صفحة جزء
وأما العبادة فقد قالوا إن الملائكة دائمو العبادة والتسبيح ومنهم قيام لا يقعدون وقعود لا يقومون وركوع لا يسجدون وسجود لا يركعون { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } .

والجواب : أن الفضل بنفس العمل وجودته لا بقدره وكثرته كما قال تعالى : { إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا } وقال : { إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا } ورب تسبيحة من إنسان أفضل من ملء الأرض من عمل غيره وكان إدريس يرفع له في اليوم مثل عمل جميع أهل [ ص: 379 ] الأرض ; وإن الرجلين ليكونان في الصف وأجر ما بين صلاتهما كما بين السماء والأرض . وقد روي : " { أن أنين المذنبين أحب إلي من زجل المسبحين } "

. وقد قالوا : إن علماء الآدميين مع وجود المنافي والمضاد أحسن وأفضل . ثم هم في الحياة الدنيا وفي الآخرة يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس ; وأما النفع المتعدي والنفع للخلق وتدبير العالم فقد قالوا هم تجري أرزاق العباد على أيديهم وينزلون بالعلوم والوحي ويحفظون ويمسكون وغير ذلك من أفعال الملائكة .

والجواب : أن صالح البشر لهم مثل ذلك وأكثر منه ويكفيك من ذلك شفاعة الشافع المشفع في المذنبين وشفاعته في البشر كي يحاسبوا وشفاعته في أهل الجنة حتى يدخلوا الجنة . ثم بعد ذلك تقع شفاعة الملائكة وأين هم من قوله : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } ؟ وأين هم عن الذين : { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } ؟ وأين هم ممن يدعون إلى الهدى ودين الحق ; ومن سن سنة حسنة ؟ وأين هم من قوله صلى الله عليه وسلم " { إن من أمتي من يشفع في أكثر من ربيعة ومضر } " ؟ وأين هم من الأقطاب والأوتاد والأغواث ; والأبدال والنجباء ؟ فهذا - هداك الله - وجه التفضيل بالأسباب المعلومة ; ذكرنا منه أنموذجا [ ص: 380 ] نهجنا به السبيل وفتحنا به الباب إلى درك فضائل الصالحين من تدبر ذلك وأوتي منه حظا رأى وراء ذلك ما لا يحصيه إلا الله وإنما عدل عن ذلك قوم لم يكن لهم من القول والعلم إلا ظاهره ولا من الحقائق إلا رسومها ; فوقعوا في بدع وشبهات وتاهوا في مواقف ومجازات وها نحن نذكر ما احتجوا به .

( الحجة الأولى : قوله تعالى { لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون } والذي يريد إثبات ذل الأعاظم وانقياد الأكابر : إنما يبدأ بالأدنى فالأدنى مترقيا إلى الأعلى فالأعلى ليرقى المخاطب في فهم عظمة من انقيد له وأطيع درجة درجة ; وإلا فلو فوجئ بانقياد الأعظم ابتداء : لما حصل تبين مراتب العظمة ; ولو وقع ذكر الأدنى بعد ذلك ضائعا ; بل يكون رجوعا ونقصا . ولهذا جرت فطرة الخلق أن يقال : فلان لا يأتيني وفلان يأتيني أي كيف يستنكف عن الإتيان إلي ؟ وفلان أكرم منه وأعظم وهو يأتيني ولا يقال لا يأبى فلان أن يكرمك ولا من هو فوقه . فالانتقال من المسيح إلى الملائكة دليل على فضلهم ; كيف وقد نعتوا بالقرب الذي هو عين الفضائل و " الجواب " : زعم القاضي أن هذا ليس من عطف الأعلى على الأدنى ; وإنما هو عطف ساذج . قال : وذلك أن قوما عبدوا المسيح وزعموا أنه ابن الله سبحانه وقوما عبدوا الملائكة وزعموا أنها بنات الله كما حكى الله تعالى [ ص: 381 ] عن الفريقين فبين الله تعالى في هذه : أن هؤلاء الذين عبدتموهم من دوني هم عبادي لن يستنكفوا عن عبادتي وأنهما لو استنكفا عن عبادتي لعذبتهما عذابا أليما والمسيح هو الظاهر وهو من نوع البشر وهذا الكلام فيه نظر . والله أعلم بحقيقته .

ثم نقول : إن كان هذا هو المراد فلا كلام وإن أريد أن الانتقال من الأدنى إلى الأعلى : فاعلم - نور الله قلبك وشرح صدرك للإسلام - أن للملائكة خصائص ليست للبشر ; لا سيما في الدنيا . هذا ما لا يستريب فيه لبيب أنهم اليوم على مكان وأقرب إلى الله وأظهر جسوما وأعظم خلقا وأجمل صورا وأطول أعمارا وأيمن آثارا إلى غير ذلك من الخصال الحميدة مما نعلمه ومما لا نعلمه . وللبشر أيضا خصائص ومزايا ; لكن الكلام في مجموع كل واحدة من المزيتين أيهما أفضل : هذا طريق ممهد لهذه الآية وما بعدها . وهو وراء ذلك ; فحيث جرى ما يوجب تفضيل الملك فلما تميزوا به واختصوا به من الأمور التي لا تنبغي لمن دونهم فيها أن يتفضل عليهم فيما هو من أسبابها .

وذلك أن المسيح لو فرض استنكافه عن عبادة الله : فإنما هو لما أيده الله من الآيات كما أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى وغير ذلك ; ولأنه خرج في خلقه عن بني آدم وفي عزوفه عن الدنيا وما فيها : أعطي الزهد ; وما من صفة من هذه الصفات إلا والملائكة أظهر منه فيها فإنهم كلهم خلقوا من [ ص: 382 ] غير أبوين ومن غير أم ; وقد كان فرس جبريل يحيى به التراب الذي يمر عليه ; وعلم ما يدخر العباد في بيوتهم على الملائكة سهل .

وفي حديث { أبرص وأقرع وأعمى : أن الملك مسح عليهم فبرءوا } " فهذه الأمور التي من أجلها عبد المسيح وجعل ابن الله عز وجل للملائكة منها أوفر نصيب وأعلى منها وأعظم مما للمسيح وهم لا يستنكفون عن عبادته فهو أحق خلق أن لا يستنكف ; وأما القرب من الله والزلفى لديه فأمور وراء هذه الآيات . وأيضا فأقصى ما فيها تفضيلهم على المسيح ; إذ هو في هذه الحياة الدنيا ; وأما إذا استقر في الآخرة وكان ما كان مما لست أذكر : فمن أين يقال إنهم هناك أفضل منه ؟ .

( الحجة الثانية : قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم { قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك } ومثله في هود فالاحتجاج في هذا من وجوه : - أحدها : أنه قرن استقرار خزائنه وعلم الغيب بنفي القول بأنه ملك وسلبها عن نفسه في نسق واحد فإذا كان حال من يعلم الغيب ويقدر على الخزائن أفضل من حال من لا يكون كذلك : وجب أن يكون حال الملك أفضل من حال من ليس بملك وإن كان نبينا كما في الآية .

وثانيها : أنه إنما نفى عن نفسه حالا أعظم من حاله الثابتة ولم ينف حالا [ ص: 383 ] دون حاله ; لأن من اتصف بالأعلى فهو على ما دونه أقدر ; فدل على أن حال الملك أفضل من حاله أن يكون ملكا وهو المطلوب .

وثالثها : ما ذكر القاضي أنه لولا ما استقر في نفوس المخاطبين من أن الملك أعظم ; لما حسن مواجهتهم بسلب شيء هو دون مرتبته وهذا الاعتقاد الذي كان في نفوس المخاطبين : أمر قرروا عليه ولم ينكره عليهم فثبت أنه حق . والجواب من وجوه :

( أحدها : أنه نفى أن يكون عالما بالغيب وعنده خزائن الله ونفى أن يكون ملكا لا يأكل ولا يشرب ولا يتمتع ; وإذا نفى ذلك عن نفسه : لم يجب أن يكون الملك أفضل منه ألا ترى أنه لو قال : ولا أنا كاتب ولا أنا قارئ لم يدل على أن الكاتب والقارئ أفضل ممن ليس بكاتب ولا قارئ فلم يكن في الآية حجة . وأيضا ما قال القاضي إنهم طلبوا صفات الألوهية وهي العلم والقدرة والغنى : وهي : أن يكون عالما بكل شيء قديرا على كل شيء غنيا عن كل شيء - فسلب عن نفسه صفات الألوهية ولهذا قالوا : { مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق } وقال تعالى : محتجا عنه : { وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق } فكأنهم أرادوا منه صفة الملائكة أن يكون [ ص: 384 ] متلبسا بها فإن الملائكة صمد لا يأكلون ولا يشربون والبشر لهم أجواف يأكلون ويشربون ; فكان الأمر إلى هذه الصفة وهذا بين إن شاء الله .

( وثانيها : أن الآخر أكمل في أمر من الأمور فنفى عن نفسه حال الملك في ذلك ولم يلزم أن يكون له فضيلة يمتاز بها وقد تقدم مثل هذا فيما ذكر من حال الملك وعظمته وأنه ليس للبشر من نوعه مثله ; ولكن لم لا قلت من غير نوعه للبشر ما هو أفضل منه ؟ . ولهذا إذا سئل الإنسان عما يعجز عنه : قد يقول لست بملك وإن كان المؤمن أفضل من حال الجن والملك من الملوك .

( وثالثها أن أقصى ما فيه تفضيل الملك في تلك الحال ولو سلم ذلك لم ينف أن يكون فيما بعد أفضل من الملك ; ولهذا تزيد قدرته وعلمه وغناه في الآخرة وهذا كما لو قال الصبي : لا أقول إني شيخ ولا أقول إني عالم ومن الممكن ترقيه إلى ذلك وأكمل منه .

( الحجة الثالثة : قول إبليس لآدم وحواء : { إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين } تقديره كراهة أن تكونا أو لئلا تكونا ; فلولا أن كونهما ملكين حالة هي أكمل من كونهما بشرين : لما أغراهما بها ولما ظنا أنها هي الحالة العليا ; ولهذا قرنها بالخلود والخالد أفضل من الفاني والملك أطول حياة من الآدمي فيكون أعظم عبادة وأفضل من الآدمي . [ ص: 385 ]

والجواب من وجوه : - ( أحدها : ما ذكره القاضي أن قوله : { إلا أن تكونا ملكين } ظن أن الملائكة خير منهما كما ظن أنه خير من آدم وكان مخطئا . وقوله : { أو تكونا من الخالدين } ظنا منه أنهما يؤثران الخلود ; لما في ذلك من السلامة من الأمراض والأسقام والأوجاع والآفات والموت ; لأن الخالد في الجنة هذه حاله ولم يخرج هذا مخرج التفضيل على الأنبياء ألا ترى أن الحور والولدان المخلوقين في الجنة خالدون فيها وليسوا بأفضل من الأنبياء ؟ ( وثانيها أن الملك أفضل من بعض الوجوه وكذلك الخلود آثر عندهما فمالا إليه .

( وثالثها : أن حالهما تلك كانت حال ابتداء لا حال انتهاء فإنهما في الانتهاء قد صارا إلى الخلود الذي لا حظر فيه ولا معه ولا يعقبه زوال وكذلك يصيران في الانتهاء إلى حال هي أفضل وأكمل من حال الملك الذي أراداها أولا وهذا بين .

( الحجة الرابعة : قوله تعالى : { الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس } فبدأ بهم والابتداء إنما يكون بالأفضل والأشرف فالأفضل والأشرف كما بدأ بذلك في قوله : { فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين } فبدأ بالأكمل والأفضل . [ ص: 386 ]

والجواب : أن الابتداء قد يكون كثيرا بغير الأفضل بل يبتدأ بالشيء لأسباب متعددة كما في قوله تعالى { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم } ولم يدل ذلك على أن نوحا أفضل من إبراهيم والنبي صلى الله عليه وسلم أفضل ; وكذلك قوله : { إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات } لا يدل على أن المسلم أفضل من المؤمن ; فلعله - والله أعلم - إنما بدأ بهم لأن الملائكة أسبق خلقا ورسالة ; فإنهم أرسلوا إلى الجن والإنس ; فذكر الأول فالأول : في الخلق والرسالة : على ترتيبهم في الوجود .

وقد قال تعالى : { يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور } والذكور أفضل من الإناث . وقال : { والتين والزيتون } { والشمس وضحاها } الآيات . و { فيهما فاكهة ونخل ورمان } إلى غير ذلك ولم يدل التقديم في شيء من هذه المواضع على فضل المبدوء به فعلم أن التقديم ليس لازما للفضل .

( الحجة الخامسة : قوله تعالى { فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم } فدل على أن الملك أفضل من البشر وهن إنما أردن أن يتبين لهن حال هي أعظم من حال البشر . وقد أجابوا عنه ( بجوابين .

أحدهما أنهن لم يعتقدن أن الملائكة أحسن من جميع النبيين وإن لم يروهم لمخبر [ ص: 387 ] أخبرهم فسكن إلى خبره فلما هالهن حسنه قلن : { ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم } لأن هذا الحسن ليس بصفة بشر . وثانيهما : أنهن اعتقدن أن الملائكة خير من النبيين فكان هذا الاعتقاد خطأ منهن ولا يقال إنه لما لم يقرن بالإنكار دل على أنه حق فإن قولهن : { ما هذا بشرا } خطأ . وقولهن : { إن هذا إلا ملك كريم } خطأ أيضا في غيبتهن عنه أنه بشر وإثباتهن أنه ملك وإن لم يقرن بالإنكار : دل على أنه حق وأن قولهن : { ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم } خطأ في نفيهن عنه البشرية وإثباتهن له الملائكية ; وإن لم يقرن بالإنكار لغيبة عقولهن عند رؤيته فلم يلمن في تلك الحال على ذلك .

وأقول أيضا : إن النسوة لم يكن يقصدن أنه نبي ; بل ولا أنه من الصالحين إذ ذاك ولم يشهدن له فضلا على غيره من البشر في الصلاح والدين وإنما شهدن بالفضل في الجمال والحسن وسباهن جماله فشبهنه بحال الملائكة وليس هذا من التفضيل في شيء من الذي نريد . ثم نقول : إذا كان التفضيل بالجمال حقا : فقد ثبت أن أهل الجنة تدخل الزمرة الأولى ووجوههم كالشمس والذين يلونهم كالقمر الحديث ; فهذه حال السعداء عند المنتهى وإن كان في الجمال والملك تفضيل : فإنما هو في هذه الحياة الدنيا ; لعلم علمه النساء وأكثر الناس . [ ص: 388 ]

وأما ما فضل الله عباده الصالحين وما أعده الله من الكرامة : فأكثر الناس عنه بمعزل ليس لهم نظر إليه وكذلك ما آتاهم الله من العلم الذي غبطتهم الملائكة به من أول ما خلقهم وهو مما به يفضلون . فهذا الجواب وما قبله .

( الحجة السادسة : قوله تعالى { إنه لقول رسول كريم } { ذي قوة عند ذي العرش مكين } { مطاع ثم أمين } فهذه صفة جبرائيل . ثم قال : { وما صاحبكم بمجنون } فوصف جبرائيل بالكرم والرسالة والقوة والتمكين عنده وأنه مطاع وأنه أمين فوصفه بهذه الصفات الفاضلة ثم عطف عليه بقوله : { وما صاحبكم بمجنون } فأضاف الرسول البشري إلينا وسلب عنه الجنون وأثبت له رؤية جبرائيل ونفى عنه البخل والتهمة وفي هذا تفاوت عظيم بين البشر والملائكة وبين الصفات والنعم وهذا قاله بعض المعتزلة زل به عن سواء السبيل .

والجواب : أولا : أين هو من قوله : { ألم نشرح لك صدرك } إلى آخرها وقوله : { والضحى } { والليل إذا سجى } ؟ وقوله : { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } الآيات : { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } ؟ . وأين هو عن قصة المعراج التي تأخر فيها جبرائيل عن مقامه ؟ ثم أين هو عن الخلة ؟ وهو التقريب ; فهذا نزاع من لم يقدر النبي صلى الله عليه وسلم قدره . [ ص: 389 ]

ثم نقول ثانيا : لما كان جبرائيل هو الذي جاء بالرسالة وهو صاحب الوحي وهو غيب عن الناس ; لم يروه بأبصارهم ولم يسمعوا كلامه بآذانهم وزعم زاعمون أن الذي يأتيه شيطان يعلمه ما يقول أو أنه إنما يعلمه إياه بعض الإنس . أخبر الله العباد أن الرسول الذي جاء به ونعته أحسن النعت . وبين حاله أحسن البيان وذلك كله إنما هو تشريف لمحمد صلى الله عليه وسلم ونفى عنه ما زعموه وتقرير للرسالة ; إذ كان هو صاحبه الذي يأتي بالوحي فقال : { إنه لقول رسول كريم } أي أن الرسول البشري لم ينطق به من عند نفسه وإنما هو مبلغ يقول ما قيل له ; فكان في اسم الرسول إشارة إلى محض التوسط والسعاية . ثم وصفه بالصفات التي تنفي كل عيب ; من القوة والمكنة والأمانة والقرب من الله سبحانه فلما استقر حال الرسول الملكي بين أنه من جهته وأنه لا يجيء إلا بالخير . وكان الرسول البشري معلوم ظاهره عندهم وهو الذي يبلغهم الرسالة ولولا هؤلاء لما أطاقوا الأخذ عن الرسول الملكي ; وإنما قال : { صاحبكم } إشارة إلى أنه قد صحبكم سنين قبل ذلك ولا سابقة له بما تقولون فيه وترمونه ; من الجنون والسحر وغير ذلك ; وأنه لولا سابقته وصحبته إياكم لما استطعتم الأخذ عنه ; ألا تسمعه يقول : [ ص: 390 ] { ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا } - تمييزا - من المرسلين ; ثم حقق رسالته بأنه رأى جبرائيل وأنه مؤتمن على ما يأخذه عنه فقام أمر الرسالة بهاتين الصفتين وجاء على الوجه الأبلغ والأكمل والأصلح .

وقد احتجوا بآيات تقدم التنبيه على مقاصدها ; من وصف الملائكة بالتسبيح والطاعة والعبادة وغير ذلك . ( الحجة السابعة : الحديث المشهور الصحيح عن الله عز وجل أنه قال : { من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه } " . والملأ الذي يذكر الله الذاكر فيه هم : ( الملائكة وقد نطق الحديث بأنهم أفضل من الملأ الذين يذكر العبد فيهم ربه وخير منهم وقد قال بعضهم : وكم من ملإ ذكر الله فيه والرسول حاضر فيهم ; بل وقع ذلك في مجالس الرسول كلهم فأين العدول عن هذا الحديث الصحيح الجواب : أن هذا الحديث صحيح وهو أجود وأقوى ما احتجوا به وقد أجابوا عنه بوجهين : ( أحدهما أضعف من الآخر وهو أن الخبر يجوز أن يرجع إلى الذكر لا إلى المذكور فيهم تقديره ذكرته ذكرا خيرا من ذكره لأن ذكر الله كلامه وهذا ليس بشيء فإن الخير مجرور صفة للملإ وقد وصل بقوله منهم ولم يقل منه ولولا ذلك المعنى لقيل ذكرته في ملإ خيرا [ ص: 391 ] منه بالنصب وصلة الضمير الذكر . وهذا من أوضح الكلام لمن له فقه بالعربية ونعوذ بالله من التنطع .

( وثانيهما أنه محمول على ملأ خير منه ليس فيهم نبي فإن الحديث عام عموما مقصودا شاملا كيف لا ; والأنبياء والأولياء هم أهل الذكر ومجالسهم مجالس الرحمة ؟ فكيف يجيء استثناؤهم ؟ لكن هنا أوجه متوجهة : - ( أحدها : " أن الملأ الأعلى " الذين يذكر الله من ذكره فيهم : هم صفوة الملائكة وأفضلهم والذاكر فيهم للعبد هو الله يقال ينبغي أن يفرض على موازنة أفضل بني آدم يجتمعون في مجلس نبيه صلى الله عليه وسلم وإن كان أفضل البشر لكن الذين حوله ليس أفضل من بقي من البشر الفضلاء فإن الرسل والأنبياء أفضل منهم .

( وثانيها : أن مجلس أهل الأرض إن كان فيه جماعة من الأنبياء يذكر العبد فيهم ربه : فالله تعالى يذكر العبد في جماعات من الملائكة أكثر من أولئك فيقع الخير للكثرة التي لا يقوم لها شيء فإن الجماعة كلما كثروا كانوا خيرا من القليل .

( وثالثها : أنه لعله في الملإ الأعلى جماعة من الأنبياء يذكر الله العبد فيهم ; فإن أرواحهم هناك . [ ص: 392 ]

( ورابعها : أن من الناس من فرق بين الخير والأفضل فيقال الخير للأنفع ( وخامسها : أنه لا يدل على أن الملأ الأعلى أفضل من هؤلاء الذاكرين إلا في هذه الدنيا وفي هذه الحال لأنهم لم يكملوا بعد ولم يصلحوا أن يصيروا أفضل من الملأ الأعلى فالملأ الأعلى خير منهم في هذه الحالة كما يكون الشيخ العاقل خيرا من عامة الصبيان لأنه إذ ذاك فيه من الفضل ما ليس في الصبيان ولعل في الصبيان في عاقبته أفضل منه بكثير ونحن إنما نتكلم على عاقبة الأمر ومستقره . فليتدبر هذا فإنه جواب معتمد إن شاء الله ; والله سبحانه أعلم بحقائق خلقه وأفاضلهم وأحكم في تدبيرهم ولا حول ولا قوة إلا بالله . هذا ما تيسر تعليقه وأنا عجلان في حين من الزمان والله المستعان وهو المسئول أن يهدي قلوبنا ويسدد ألسنتنا وأيدينا والحمد لله رب العالمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية