلت : ثم أي ؟ قال بر الوالدين . قلت : ثم أي ؟ قال : الجهاد في سبيل الله . قاله سألته عنهن ولو استزدته لزادني } . وفي المسند وسنن ابن ماجه عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن } . والصلاة قد شرع للأمة أن تتخذ لها مساجد وهي أحب البقاع إلى الله كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم وغيره أنه قال : { أحب البقاع إلى الله المساجد وأبغض البقاع إلى الله الأسواق } .

ومع هذا فقد لعن من يتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد وهو في مرض موته نصيحة للأمة وحرصا منه على هداها . كما نعته الله بقوله : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم } ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه : لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد . قالت عائشة : ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا } وفي رواية : { ولكن خشي أن يتخذ مسجدا } . وفي رواية للبخاري { غير أني أخشى أن يتخذ مسجدا } . وعن عائشة وابن عباس قالا : { لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 404 ] طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك : لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } يحذر ما صنعوا . ومن حكمة الله أن عائشة أم المؤمنين صاحبة الحجرة التي دفن فيها صلى الله عليه وسلم تروي هذه الأحاديث وقد سمعتها منه وإن كان غيرها منالصحابة أيضا يرويها : كابن عباس وأبي هريرة وجندب بن عبد الله وابن مسعود - رضي الله تعالى عنهم .

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } . وفي الصحيحين عن عائشة { أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة } . وفي صحيح مسلم عن { جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول : إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا . ألا وإن من [ ص: 405 ] كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك } . وفي صحيح مسلم عن أبي مرثد الغنوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها } . وفي المسند وصحيح أبي حاتم أنه صلى الله عليه وسلم قال : { إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد } . وقد تقدم نهيه أن يتخذوا قبره عيدا .

فلما علم الصحابة أنه قد نهاهم عن أن يتخذوه مصلى للفرائض التي يتقرب بها إلى الله عز وجل لئلا يتشبهوا بالمشركين الذين يدعونها ويصلون لها وينذرون لها : كان نهيهم عن دعائها أعظم وأعظم . كما أنه لما نهاهم عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها لئلا يتشبهوا بمن يسجد للشمس : كان نهيهم عن السجود للشمس أولى وأحرى . فكان الصحابة رضوان الله عليهم يقصدون الصلاة والدعاء والذكر في المساجد التي بنيت لله دون قبور الأنبياء والصالحين التي نهوا أن يتخذوها مساجد وإنما هي بيوت المخلوقين . وكانوا يفعلون بعد موته ما كانوا يفعلون في حياته صلى الله عليه وآله وسلم تسليما .

ومما يدل على ما ذكره مالك وغيره من علماء المسلمين من الكراهة لأهل المدينة قصدهم القبر إذا دخلوا أو خرجوا منه ونحو ذلك [ ص: 406 ] وإن كان قصدهم مجرد السلام عليه والصلاة : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء راكبا وماشيا كل سبت كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث ابن عمر قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي قباء كل سبت راكبا وماشيا } وكان ابن عمر يفعله . زاد نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم { فيصلي فيه ركعتين } . وهذا الحديث الصحيح يدل على أنه كان يصلي في مسجده يوم الجمعة ويذهب إلى مسجد قباء فيصلي فيه يوم السبت وكلاهما أسس على التقوى وقد قال تعالى : { لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين } وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه سأل أهل قباء عن هذا الطهور الذي أثنى الله عليهم فذكروا أنهم يستنجون بالماء . وفي سنن أبي داود وغيره قال { نزلت هذه الآية في مسجد أهل قباء { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } قال : كانوا يستنجون بالماء . فنزلت فيهم هذه الآية } . وقد ثبت في الصحيح عن { سعد أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى وهو في بيت بعض نسائه فأخذ كفا من حصى فضرب به الأرض ثم قال : هو مسجدكم هذا لمسجد المدينة } . فتبين أن كلا المسجدين أسس على التقوى لكن مسجد المدينة أكمل في هذا النعت فهو أحق بهذا الاسم . ومسجد قباء كان سبب نزول الآية لأنه [ ص: 407 ] مجاور لمسجد الضرار الذي نهي عن القيام فيه .

والمقصود أن إتيان قباء كل أسبوع للصلاة فيه كان ابن عمر يفعله اتباعا للنبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن ابن عمر ولا غيره إذا كانوا مقيمين بالمدينة يأتون قبر النبي صلى الله عليه وسلم لا في الأسبوع ولا في غير الأسبوع . وإنما كان ابن عمر يأتي القبر إذا قدم من سفر . وكثير من الصحابة أو أكثرهم كانوا يقدمون من الأسفار ولا يأتون القبر لا لسلام ولا لدعاء ولا غير ذلك . فلم يكونوا يقفون عنده خارج الحجرة في المسجد كما كان ابن عمر يفعل . ولم يكن أحد منهم يدخل الحجرة لذلك ; بل ولا يدخلونها إلا لأجل عائشة رضي الله عنها لما كانت مقيمة فيها . وحينئذ فكان من يدخل إليها يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم كما كانوا يسلمون عليه إذا حضروا عنده .

وأما السلام الذي لا يسمعه فذلك سلام الله عليهم به عشرا كالسلام عليه في الصلاة وعند دخول المسجد والخروج منه . وهذا السلام مأمور به في كل مكان وزمان . وهو أفضل من السلام المختص بقبره . فإن هذا المختص بقبره من جنس تحية سائر المؤمنين أحياء وأمواتا .

التالي السابق


الخدمات العلمية