صفحة جزء
[ ص: 331 ] سئل الشيخ رحمه الله - عن " الذبيح " من ولد خليل الله إبراهيم عليه السلام هل هو : إسماعيل أو إسحاق ؟ .


فأجاب : الحمد لله رب العالمين . هذه المسألة فيها مذهبان مشهوران للعلماء وكل منهما مذكور عن طائفة من السلف وذكر أبو يعلى في ذلك روايتين عن أحمد ونصر أنه إسحاق اتباعا لأبي بكر عبد العزيز وأبو بكر اتبع محمد بن جرير . ولهذا يذكر أبو الفرج ابن الجوزي : أن أصحاب أحمد ينصرون أنه إسحاق وإنما ينصره هذان ومن اتبعهما ويحكى ذلك عن مالك نفسه لكن خالفه طائفة من أصحابه .

وذكر الشريف أبو علي بن أبي يوسف : أن الصحيح في مذهب أحمد أنه إسماعيل وهذا هو الذي رواه عبد الله بن أحمد عن أبيه قال : مذهب أبي أنه إسماعيل وفي الجملة فالنزاع فيها مشهور لكن الذي يجب القطع به أنه إسماعيل وهذا الذي عليه الكتاب والسنة والدلائل المشهورة وهو الذي تدل عليه التوراة التي بأيدي أهل الكتاب . [ ص: 332 ] وأيضا فإن فيها أنه قال لإبراهيم : اذبح ابنك وحيدك . وفي ترجمة أخرى : بكرك . وإسماعيل هو الذي كان وحيده وبكره باتفاق المسلمين وأهل الكتاب لكن أهل الكتاب حرفوا فزادوا إسحاق فتلقى ذلك عنهم من تلقاه وشاع عند بعض المسلمين أنه إسحاق وأصله من تحريف أهل الكتاب .

ومما يدل على أنه إسماعيل قصة الذبيح المذكورة في سورة الصافات . قال تعالى : { فبشرناه بغلام حليم } وقد انطوت البشارة على ثلاث . على أن الولد غلام ذكر وأنه يبلغ الحلم وأنه يكون حليما . وأي حلم أعظم من حلمه حين عرض عليه أبوه الذبح فقال . { ستجدني إن شاء الله من الصابرين } ؟ وقيل : لم ينعت الله الأنبياء بأقل من الحلم وذلك لعزة وجوده ولقد نعت إبراهيم به في قوله تعالى { إن إبراهيم لأواه حليم } { إن إبراهيم لحليم أواه منيب } لأن الحادثة شهدت بحلمهما : { فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين } - إلى قوله - { وفديناه بذبح عظيم } { وتركنا عليه في الآخرين } { سلام على إبراهيم } { كذلك نجزي المحسنين } { إنه من عبادنا المؤمنين } { وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين } { وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين }

. فهذه القصة تدل على أنه إسماعيل من وجوه : - ( أحدها : أنه بشره بالذبيح وذكر قصته أولا فلما استوفى ذلك قال : [ ص: 333 ] { وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين } { وباركنا عليه وعلى إسحاق } فبين أنهما بشارتان : بشارة بالذبيح وبشارة ثانية بإسحاق وهذا بين . ( الثاني : أنه لم يذكر قصة الذبيح في القرآن إلا في هذا الموضع وفي سائر المواضع يذكر البشارة بإسحاق خاصة كما في سورة هود : من قوله تعالى { وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب } فلو كان الذبيح إسحاق لكان خلفا للوعد في يعقوب .

وقال تعالى : { فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم } { فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم } وقال تعالى في سورة الحجر : { قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم } { قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون } { قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين } ولم يذكر أنه الذبيح ثم لما ذكر البشارتين جميعا : البشارة بالذبيح والبشارة بإسحاق بعده كان هذا من الأدلة على أن إسحاق ليس هو الذبيح . ويؤيد ذلك أنه ذكر هبته وهبة يعقوب لإبراهيم في رحمه الله { ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين } وقوله : { ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين } ولم يذكر الله الذبيح .

( الوجه الثالث : أنه ذكر في الذبيح أنه غلام حليم ولما ذكر البشارة بإسحاق ذكر البشارة بغلام عليم في غير هذا الموضع والتخصيص لا بد له من حكمة [ ص: 334 ] وهذا مما يقوي اقتران الوصفين والحلم هو مناسب للصبر الذي هو خلق الذبيح . وإسماعيل وصف بالصبر في قوله تعالى . { واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار } وهذا أيضا وجه ثالث فإنه قال في الذبيح : { يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين } وقد وصف الله إسماعيل أنه من الصابرين ووصف الله تعالى إسماعيل أيضا بصدق الوعد في قوله تعالى { إنه كان صادق الوعد } لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى به .

الوجه الرابع : أن البشارة بإسحاق كانت معجزة ; لأن العجوز عقيم ; ولهذا قال الخليل عليه السلام { أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون } وقالت امرأته : { أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا } وقد سبق أن البشارة بإسحاق في حال الكبر وكانت البشارة مشتركة بين إبراهيم وامرأته . وأما البشارة بالذبيح فكانت لإبراهيم عليه السلام وامتحن بذبحه دون الأم المبشرة به وهذا مما يوافق ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الصحيح وغيره : من أن إسماعيل لما ولدته هاجر غارت سارة فذهب إبراهيم [ ص: 335 ] بإسماعيل وأمه إلى مكة وهناك أمر بالذبح . وهذا مما يؤيد أن هذا الذبيح دون ذلك . ومما يدل على أن الذبيح ليس هو إسحاق أن الله تعالى قال : { فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب } فكيف يأمر بعد ذلك بذبحه ؟ والبشارة بيعقوب تقتضي أن إسحاق يعيش ويولد له يعقوب ولا خلاف بين الناس أن قصة الذبيح كانت قبل ولادة يعقوب بل يعقوب إنما ولد بعد موت إبراهيم عليه السلام وقصة الذبيح كانت في حياة إبراهيم بلا ريب . ومما يدل على ذلك : أن قصة الذبيح كانت بمكة { والنبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة كان قرنا الكبش في الكعبة فقال النبي صلى الله عليه وسلم للسادن : إني آمرك أن تخمر قرني الكبش فإنه لا ينبغي أن يكون في القبلة ما يلهي المصلي } .

ولهذا جعلت منى محلا للنسك من عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وهما اللذان بنيا البيت بنص القرآن . ولم ينقل أحد أن إسحاق ذهب إلى مكة لا من أهل الكتاب ولا غيرهم لكن بعض المؤمنين من أهل الكتاب يزعمون أن قصة الذبح كانت بالشام فهذا افتراء . فإن هذا لو كان ببعض جبال الشام لعرف ذلك [ ص: 336 ] الجبل وربما جعل منسكا كما جعل المسجد الذي بناه إبراهيم وما حوله من المشاعر . وفي المسألة دلائل أخرى على ما ذكرناه وأسئلة أوردها طائفة كابن جرير والقاضي أبي يعلى والسهيلي ولكن لا يتسع هذا الموضع لذكرها والجواب عنها . والله عز وجل أعلم . والحمد لله رب العالمين . وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما .

التالي السابق


الخدمات العلمية