صفحة جزء
ودلائل تحريم الحيل من الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار كثيرة ذكرنا منها نحوا من ثلاثين دليلا فيما كتبناه في ذلك وذكرنا ما يحتج به من يجوزها كيمين أيوب وحديث تمر خيبر ومعاريض [ ص: 30 ] السلف ، وذكرنا جواب ذلك .

ومن ذرائع ذلك : " مسألة العينة " وهو أن يبيعه سلعة إلى أجل ثم يبتاعها منه بأقل من ذلك . فهذا مع التواطؤ يبطل البيعين ; لأنها حيلة . وقد روى أحمد وأبو داود بإسنادين جيدين عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " { إذا تبايعتم بالعينة واتبعتم أذناب البقر وتركتم الجهاد في سبيل الله : أرسل الله عليكم ذلا لا يرفعه عنكم حتى تراجعوا دينكم } . وإن لم يتواطآ فإنهما يبطلان البيع الثاني سدا للذريعة . ولو كانت عكس مسألة العينة من غير تواطؤ : ففيه روايتان عن أحمد وهو أن يبيعه حالا ثم يبتاع منه بأكثر مؤجلا . وأما مع التواطؤ فربا محتال عليه .

ولو كان مقصود المشتري الدرهم وابتاع السلعة إلى أجل ليبيعها ويأخذ ثمنها . فهذا يسمى : " التورق " . ففي كراهته عن أحمد روايتان . والكراهة قول عمر بن عبد العزيز ومالك فيما أظن ; بخلاف المشتري الذي غرضه التجارة أو غرضه الانتفاع أو القنية فهذا يجوز شراؤه إلى أجل بالاتفاق .

ففي الجملة : أهل المدينة وفقهاء الحديث مانعون من أنواع الربا منعا محكما مراعين لمقصود الشريعة وأصولها . وقولهم في ذلك هو [ ص: 31 ] الذي يؤثر مثله عن الصحابة وتدل عليه معاني الكتاب والسنة .

وأما الغرر : فأشد الناس فيه قولا أبو حنيفة والشافعي رضي الله عنهما أما الشافعي : فإنه يدخل في هذا الاسم من الأنواع ما لا يدخله غيره من الفقهاء ; مثل الحب والثمر في قشره الذي ليس بصوان : كالباقلاء والجوز واللوز في قشره الأخضر وكالحب في سنبله فإن القول الجديد عنده : أن ذلك لا يجوز مع أنه قد اشترى في مرض موته باقلاء أخضر فخرج ذلك له قولا واختاره طائفة من أصحابه كأبي سعيد الإصطخري ، وروي عنه أنه ذكر له : أن النبي صلى الله عليه وسلم " { نهى عن بيع الحب حتى يشتد } فدل على جواز بيعه بعد اشتداده وإن كان في سنبله . فقال : إن صح هذا أخرجته من العام أو كلاما قريبا من هذا ، وكذلك ذكر أنه رجع عن القول بالمنع .

قال ابن المنذر : جواز ذلك هو قول مالك وأهل المدينة وعبيد الله بن الحسن وأهل البصرة وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي . وقال الشافعي مرة لا يجوز ثم بلغه حديث ابن عمر فرجع عنه وقال به . قال ابن المنذر : ولا أعلم أحدا يعدل عن القول به .

وذكر بعض أصحابه له قولين وإن الجواز هو القديم . حتى منع [ ص: 32 ] من بيع الأعيان الغائبة بصفة وغير صفة متأولا أن بيع الغائب غرر وإن وصف حتى اشترط فيما في الذمة - كدين السلم - من الصفات وضبطها ما لم يشترطه غيره . ولهذا يتعذر أو يتعسر على الناس المعاملة في العين والدين بمثل هذا القول . وقاس على بيع الغرر جميع العقود ; من التبرعات والمعاوضات فاشترط في أجرة الأجير وفدية الخلع والكتابة وصلح أهل الهدنة وجزية أهل الذمة : ما اشترطه في البيع عينا ودينا ; ولم يجوز في ذلك جنسا وقدرا وصفة إلا ما يجوز مثله في البيع وإن كانت هذه العقود لا تبطل بفساد أعواضها أو يشترط لها شروط أخر .

وأما أبو حنيفة : فإنه يجوز بيع الباقلاء ونحوه في القشرين ويجوز إجارة الأجير بطعامه وكسوته ويجوز أن تكون جهالة المهر كجهالة مهر المثل . ويجوز بيع الأعيان الغائبة بلا صفة مع الخيار ; لأنه يرى وقف العقود ; لكنه يحرم المساقاة والمزارعة ونحوهما من المعاملات مطلقا . والشافعي يجوز بيع بعض ذلك ويحرم أيضا كثيرا من الشروط في البيع والإجارة والنكاح وغير ذلك مما يخالف مطلق العقد .

وأبو حنيفة يجوز بعض ذلك ويجوز من الوكالات والشركات ما لا يجوزه الشافعي حتى جوز شركة المفاوضة والوكالة بالمجهول المطلق . [ ص: 33 ] وقال الشافعي : إن لم تكن شركة المفاوضة باطلة فما أعلم شيئا باطلا .

فبينهما في هذا الباب عموم وخصوص لكن أصول الشافعي المحرمة أكثر من أصول أبي حنيفة في ذلك .

وأما مالك : فمذهبه أحسن المذاهب في هذا . فيجوز بيع هذه الأشياء وجميع ما تدعو إليه الحاجة أو يقل غرره بحيث يحتمل في العقود حتى يجوز بيع المقاثي جملة وبيع المغيبات في الأرض كالجزر والفجل ونحو ذلك .

وأحمد قريب منه في ذلك فإنه يجوز هذه الأشياء ويجوز - على المنصوص عنه - أن يكون المهر عبدا مطلقا أو عبدا من عبيده ونحو ذلك مما لا تزيد جهالته على مهر المثل ، وإن كان من أصحابه من يجوز المبهم دون المطلق كأبي الخطاب . ومنهم من يوافق الشافعي . فلا يجوز في المهر وفدية الخلع ونحوهما إلا ما يجوز في المبيع كأبي بكر عبد العزيز : ويجوز - على المنصوص عنه - في فدية الخلع أكثر من ذلك حتى ما يجوز في الوصية وإن لم يجز في المهر كقول مالك مع اختلاف في مذهبه ليس هذا موضعه لكن المنصوص عنه : أنه لا يجوز بيع المغيب في الأرض كالجزر ونحوه إلا إذا قلع . وقال : [ ص: 34 ] هذا الغرر شيء ليس يراه كيف يشتريه ؟ والمنصوص عنه : أنه لا يجوز بيع القثاء والخيار والباذنجان ونحوه إلا لقطة لقطة ولا يباع من المقاثي والمباطخ إلا ما ظهر دون ما بطن ولا تباع الرطبة إلا جزة جزة كقول أبي حنيفة والشافعي ; لأن ذلك غرر ، وهو بيع الثمرة قبل بدو صلاحها .

ثم اختلف أصحابه فأكثرهم أطلقوا ذلك في كل مغيب كالجزر والفجل والبصل وما أشبه ذلك . كقول الشافعي وأبي حنيفة .

وقال الشيخ أبو محمد : إذا كان مما يقصد فروعه وأصوله كالبصل المبيع أخضر والكراث والفجل أو كان المقصود فروعه . فالأولى جواز بيعه ; لأن المقصود منه ظاهر . فأشبه الشجر والحيطان ويدخل ما لم يظهر في المبيع تبعا ، وإن كان معظم المقصود منه أصوله لم يجز بيعه في الأرض ; لأن الحكم للأغلب وإن تساويا لم يجز أيضا لأن الأصل اعتبار الشرط وإنما سقط في الأقل التابع .

وكلام أحمد يحتمل وجهين . فإن أبا داود قال . قلت لأحمد : بيع الجزر في الأرض ؟ قال : لا يجوز بيعه إلا ما قلع منه . هذا الغرر شيء ليس يراه . كيف يشتريه ؟ فعلل بعدم الرؤية . فقد يقال : إن لم ير كله لم يبع . وقد يقال : رؤية بعض المبيع تكفي إذا دلت على الباقي [ ص: 35 ] كرؤية وجه العبد .

وكذلك اختلفوا في المقاثي إذا بيعت بأصولها . كما هو العادة غالبا ، فقال قوم من المتأخرين : يجوز ذلك ; لأن بيع أصول الخضراوات . كبيع الشجر وإذا باع الشجرة وعليها الثمر لم يبد صلاحه جاز ، فكذلك هذا . وذكر أن هذا مذهب أبي حنيفة والشافعي .

وقال المتقدمون : لا يجوز بحال وهو معنى كلامه ومنصوصه . وهو إنما نهى عما يعتاده الناس وليست العادة جارية في البطيخ والقثاء والخيار أن يباع دون عروقه . والأصل الذي قاسوا عليه ممنوع عنده ; فإن المنصوص عنه في رواية الأثرم وإبراهيم بن الحارث في الشجر الذي عليه ثمر لم يبد صلاحه : أنه إن كان الأصل هو مقصوده الأعظم جاز . وأما إن كان مقصوده الثمرة فاشترى الأصل معها حيلة : لم يجز . وكذلك إذا اشترى أرضا وفيها زرع أو شجر مثمر لم يبد صلاحه فإن كانت الأرض هي المقصود : جاز دخول الثمر والزرع معها تبعا . وإن كان المقصود هو الثمر والزرع فاشترى الأرض لذلك : لم يجز . وإذا كان هذا قوله في ثمرة الشجر فمعلوم أن المقصود من المقاثي والمباطخ إنما هو الخضراوات دون الأصول التي ليس لها إلا قيمة يسيرة بالنسبة إلى الخضر .

وقد خرج ابن عقيل وغيره فيها وجهين : [ ص: 36 ] أحدهما : كما في جواز بيع المغيبات بناء على إحدى الروايتين عنه في بيع ما لم يره . ولا شك أنه ظاهر فإن المنع إنما يكون على قولنا : لا يصح بيع ما لم يره . فإذا صححنا بيع الغائب فهذا من الغائب .

والثاني : أنه يجوز بيعها مطلقا كمذهب مالك إلحاقا لها بلب الجوز . وهذا القول هو قياس أصول أحمد وغيره لوجهين : أحدهما : أن أهل الخبرة يستدلون برؤية ورق هذه المدفونات على حقيقتها ويعلمون ذلك أجود مما يعلمون العبد برؤية وجهه . والمرجع في كل شيء إلى الصالحين من أهل الخبرة به وهم يقرون بأنهم يعرفون هذه الأشياء كما يعرف غيرها مما اتفق المسلمون على جواز بيعه وأولى .

الثاني : أن هذا مما تمس حاجة الناس إلى بيعه ; فإنه إذا لم يبع حتى يقلع حصل على أصحابه ضرر عظيم ; فإنه قد يتعذر عليهم مباشرة القلع والاستنابة فيه . وإن قلعوه جملة فسد بالقلع . فبقاؤه في الأرض كبقاء الجوز واللوز ونحوهما في قشره الأخضر .

وأحمد وغيره من فقهاء الحديث يجوزون العرايا مع ما فيها من المزابنة لحاجة المشتري إلى أكل الرطب أو البائع إلى أكل التمر ، فحاجة البائع هنا أوكد بكثير . وسنقرر ذلك إن شاء الله تعالى .

[ ص: 37 ] وكذلك قياس أصول أحمد وغيره من فقهاء الحديث : جواز بيع المقاثي باطنها وظاهرها . وإن اشتمل ذلك على بيع معدوم إذا بدا صلاحها كما يجوز بالاتفاق إذا بدا صلاح بعض نخلة أو شجرة : أن يباع جميع ثمرها . وإن كان فيها ما لم يصلح بعد .

وغاية ما اعتذروا به عن خروج هذا من القياس أن قالوا : إنه لا يمكن إفراد البيع لذلك من نخلة واحدة ; لأنه لو أفرد البسرة بالعقد اختلطت بغيرها في يوم واحد لأن البسرة تصفر في يومها . وهذا بعينه موجود في المقثاة .

وقد اعتذر بعض أصحاب الشافعي وأحمد عن بيع المعدوم تبعا بأن ما يحدث من الزيادة في الثمرة بعد العقد ليس بتابع للموجود ; وإنما يكون ذلك للمشتري ; لأنه موجود في ملكه .

والجمهور من الطائفتين يعلمون فساد هذا العذر ; لأنه يجب على البائع سقي الثمرة ويستحق إبقاءها على الشجر بمطلق العقد ولو لم يستحق الزيادة بالعقد لما وجب على البائع ما به يوجد ; فإن الواجب على البائع بحكم البيع توفية المبيع الذي أوجبه العقد ; لا ما كان من موجبات الملك .

التالي السابق


الخدمات العلمية