صفحة جزء
فصل : القاعدة الثالثة : في العقود والشروط فيها فيما يحل منها ويحرم وما يصح منها ويفسد . ومسائل هذه القاعدة كثيرة جدا .

والذي يمكن ضبطه فيها قولان .

أحدهما : أن يقال : الأصل في العقود والشروط فيها ونحو ذلك : الحظر ; إلا ما ورد الشرع بإجازته . فهذا قول أهل الظاهر وكثير من أصول أبي حنيفة تنبني على هذا . وكثير من أصول الشافعي وأصول [ ص: 127 ] طائفة من أصحاب مالك وأحمد . فإن أحمد قد يعلل أحيانا بطلان العقد بكونه لم يرد فيه أثر ولا قياس . كما قاله في إحدى الروايتين في وقف الإنسان على نفسه . وكذلك طائفة من أصحابه قد يعللون فساد الشروط بأنها تخالف مقتضى العقد ويقولون : ما خالف مقتضى العقد فهو باطل . أما أهل الظاهر فلم يصححوا لا عقدا ولا شرطا إلا ما ثبت جوازه بنص أو إجماع . وإذا لم يثبت جوازه أبطلوه واستصحبوا الحكم الذي قبله وطردوا ذلك طردا جاريا ; لكن خرجوا في كثير منه إلى أقوال ينكرها عليهم غيرهم .

وأما أبو حنيفة فأصوله تقتضي أنه لا يصحح في العقود شروطا يخالف مقتضاها في المطلق . وإنما يصحح الشرط في المعقود عليه إذا كان العقد مما يمكن فسخه . ولهذا أبطل أن يشترط في البيع خيار ولا يجوز عنده تأخير تسليم المبيع بحال . ولهذا منع بيع العين المؤجرة . وإذا ابتاع شجرة عليها ثمر للبائع فله مطالبته بإزالته . وإنما جوز الإجارة المؤخرة ; لأن الإجارة عنده لا توجب الملك إلا عند وجود المنفعة أو عتق العبد المبيع أو الانتفاع به أو أن يشترط المشتري بقاء الثمر على الشجر وسائر الشروط التي يبطلها غيره . ولم يصحح في النكاح شرطا أصلا لأن النكاح عنده لا يقبل الفسخ . ولهذا لا ينفسخ عنده بعيب أو إعسار أو نحوهما . ولا يبطل بالشروط [ ص: 128 ] الفاسدة مطلقا . وإنما صحح أبو حنيفة خيار الثلاثة الأيام للأثر وهو عنده موضع استحسان .

والشافعي يوافقه على أن كل شرط خالف مقتضى العقد فهو باطل ; لكنه يستثني مواضع للدليل الخاص . فلا يجوز شرط الخيار أكثر من ثلاث ولا استثناء منفعة المبيع ونحو ذلك مما فيه تأخير تسليم المبيع حتى منع الإجارة المؤخرة ; لأن موجبها - وهو القبض - لا يلي العقد ولا يجوز أيضا ما فيه منع المشتري من التصرف المطلق إلا العتق ; لما فيه من السنة والمعنى ; لكنه يجوز استثناء المنفعة بالشرع كبيع العين المؤجرة على الصحيح في مذهبه وكبيع الشجر مع استيفاء الثمرة مستحقة البقاء ونحو ذلك . ويجوز في النكاح بعض الشروط دون بعض ولا يجوز اشتراطها دارها أو بلدها ولا أن يتزوج عليها ولا يتسرى ويجوز اشتراط حريتها وإسلامها . وكذلك سائر الصفات المقصودة على الصحيح من مذهبه كالجمال ونحوه . وهو ممن يرى فسخ النكاح بالعيب والإعسار وانفساخه بالشروط التي تنافيه كاشتراط الأجل والطلاق ونكاح الشغار . بخلاف فساد المهر ونحوه .

وطائفة من أصحاب أحمد يوافقون الشافعي على معاني هذه الأصول ; لكنهم يستثنون أكثر مما يستثنيه الشافعي كالخيار أكثر من ثلاث كاستثناء البائع منفعة المبيع واشتراط المرأة على زوجها أن لا ينقلها [ ص: 129 ] ولا يزاحمها بغيرها ونحو ذلك من المصالح . فيقولون : كل شرط ينافي مقتضى العقد فهو باطل . إلا إذا كان فيه مصلحة للمتعاقدين .

وذلك أن نصوص أحمد تقتضي أنه جوز من الشروط في العقود أكثر مما جوزه الشافعي . فقد يوافقونه في الأصل ويستثنون للمعارض أكثر مما استثنى كما قد يوافق هو أبا حنيفة في الأصل ويستثني أكثر مما يستثني للمعارض .

وهؤلاء الفرق الثلاث يخالفون أهل الظاهر ويتوسعون في الشروط أكثر منهم ; لقولهم بالقياس والمعاني وآثار الصحابة ولما يفهمونه من معاني النصوص التي ينفردون بها عن أهل الظاهر .

وعمدة هؤلاء : قصة بريرة المشهورة . وهو ما خرجاه في الصحيحين عن { عائشة رضي الله عنها قالت : جاءتني بريرة فقالت : كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني . فقلت : إن أحب أهلك أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت . فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم فأبوا عليها . فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس . فقالت : إني قد عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون لهم الولاء فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فقال : خذيها واشترطي لهم الولاء . فإنما الولاء لمن أعتق .

[ ص: 130 ] ففعلت عائشة ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس . فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله
ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط ، قضاء الله أحق وشرط الله أوثق . وإنما الولاء لمن أعتق
} وفي رواية للبخاري : { اشتريها فأعتقيها وليشترطوا ما شاءوا ، فاشترتها فأعتقتها واشترط أهلها ولاءها فقال النبي صلى الله عليه وسلم الولاء لمن أعتق ، وإن اشترطوا مائة شرط } . وفي لفظ : { شرط الله أحق وأوثق } " . وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر : " { أن عائشة أم المؤمنين أرادت أن تشتري جارية لتعتقها . فقال أهلها : نبيعكها على أن ولاءها لنا ؟ فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال لا يمنعك ذلك . فإنما الولاء لمن أعتق } . وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : { أرادت عائشة أن تشتري جارية فتعتقها ، فأبى أهلها إلا أن يكون لهم الولاء ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : لا يمنعك ذلك ، فإنما الولاء لمن أعتق } .

ولهم من هذا الحديث حجتان .

إحداهما : قوله : { ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل } " . فكل شرط ليس في القرآن ولا في الحديث ولا في [ ص: 131 ] الإجماع : فليس في كتاب الله بخلاف ما كان في السنة أو في الإجماع . فإنه في كتاب الله بواسطة دلالته على اتباع السنة والإجماع .

ومن قال بالقياس - وهو الجمهور - قالوا : إذا دل على صحته القياس المدلول عليه بالسنة أو بالإجماع المدلول عليه بكتاب الله : فهو في كتاب الله .

والحجة الثانية : أنهم يقيسون جميع الشروط التي تنافي موجب العقد على اشتراط الولاء ; لأن العلة فيه : كونه مخالفا لمقتضى العقد . وذلك : لأن العقود توجب مقتضياتها بالشرع . فيعتبر تغييرها تغييرا لما أوجبه الشرع ; بمنزلة تغيير العبادات . وهذا نكتة القاعدة . وهي أن العقود مشروعة على وجه فاشتراط ما يخالف مقتضاها تغيير للمشروع ; ولهذا كان أبو حنيفة ومالك والشافعي - في أحد القولين - لا يجوزون أن يشترط في العبادات شرطا يخالف مقتضاها . فلا يجوزون للمحرم أن يشترط الإحلال بالعذر متابعة لعبد الله بن عمر حيث كان ينكر الاشتراط في الحج . ويقول : أليس حسبكم سنة نبيكم ؟ . وقد استدلوا على هذا الأصل بقوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم } وقوله : { ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون } .

قالوا : فالشروط والعقود التي لم تشرع تعد لحدود الله وزيادة [ ص: 132 ] في الدين .

وما أبطله هؤلاء من الشروط التي دلت النصوص على جوازها بالعموم أو بالخصوص قالوا : ذلك منسوخ . كما قاله بعضهم في شروط النبي صلى الله عليه وسلم مع المشركين عام الحديبية أو قالوا : هذا عام أو مطلق فيخص بالشرط الذي في كتاب الله .

واحتجوا أيضا بحديث يروى في حكاية عن أبي حنيفة وابن أبي ليلى وشريك : { أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط } وقد ذكره جماعة من المصنفين في الفقه ولا يوجد في شيء من دواوين الحديث . وقد أنكره أحمد وغيره من العلماء . وذكروا أنه لا يعرف وأن الأحاديث الصحيحة تعارضه وأجمع الفقهاء المعروفون - من غير خلاف أعلمه من غيرهم - أن اشتراط صفة في المبيع ونحوه كاشتراط كون العبد كاتبا أو صانعا أو اشتراط طول الثوب أو قدر الأرض ونحو ذلك : شرط صحيح .

التالي السابق


الخدمات العلمية