صفحة جزء
[ ص: 22 ] فصل : القاعدة الثانية في العقود حلالها وحرامها والأصل في ذلك : أن الله حرم في كتابه أكل أموالنا بيننا بالباطل . وذم الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل وذم اليهود على أخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل . وهذا يعم كل ما يؤكل بالباطل في المعاوضات والتبرعات وما يؤخذ بغير رضا المستحق والاستحقاق . وأكل المال بالباطل في المعاوضة نوعان ذكرهما الله في كتابه هما : الربا والميسر . فذكر تحريم الربا الذي هو ضد الصدقة في آخر " سورة البقرة " " وسورة آل عمران " " والروم " " والمدثر " . وذم اليهود عليه في " سورة النساء " وذكر تحريم الميسر في " سورة المائدة " .

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم فصل ما جمعه الله في كتابه . فنهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر . كما رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه . والغرر : هو المجهول العاقبة . فإن بيعه من الميسر الذي هو القمار . وذلك : أن العبد إذا أبق [ ص: 23 ] أو الفرس أو البعير إذا شرد ; فإن صاحبه إذا باعه فإنما يبيعه مخاطرة فيشتريه المشتري بدون ثمنه بكثير . فإن حصل له قال البائع : قمرتني وأخذت مالي بثمن قليل وإن لم يحصل قال المشتري : قمرتني وأخذت الثمن مني بلا عوض فيفضي إلى مفسدة الميسر : التي هي إيقاع العداوة والبغضاء مع ما فيه من أكل المال بالباطل الذي هو نوع من الظلم . ففي بيع الغرر ظلم وعداوة وبغضاء .

ومن نوع الغرر ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من بيع حبل الحبلة والملاقيح والمضامين ومن بيع السنين وبيع الثمر قبل بدو صلاحه وبيع الملامسة والمنابذة ونحو ذلك : كله من نوع الغرر .

وأما الربا : فتحريمه في القرآن أشد ولهذا قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين } { فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } وذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الكبائر كما خرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه . وذكر الله أنه حرم على الذين هادوا طيبات أحلت لهم بظلمهم وصدهم عن سبيل الله وأخذهم الربا وأكلهم أموال الناس بالباطل . وأخبر سبحانه أنه يمحق الربا كما يربي الصدقات . وكلاهما أمر مجرب عند الناس .

[ ص: 24 ] وذلك : أن الربا أصله إنما يتعامل به المحتاج وإلا فالموسر لا يأخذ ألفا حالة بألف ومائتين مؤجلة إذا لم يكن له حاجة لتلك الألف . وإنما يأخذ المال بمثله وزيادة إلى أجل من هو محتاج إليه فتقع تلك الزيادة ظلما للمحتاج بخلاف الميسر ، فإن المظلوم فيه غير مفتقر ولا هو محتاج إلى العقد . وقد تخلو بعض صوره عن الظلم إذا وجد في المستقبل المبيع على الصفة التي ظناها والربا فيه ظلم محقق للمحتاج ، ولهذا كان ضد الصدقة ، فإن الله لم يدع الأغنياء حتى أوجب عليهم إعطاء الفقراء ; فإن مصلحة الغني والفقير في الدين والدنيا لا تتم إلا بذلك ، فإذا أربى معه فهو بمنزلة من له على رجل دين فمنعه دينه وظلمه زيادة أخرى والغريم محتاج إلى دينه . فهذا من أشد أنواع الظلم ; ولعظمته لعن النبي صلى الله عليه وسلم آكله وهو الآخذ وموكله وهو المحتاج المعطى للزيادة وشاهديه وكاتبه لإعانتهم عليه .

ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم حرم أشياء مما يخفى فيها الفساد لإفضائها إلى الفساد المحقق - كما حرم قليل الخمر ; لأنه يدعو إلى كثيرها - مثل ربا الفضل ; فإن الحكمة فيه قد تخفى إذ العاقل لا يبيع درهما بدرهمين ; إلا لاختلاف الصفات . مثل : كون الدرهم صحيحا ، والدرهمين مكسورين أو كون الدرهم مصوغا أو من نقد نافق ونحو ذلك ; ولذلك خفيت حكمة تحريمه على ابن عباس ومعاوية [ ص: 25 ] وغيرهما فلم يروا به بأسا حتى أخبرهم الصحابة الأكابر - كعبادة بن الصامت وأبي سعيد وغيرهما - بتحريم النبي صلى الله عليه وسلم لربا الفضل .

التالي السابق


الخدمات العلمية