صفحة جزء
[ ص: 520 ] وقال رحمه الله فصل : " عوض المثل " كثير الدوران في كلام العلماء - وهو أمر لا بد منه في العدل الذي به تتم مصلحة الدنيا والآخرة فهو ركن من أركان الشريعة مثل قولهم : قيمة المثل ، وأجرة المثل ، ومهر المثل ونحو ذلك . كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم { من أعتق شركا له في عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل لا وكس ولا شطط فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد } . وفي حديث أنه قضى في بروع بنت واشق بمهر مثلها لا وكس ولا شطط - يحتاج إليه فيما يضمن بالإتلاف من النفوس والأموال والأبضاع والمنافع وما يضمن بالمثل من الأموال والمنافع وبعض النفوس . وما يضمن بالعقود الفاسدة والصحيحة أيضا ; لأجل الأرش في النفوس والأموال .

[ ص: 521 ] ويحتاج إليه في المعاوضة للغير مثل معاوضة الولي للمسلمين ولليتيم وللوقف وغيرهم . ومعاوضة الوكيل كالوكيل في المعاوضة والشريك والمضارب ومعاوضة من تعلق بماله حق الغير كالمريض . ويحتاج إليه فيما يجب شراؤه لله تعالى كماء الطهارة وسترة الصلاة وآلات الحج أو للآدميين : كالمعاوضة الواجبة مثل .

ومداره على القياس والاعتبار للشيء بمثله . وهو نفس العدل ونفس العرف الداخل في قوله : { يأمرهم بالمعروف } وقوله : { وأمر بالعرف } وهذا متفق عليه بين المسلمين ; بل بين أهل الأرض ; فإنه اعتبار في أعيان الأحكام لا في أنواعها .

وهو من معنى القسط الذي أرسل الله له الرسل وأنزل له الكتب . وهو مقابلة الحسنة بمثلها ; والسيئة بمثلها كما قال تعالى : { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } وقال : { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها } وقال : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } وقال : { كتب عليكم القصاص في القتلى } وقال : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } وقال : { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } .

لكن مقابلة الحسنة بمثلها عدل واجب والزيادة إحسان مستحب [ ص: 522 ] والنقص ظلم محرم ومقابلة السيئة بمثلها عدل جائز والزيادة محرم والنقص إحسان مستحب فالظلم للظالم والعدل للمقتصد والإحسان المستحب للسابق بالخيرات .

والأمة ثلاثة : ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات . وكثيرا ما يشتبه على الفقهاء ويتنازعون في حقيقة عوض المثل في جنسه ومقداره في كثير من الصور ; لأن ذلك يختلف لاختلاف الأمكنة والأزمنة والأحوال والأعواض والمعوضات والمتعاوضين . فنقول : " عوض المثل " هو مثل المسمى في العرف وهو الذي يقال له : السعر والعادة فإن المسمى في العقود نوعان : نوع اعتاده الناس وعرفوه فهو العوض المعروف المعتاد . ونوع نادر ; لفرط رغبة أو مضارة أو غيرهما . ويقال فيه ثمن المثل ويقال فيه المثل ; لأنه بقدر مثل العين ثم يقوم بثمن مثلها . فالأصل فيه اختيار الآدميين وإرادتهم ورغبتهم .

ولهذا قال كثير من العلماء : قيمة المثل ما يساوي الشيء في نفوس ذوي الرغبات . ولا بد أن يقال : في الأمر المعتاد . فالأصل فيه إرادة الناس ورغبتهم . وقد علم بالعقول أن حكم الشيء حكم مثله وهذا من العدل والقياس والاعتبار وضرب المثل الذي فطر الله عباده عليه [ ص: 523 ] فإذا عرف أن إرادتهم المعروفة للشيء بمقدار علم أن ذلك ثمن مثله وهو قيمته وقيمة مثله ; لكن إن كانت تلك الرغبة والإرادة لغرض محرم ، كصنعة الأصنام والصلبان . ونحو ذلك . كان ذلك العوض محرما في الشرع .

فعوض المثل في الشريعة يعتبر بالمسمى الشرعي وهو : أن تكون التسمية شرعية وهي المباحة . فأما التسمية المحظورة إما لجنسها : كالخمر والخنزير . وإما لمنفعة محرمة في العين : كالعنب لمن يعصره خمرا أو الغلام لمن يفجر به . وإما لكونه تسمية مباهاة ورياء لا يقصد أداؤها . أو فيها ضرر بأحد المتعاقدين كالمهور التي لا يقصد أداؤها وهي تضر الزوج إلى أجل كما يفعله جفاة الأعراب والحاضرة ونحو ذلك ; فإن هذا ليس بتسمية شرعية فليس هو ميزانا شرعيا يعتبر به المثل حيث لا مسمى .

فتدبر هذا فإنه نافع خصوصا في هذه الصدقات الثقيلة المؤخرة التي قد نهى الله عنها ورسوله ; فإن من الفقهاء من يعتبرها في مثل كون الأيم لا تزوج إلا بمهر مثلها فيرى ترك ما نهى الله عنه خلافا للشريعة ; بناء على أنه مهر المثل حتى في مثل تزويج الأب ونحوه فهذا أصل .

إذا عرف ذلك فرغبة الناس كثيرة الاختلاف والتنوع فإنها [ ص: 524 ] تختلف بكثرة المطلوب وقلته . فعند قلته يرغب فيه ما لا يرغب فيه عند الكثرة . وبكثرة الطلاب وقلتهم ; فإنما كثر طالبوه يرتفع ثمنه ; بخلاف ما قل طالبوه . وبحسب قلة الحاجة وكثرتها وقوتها وضعفها فعند كثرة الحاجة وقوتها ترتفع القيمة ما لا ترتفع عند قلتها وضعفها . وبحسب المعاوض . فإن كان مليا دينا : يرغب في معاوضته بالثمن القليل الذي لا يبذل بمثله لمن يظن عجزه أو مطله أو جحده . والملي المطلق عندنا : هو الملي بماله وقوله وبدنه . هكذا نص أحمد .

وهذا المعنى وإن كان الفقهاء قد اعتبروه في مهر المثل فهو يعتبر أيضا في ثمن المثل وأجرة المثل .

وبحسب العوض فقد يرخص فيه إذا كان بنقد رائج ما لا يرخص فيه إذا كان بنقد آخر دونه في الرواج : كالدراهم والدنانير بدمشق في هذه الأوقات ; فإن المعاوضة بالدراهم هو المعتاد .

وذلك أن المطلوب من العقود هو التقابض من الطرفين فإذا كان الباذل قادرا على التسليم موفيا بالعهد كان حصول المقصود بالعقد معه ; بخلاف ما إذا لم يكن تام القدرة أو تام الوفاء . ومراتب القدرة والوفاء تختلف وهو الخير المذكور في قوله : { فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا } قالوا : قوة على الكسب ووفاء للعهد .

[ ص: 525 ] وهذا يكون في البائع وفي المشتري وفي المؤجر والمستأجر والناكح والمنكوحة فإن المبيع قد يكون حاضرا وقد يكون غائبا فسعر الحاضر أقل من سعر الغائب وكذلك المشتري قد يكون قادرا في الحال على الأداء ; لأن معه مالا وقد لا يكون معه لكنه يريد أن يقترض أو يبيع السلعة فالثمن مع الأول أخف .

وكذلك المؤجر قد يكون قادرا على تسليم المنفعة المستحقة بالعقد بحيث يستوفيها المستأجر بلا كلفة وقد لا يتمكن المستأجر من استيفاء المنفعة إلا بكلفة ; كالقرى التي ينتابها الظلمة من ذي سلطان أو لصوص أو تنتابها السباع فليست قيمتها كقيمة الأرض التي لا تحتاج إلى ذلك : بل من العقار ما لا يمكن أن يستوفي منفعته إلا ذو قدرة يدفع الضرر من منفعته لأعوانه وأنصاره أو يستوفي غيره منه منفعة يسيرة وذو القدرة يستوفي كمال منفعته لدفع الضرر عنه .

وعلى هذا يختلف الانتفاع بالمستأجر بل والمشتري والمنكوح وغير ذلك ، فينتفع به ذو القدرة أضعاف ما ينتفع به غيره ; لقدرته على جلب الأسباب التي بها يكثر الانتفاع وعلى دفع الموانع المانعة من الانتفاع فإذا كان كذلك لم يكن كثرة الانتفاع بما أقامه من الأسباب ودفعه من الموانع موجبا لأن يدخل ذلك التقويم إلا إذا فرض مثله فقد تكون الأرض تساوي أجرة قليلة لوجود الموانع من المعتدين أو السباع أو لاحتياج استيفاء المنفعة إلا قوة ومال .

التالي السابق


الخدمات العلمية