صفحة جزء
وأما الشفاعة والدعاء فانتفاع العباد به موقوف على شروط وله موانع فالشفاعة للكفار بالنجاة من النار والاستغفار لهم مع موتهم على الكفر لا تنفعهم - ولو كان الشفيع أعظم الشفعاء جاها - فلا شفيع أعظم من محمد صلى الله عليه وسلم ثم الخليل إبراهيم وقد دعا الخليل إبراهيم لأبيه واستغفر له كما قال تعالى عنه { ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب } . وقد كان صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر لأبي طالب اقتداء بإبراهيم وأراد بعض المسلمين أن يستغفر لبعض أقاربه فأنزل الله تعالى : { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم } . [ ص: 146 ] ثم ذكر الله عذر إبراهيم فقال : { وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم } { وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون } وثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة فيقول له إبراهيم : ألم أقل لك لا تعصني ؟ فيقول له أبوه : فاليوم لا أعصيك . فيقول إبراهيم : يا رب أنت وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون وأي خزي أخزى من أبي الأبعد ؟ فيقول الله عز وجل : إني حرمت الجنة على الكافرين ثم يقال : انظر ما تحت رجليك فينظر فإذا هو بذيخ متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار } فهذا لما مات مشركا لم ينفعه استغفار إبراهيم مع عظم جاهه وقدره وقد قال تعالى للمؤمنين : { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير } { ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم } . فقد أمر الله تعالى المؤمنين بأن يتأسوا بإبراهيم ومن اتبعه إلا في قول إبراهيم لأبيه { لأستغفرن لك } فإن الله لا يغفر أن يشرك به . وكذلك سيد الشفعاء محمد صلى الله عليه وسلم ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي } . وفي رواية { أن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 147 ] زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله ثم قال استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت } وثبت عن أنس في الصحيح { أن رجلا قال : يا رسول الله أين أبي ؟ قال في النار . فلما قفى دعاه فقال إن أبي وأباك في النار } .

وثبت أيضا في الصحيح { عن أبي هريرة لما أنزلت هذه الآية : { وأنذر عشيرتك الأقربين } دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فاجتمعوا فعم وخص فقال : يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار . يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار . يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار . يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار . يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار . يا فاطمة أنقذي نفسك من النار . فإني لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها } وفي رواية عنه { يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله ; فإني لا أغني عنكم من الله شيئا . يا بني عبد المطلب . لا أغني عنكم من الله شيئا . يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا . يا صفية - عمة رسول الله - لا أغني عنك من الله شيئا . يا فاطمة بنت رسول الله سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا . } { وعن عائشة لما نزلت : { وأنذر عشيرتك الأقربين } قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا فاطمة بنت محمد يا صفية بنت عبد المطلب . لا أملك لكم من الله شيئا . سلوني من مالي ما شئتم } .

وعن { أبي هريرة قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا ذات يوم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ثم قال : لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول : يا رسول الله . أغثني . فأقول : لا أملك لك شيئا [ ص: 148 ] قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة فيقول : يا رسول الله أغثني . فأقول : لا أملك لك شيئا قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء فيقول : يا رسول الله أغثني . فأقول : لا أملك لك شيئا قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق فيقول : يا رسول الله أغثني . فأقول : لا أملك لك شيئا قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول : يا رسول الله أغثني . فأقول : لا أملك لك شيئا قد أبلغتك } أخرجاه في الصحيحين وزاد مسلم { لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول : يا رسول الله أغثني . فأقول : لا أملك لك شيئا قد أبلغتك } . وفي البخاري عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { ولا يأتي أحدكم يوم القيامة بشاة يحملها على رقبته لها يعار فيقول : يا محمد فأقول : لا أملك لك شيئا قد بلغت . ولا يأتي أحدكم ببعير يحمله على رقبته له رغاء فيقول : يا محمد فأقول : لا أملك لك شيئا قد بلغت } . وقوله هنا صلى الله عليه وسلم لا أملك لك من الله شيئا كقول إبراهيم لأبيه { لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء } .

التالي السابق


الخدمات العلمية