صفحة جزء
. وأما الصفات التي تتفاضل فمن ذلك الحياة السرمدية والبقاء الأبدي في الدار الآخرة وليس للملك أكثر من هذا ; وإن كانت حياتنا هذه منغوصة بالموت فقد أسلفت أن التفضيل إنما يقع بعد كمال الحقيقتين حتى لا يبقى إلا البقاء وغير ذلك من العلم الذي امتازت به الملائكة .

فنقول : غير منكر اختصاص كل قبيل من العلم بما ليس للآخر فإن الوحي للرسل على أنحاء كما قال تعالى : { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء } فبين أن الكلام للبشر على ثلاثة أوجه : منها واحد يكون بتوسط الملك . ووجهان آخران ليس للملك فيهما وحي وأين الملك من ليلة المعراج ويوم الطور وتعليم الأسماء وأضعاف ذلك ؟ . ولو ثبت أن علم البشر في الدنيا لا يكون إلا على أيدي الملائكة - وهو والله باطل - فكيف يصنعون بيوم القيامة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 376 ] " { فيفتح الله علي من محامده والثناء عليه بأشياء يلهمنيها لم يفتحها على أحد قبلي } " . وإذا تبين هذا : أن العلم مقسوم من الله ; وليس كما زعم هذا الغبي بأنه لا يكون إلا بأيدي الملائكة على الإطلاق وهو قول بلا علم بل الذي يدل عليه القرآن أن الله تعالى اختص آدم بعلم لم يكن عند الملائكة وهو علم الأسماء الذي هو أشرف العلوم وحكم بفضله عليهم لمزيد العلم فأين العدول عن هذا الموضع إلى بنيات الطريق ؟ ومنها القدرة .

وزعم بعضهم أن الملك أقوى وأقدر وذكر قصة جبرائيل بأنه شديد القوى وأنه حمل قرية قوم لوط على ريشة من جناحه فقد آتى الله بعض عباده أعظم من ذلك فأغرق جميع أهل الأرض بدعوة نوح وقال النبي صلى الله عليه وسلم " { إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره } " { ورب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره } وهذا عام في كل الأشياء وجاء تفسير ذلك في آثار : إن من عباد الله من لو أقسم على الله أن يزيل جبلا أو الجبال عن أماكنها لأزالها وأن لا يقيم القيامة لما أقامها وهذا مبالغة . ولا يقال : إن ذلك يفضل بقوة خلقت فيه وهذا بدعوة يدعوها لأنهما في الحقيقة يؤولان إلى واحد هو مقصود القدرة ومطلوب القوة وما من [ ص: 377 ] أجله يفضل القوي على الضعيف . ثم هب أن هذا في الدنيا فكيف تصنعون في الآخرة ؟ وقد جاء في الأثر : " { يا عبدي أنا أقول للشيء كن فيكون أطعني أجعلك تقول للشيء كن فيكون يا عبدي أنا الحي الذي لا يموت أطعني أجعلك حيا لا تموت } " وفي أثر : " { إن المؤمن تأتيه التحف من الله : من الحي الذي لا يموت إلى الحي الذي لا يموت } " فهذه غاية ليس وراءها مرمى كيف لا وهو بالله يسمع وبه يبصر وبه يبطش وبه يمشي ؟ فلا يقوم لقوته قوة .

وأما الطهارة والنزاهة والتقديس والبراءة عن النقائص والمعائب والطاعة التامة الخاصة لله التي ليس معها معصية ولا سهو ولا غفلة وإنما أفعالهم وأقوالهم على وفق الأمر فقد قال قائل من أين للبشر هذه الصفات ؟ وهذه الصفات على الحقيقة هي أسباب الفضل كما قيل : لا أعدل بالسلامة شيئا . فالجواب من وجوه : - ( أحدها : إنا إذا نظرنا إلى هذه الأحوال في الآخرة كانت في الآخرة للمؤمنين على أكمل حال وأتم وجه وقد قدمنا أن الكلام ليس في تفضيلهم في هذه الحياة فقط بل عند الكمال والتمام والاستقرار في دار الحيوان وفيه وجه قاطع لكل ما كان من جنس هذا الكلام فأين هم من أقوام تكون وجوههم مثل القمر ومثل الشمس لا يبولون ولا يتمخطون ولا يبصقون ما فيهم ذرة من العيب ولا من النقص ( الوجه الثاني : إن هذا بعينه هو الدليل على فضل الآدمي والملائكة [ ص: 378 ] مخلوقون على طريقة واحدة وصفة لازمة لا سبيل إلى انفكاكهم عنها والبشر بخلاف ذلك .

( الوجه الثالث : أن ما يقع من صالحي البشر من الزلات والهفوات ترفع لهم به الدرجات وتبدل لهم السيئات حسنات فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ومنهم من يعمل سيئة تكون سبب دخول الجنة ولو لم يكن - العفو أحب إليه لما ابتلي بالذنب أكرم الخلق عليه وكذلك فرحه بتوبة عبيده وضحكه من علم العبد أنه لا يغفر الذنوب إلا الله فافهم هذا فإنه من أسرار الربوبية وبه ينكشف سبب مواقعة المقربين الذنوب . ( الوجه الرابع : ما روي : " أن الملائكة لما استعظمت خطايا بني آدم ألقى الله تعالى على بعضهم الشهوة فواقعوا الخطيئة " وهو احتجاج من الله تعالى على الملائكة

التالي السابق


الخدمات العلمية