صفحة جزء
[ ص: 453 ] سئل الشيخ رحمه الله - عن إسلام " معاوية بن أبي سفيان " متى كان ؟ وهل كان إيمانه كإيمان غيره أم لا ؟ وما قيل فيه غير ذلك ؟ .


فأجاب : - إيمان " معاوية بن أبي سفيان " - رضي الله عنه - ثابت بالنقل المتواتر وإجماع أهل العلم على ذلك ; كإيمان أمثاله ممن آمن عام فتح مكة مثل أخيه " يزيد " بن أبي سفيان ومثل سهيل بن عمرو وصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل والحارث بن هشام . وأبي أسد بن أبي العاص بن أمية وأمثال هؤلاء .

فإن هؤلاء يسمون " الطلقاء " : فإنهم آمنوا عام فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة قهرا وأطلقهم ومن عليهم وأعطاهم وتألفهم وقد روي : أن معاوية بن أبي سفيان أسلم قبل ذلك وهاجر كما أسلم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة الحجبي - قبل فتح مكة - وهاجروا إلى المدينة فإن كان هذا صحيحا فهذا من المهاجرين . [ ص: 454 ] وأما إسلامه عام الفتح مع من ذكر فمتفق عليه بين العلماء ; سواء كان أسلم قبل ذلك أو لم يكن إسلامه إلا عام فتح مكة ; ولكن بعض الكذابين زعم : أنه عير أباه بإسلامه وهذا كذب بالاتفاق من أهل العلم بالحديث . وكان هؤلاء المذكورون من أحسن الناس إسلاما وأحمدهم سيرة : لم يتهموا بسوء ولم يتهمهم أحد من أهل العلم بنفاق كما اتهم غيرهم ; بل ظهر منهم من حسن الإسلام وطاعة الله ورسوله وحب الله ورسوله والجهاد في سبيل الله وحفظ حدود الله : ما دل على حسن إيمانهم الباطن وحسن إسلامهم ومنهم من أمره النبي صلى الله عليه وسلم واستعمله نائبا له كما استعمل عتاب بن أسيد أميرا على مكة نائبا عنه وكان من خيار المسلمين كان يقول : يا أهل مكة والله لا يبلغني أن أحدا منكم قد تخلف عن الصلاة إلا ضربت عنقه .

وقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم " أبا سفيان " بن حرب - أبا معاوية - على نجران نائبا له وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان عامله على نجران . وكان معاوية أحسن إسلاما من أبيه باتفاق أهل العلم كما أن أخاه " يزيد بن أبي سفيان " كان أفضل منه ومن أبيه ; ولهذا استعمله أبو بكر الصديق رضي الله عنه على قتال النصارى حين فتح الشام وكان هو أحد الأمراء الذين استعملهم أبو بكر الصديق ووصاه بوصية معروفة نقلها أهل العلم واعتمدوا عليها وذكرها [ ص: 455 ] مالك في الموطأ وغيره ومشى أبو بكر رضي الله عنه في ركابه مشيعا له فقال له : يا خليفة رسول الله إما أن تركب وإما أن أنزل فقال : لست بنازل ولست براكب أحتسب خطاي هذه في سبيل الله عز وجل . وكان عمرو بن العاص أحد الأمراء وأبو عبيدة بن الجراح أيضا وقدم عليهم خالد بن الوليد لشجاعته ومنفعته في الجهاد .

فلما توفي أبو بكر ولى عمر بن الخطاب أبا عبيدة أميرا على الجميع ; لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان شديدا في الله فولى أبا عبيدة لأنه كان لينا . وكان أبو بكر رضي الله عنه لينا وخالد شديدا على الكفار فولى اللين الشديد وولى الشديد اللين ; ليعتدل الأمر وكلاهما فعل ما هو أحب إلى الله تعالى في حقه فإن نبينا صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق وكان شديدا على الكفار والمنافقين ونعته الله تعالى بأكمل الشرائع كما قال الله تعالى في نعت أمته : { أشداء على الكفار رحماء بينهم } وقال فيهم : { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم }

. وقد ثبت في الصحيح : { أن النبي صلى الله عليه وسلم لما استشار أصحابه في أسارى بدر وأشار عليه أبو بكر أن يأخذ الفدية منهم وإطلاقهم وأشار عليه عمر بضرب أعناقهم . قال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله يلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من البز ويشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الصخر وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم الخليل إذ قال : { فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم } ومثل عيسى بن مريم إذ قال : { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } ومثلك يا عمر مثل نوح عليه السلام إذ قال : { رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا } ومثل موسى بن عمران إذ قال : { ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم } } وكانا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كما نعتهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانا هما وزيريه من أهل الأرض .

وقد ثبت في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما { أن سرير عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما وضع وجاء الناس يصلون عليه قال ابن عباس : فالتفت فإذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال : والله ما على وجه الأرض أحد أحب إلي من أن ألقى الله تعالى بعمله من هذا الميت . والله إني لأرجو أن يحشرك الله مع صاحبيك فإني كثيرا ما كنت أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول . دخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر وذهبت أنا وأبو بكر وعمر }

. ثم ثبت في الصحيح أنه { لما كان يوم أحد انهزم أكثر المسلمين فإذا أبو سفيان وكان القوم المرام إذ قال : أفي القوم محمد ؟ أفي القوم محمد ؟ أفي القوم محمد ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تجيبوه ثم قال : أفي [ ص: 457 ] القوم ابن أبي قحافة ؟ أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تجيبوه فقال : أفي القوم ابن الخطاب ؟ أفي القوم ابن الخطاب ؟ أفي القوم ابن الخطاب ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تجيبوه } الحديث بطوله فهذا أبو سفيان قائد الأحزاب لم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة : عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما لعلمه بأن هؤلاء هم رءوس عسكر المسلمين .

وقال الرشيد لمالك بن أنس : أخبرني عن منزلة أبي بكر وعمر من النبي صلى الله عليه وسلم فقال : منزلتهما منه في حياته كمنزلتهما بعد وفاته فقال : شفيتني يا مالك فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبا بكر جعل الله تعالى فيه من الشدة ما لم يكن فيه قبل ذلك حتى فاق عمر في ذلك حتى قاتل أهل الردة بعد أن جهز جيش أسامة وكان ذلك تكميلا له لكمال النبي صلى الله عليه وسلم الذي صار خليفة له . ولما استخلف عمر جعل الله فيه من الرأفة والرحمة ما لم يكن فيه قبل ذلك تكميلا له حتى صار أمير المؤمنين ولهذا استعمل هذا خالدا ; وهذا أبا عبيدة .

وكان يزيد بن أبي سفيان على الشام ; إلى أن ولي عمر ; فمات يزيد بن أبي سفيان ; فاستعمل عمر معاوية مكان أخيه يزيد بن أبي سفيان وبقي معاوية [ ص: 458 ] على ولايته تمام خلافته وعمر ورعيته تشكره وتشكر سيرته فيهم وتواليه وتحبه لما رأوا من حلمه وعدله ; حتى أنه لم يشكه منهم مشتك ولا تظلمه منهم متظلم ، ويزيد بن معاوية ليس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإنما ولد في خلافة عثمان ; وإنما سماه يزيد باسم عمه من الصحابة .

وقد شهد معاوية ; وأخوه يزيد ; وسهيل بن عمرو ; والحارث بن هشام وغيرهم من مسلمة الفتح مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة حنين ; ودخلوا في قوله تعالى { ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين } وكانوا من المؤمنين الذين أنزل الله سكينته عليهم مع النبي صلى الله عليه وسلم وغزوة الطائف لما حاصروا الطائف ورماها بالمنجنيق وشهدوا النصارى بالشام وأنزل الله فيها سورة براءة ; وهي غزوة العسرة التي جهز فيها عثمان بن عفان رضي الله عنه جيش العسرة بألف بعير في سبيل الله تعالى فاعوزت وكملها بخمسين بعيرا فقال النبي : " { ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم } " وهذا آخر مغازي النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن فيها قتال . وقد غزا النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من عشرين غزاة بنفسه ولم [ ص: 459 ] يكن القتال إلا في تسع غزوات : بدر وأحد وبني المصطلق والخندق وذي قرد وغزوة الطائف وأعظم جيش جمعه النبي صلى الله عليه وسلم كان بحنين والطائف وكانوا اثني عشر ألفا .

وأعظم جيش غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم جيش تبوك فإنه كان كثيرا لا يحصى غير أنه لم يكن فيه قتال . وهؤلاء المذكورون دخلوا في قوله تعالى { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى } فإن هؤلاء الطلقاء مسلمة الفتح : هم ممن أنفق من بعد الفتح وقاتل وقد وعدهم الله الحسنى فإنهم أنفقوا بحنين والطائف وقاتلوا فيهما رضي الله عنهم . وهم أيضا داخلون فيمن رضي الله عنهم حيث قال تعالى : { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه } فإن السابقين هم الذين أسلموا قبل الحديبية كالذين بايعوه تحت الشجرة الذين أنزل الله فيهم : { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } كانوا أكثر من ألف وأربعمائة وكلهم من أهل الجنة كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة } " وكان فيهم حاطب بن أبي بلتعة وكانت له سيئات [ ص: 460 ] معروفة مثل مكاتبته للمشركين بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم وإساءته إلى مماليكه وقد ثبت في الصحيح { أن مملوكه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : والله يا رسول الله لا بد أن يدخل حاطب النار .

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كذبت . إنه شهد بدرا والحديبية
} " . وثبت في الصحيح أنه { لما كتب إلى المشركين يخبرهم بمسير النبي صلى الله عليه وسلم إليهم أرسل علي بن أبي طالب والزبير إلى المرأة التي كان معها الكتاب فأتيا بها فقال : ما هذا يا حاطب فقال : والله يا رسول الله ما فعلت ذلك ارتدادا عن ديني ولا رضيت بالكفر بعد الإسلام ولكن كنت امرأ ملصقا في قريش لم أكن من أنفسهم وكان من معك من أصحابك لهم بمكة قرابات يحمون بها أهاليهم فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي فقال عمر بن الخطاب : دعني أضرب عنق هذا المنافق .

فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنه قد شهد بدرا وما يدريك أن الله قال : اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم
} . وفي هذا الحديث بيان أن الله يغفر لهؤلاء السابقين - كأهل بدر والحديبية - من الذنوب العظيمة بفضل سابقتهم وإيمانهم وجهادهم ; ما لا يجوز لأحد أن يعاقبهم بها كما لم تجب معاقبة حاطب مما كان منه .

وهذا مما يستدل به على أن ما جرى بين علي وطلحة والزبير ونحوهم : [ ص: 461 ] فإنه إما أن يكون اجتهادا لا ذنب فيه فلا كلام . فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر } " . وإن كان هناك ذنب فقد ثبت أن هؤلاء رضي الله عنهم وغفر لهم ما فعلوه ; فلا يضرهم ما وقع منهم من الذنوب إن كان قد وقع ذنب ; بل إن وقع من أحدهم ذنب كان الله محاه بسبب قد وقع من الأسباب التي يمحص الله بها الذنوب ، مثل أن يكون قد تاب فيتوب الله عليه أو كان له حسنات تمحو السيئات أو يكون قد كفر عنه ببلاء ابتلاه به فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا غم ولا حزن ولا أذى إلا كفر الله من خطاياه } "

. وأما من بعد هؤلاء السابقين الأولين وهم الذين أسلموا بعد الحديبية فهؤلاء دخلوا في قوله تعالى { وكلا وعد الله الحسنى } وفي قوله تعالى { والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه } وقد أسلم قبل فتح مكة خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة الحجبي وغيرهم . وأسلم بعد الطلقاء أهل الطائف وكانوا آخر الناس إسلاما وكان منهم عثمان بن أبي العاص الثقفي الذي أمره النبي صلى الله عليه وسلم على أهل الطائف وكان من خيار الصحابة ; مع تأخر إسلامه . [ ص: 462 ]

فقد يتأخر إسلام الرجل ويكون أفضل من بعض من تقدمه بالإسلام كما تأخر إسلام عمر فإنه يقال : إنه أسلم تمام الأربعين وكان ممن فضله الله على كثير ممن أسلم قبله وكان عثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف أسلموا قبل عمر على يد أبي بكر وتقدمهم عمر .

وأول من أسلم من الرجال الأحرار البالغين أبو بكر ومن الأحرار الصبيان علي ومن الموالي زيد بن حارثة ومن النساء خديجة أم المؤمنين وهذا باتفاق أهل العلم . وقد قال الله تعالى : { إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض } إلى قوله تعالى { والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم } { والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم } . فهذه عامة .

وقال تعالى : { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون } { والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } { والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم } . فهذه الآية والتي قبلها : تتناول من دخل فيها بعد السابقين الأولين إلى يوم القيامة ; فكيف لا يدخل فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين آمنوا به وجاهدوا معه ؟ .

وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : " { المهاجر من هجر ما نهى الله عنه } " فمن كان قد أسلم من الطلقاء وهجر ما نهى الله عنه كان له معنى هذه الهجرة فدخل في قوله تعالى { والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم } كما دخل في قوله تعالى { وكلا وعد الله الحسنى } . وقد قال تعالى : { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما } فهذا يتناول الذين آمنوا مع الرسول مطلقا .

وقد استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحاح وغيرها من غير [ ص: 464 ] وجه أنه قال : " { خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم } " . وثبت عنه في الصحيح { أنه كان بين عبد الرحمن وبين خالد كلام فقال : يا خالد لا تسبوا أصحابي . فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه } " قال ذلك لخالد ونحوه ممن أسلم بعد الحديبية بالنسبة إلى السابقين الأولين .

يقول : إذا أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصف مده . وهؤلاء الذين أسلموا بعد الحديبية دخلوا في قوله تعالى { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى } بهذه المنزلة .

وكيف يكون بعد أصحابه ؟ والصحبة اسم جنس تقع على من صحب النبي صلى الله عليه وسلم قليلا أو كثيرا لكن كل منهم له من الصحبة بقدر ذلك فمن صحبه سنة أو شهرا أو يوما أو ساعة أو رآه مؤمنا فله من الصحبة بقدر ذلك كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { يغزوا فئام من الناس فيقولون : هل فيكم من صحب النبي صلى الله عليه وسلم . وفي لفظ : هل فيكم من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون : نعم ; فيفتح لهم ; ثم يغزوا فئام من الناس فيقولون : هل فيكم من صحب من صحب رسول الله [ ص: 465 ] صلى الله عليه وسلم ؟ - وفي لفظ - هل فيكم من رأى من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون : نعم فيفتح لهم ثم يغزوا فئام من الناس فيقولون : هل فيكم من رأى من رأى من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ - وفي لفظ - من صحب من صحب من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون : نعم ; فيفتح لهم } " وفي بعض الطرق فيذكر في الطبقة الرابعة كذلك .

فقد علق النبي صلى الله عليه وسلم الحكم بصحبته وعلق برؤيته وجعل فتح الله على المسلمين بسبب من رآه مؤمنا به . وهذه الخاصية لا تثبت لأحد غير الصحابة ; ولو كانت أعمالهم أكثر من أعمال الواحد من أصحابه صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 466 ] فصل إذا تبين هذا ; فمن المعلوم أن الطريق التي بها يعلم إيمان الواحد من الصحابة هي الطريق التي بها يعلم إيمان نظرائه والطريق التي تعلم بها صحبته هي الطريق التي يعلم بها صحبة أمثاله . فالطلقاء الذين أسلموا عام الفتح مثل : معاوية وأخيه يزيد وعكرمة بن أبي جهل ; وصفوان بن أمية والحارث بن هشام ; وسهيل بن عمرو .

وقد ثبت بالتواتر عند الخاصة إسلامهم وبقاؤهم على الإسلام إلى حين الموت . ومعاوية أظهر إسلاما من غيره فإنه تولى أربعين سنة ; عشرين سنة نائبا لعمر وعثمان مع ما كان في خلافة علي رضي الله عنه وعشرين سنة مستوليا ; وأنه تولى سنة ستين بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بخمسين سنة . وسلم إليه الحسن بن علي رضي الله عنهما الأمر عام أربعين الذي يقال له عام الجماعة ; لاجتماع الكلمة وزوال الفتنة بين المسلمين .

وهذا الذي فعله الحسن رضي الله عنه مما أثنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في صحيح البخاري وغيره عن أبي بكر - رضي الله عنه - أن النبي [ ص: 467 ] صلى الله عليه وسلم قال : " { إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين } " فجعل النبي صلى الله عليه وسلم مما أثنى به على ابنه الحسن ومدحه على أن أصلح الله تعالى به بين فئتين عظيمتين من المسلمين وذلك حين سلم الأمر إلى معاوية وكان قد سار كل منهما إلى الآخر بعساكر عظيمة .

فلما أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على الحسن بالإصلاح وترك القتال دل على أن الإصلاح بين تلك الطائفتين كان أحب إلى الله تعالى من فعله فدل على أن الاقتتال لم يكن مأمورا به ولو كان معاوية كافرا لم تكن تولية كافر وتسليم الأمر إليه مما يحبه الله ورسوله ; بل دل الحديث على أن معاوية وأصحابه كانوا مؤمنين ; كما كان الحسن وأصحابه مؤمنين ; وأن الذي فعله الحسن كان محمودا عند الله تعالى محبوبا مرضيا له ولرسوله .

وهذا كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري أنه قال : " { تمرق مارقة على حين فرقة من الناس فتقتلهم أولى الطائفتين بالحق وفي لفظ فتقتلهم أدناهم إلى الحق } " فهذا الحديث الصحيح دليل على أن كلتا الطائفتين المقتتلتين - علي وأصحابه ومعاوية وأصحابه - على حق وأن عليا وأصحابه كانوا أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه . فإن علي بن أبي طالب هو الذي قاتل المارقين وهم " الخوارج الحرورية " الذين كانوا من شيعة علي ثم خرجوا عليه وكفروه وكفروا من والاه ونصبوا له العداوة وقاتلوه ومن معه .

وهم الذين أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 468 ] في الأحاديث الصحيحة المستفيضة ; بل المتواترة حيث قال فيهم : " { يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا عند الله يوم القيامة آيتهم أن فيهم رجلا مخدج اليدين له عضل عليها شعرات تدردر } " . وهؤلاء هم الذين نصبوا العداوة لعلي ومن والاه وهم الذين استحلوا قتله وجعلوه كافرا وقتله أحد رءوسهم " عبد الرحمن بن ملجم المرادي " فهؤلاء النواصب الخوارج المارقون إذ قالوا : إن عثمان وعلي بن أبي طالب ومن معهما كانوا كفارا مرتدين [ فإن من ] حجة المسلمين عليهم ما تواتر من إيمان الصحابة وما ثبت بالكتاب والسنة الصحيحة من مدح الله تعالى لهم وثناء الله عليهم ورضاه عنهم وإخباره بأنهم من أهل الجنة ونحو ذلك من النصوص ومن لم يقبل هذه الحجج لم يمكنه أن يثبت إيمان علي بن أبي طالب وأمثاله . فإنه لو قال هذا الناصبي للرافضي : إن عليا كان كافرا أو فاسقا ظالما وأنه قاتل على الملك : لطلب الرياسة ; لا للدين وأنه قتل " من أهل الملة " من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالجمل وصفين وحروراء ألوفا مؤلفة ولم يقاتل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كافرا ولا فتح مدينة بل قاتل أهل القبلة ونحو هذا الكلام - الذي تقوله النواصب المبغضون لعلي [ ص: 469 ] رضي الله عنه - لم يمكن أن يجيب هؤلاء النواصب إلا أهل السنة والجماعة ; الذين يحبون السابقين الأولين كلهم ويوالونهم . فيقولون لهم : أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير ونحوهم ثبت بالتواتر إيمانهم وهجرتهم وجهادهم .

وثبت في القرآن ثناء الله عليهم والرضى عنهم وثبت بالأحاديث الصحيحة ثناء النبي صلى الله عليه وسلم عليهم خصوصا وعموما كقوله في الحديث المستفيض عنه : " { لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا } " وقوله : " { إنه قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر } " وقوله عن عثمان : " { ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة } " ؟ وقوله لعلي : " { لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه } " وقوله : " { لكل نبي حواريون وحواري الزبير } " وأمثال ذلك .

وأما الرافضي فلا يمكنه إقامة الحجة على من يبغض عليا من النواصب كما يمكن ذلك أهل السنة الذين يحبون الجميع . فإنه إن قال : إسلام علي معلوم بالتواتر . قال له : وكذلك إسلام أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية وغيرهم وأنت تطعن في هؤلاء إما في إسلامهم ; وإما في عدالتهم . فإن قال : إيمان علي ثبت بثناء النبي صلى الله عليه وسلم . قلنا له : هذه الأحاديث إنما نقلها الصحابة الذين تطعن أنت فيهم ورواة فضائلهم : سعد بن أبي [ ص: 470 ] وقاص وعائشة وسهل بن سعد الساعدي وأمثالهم والرافضة تقدح في هؤلاء .

فإن كانت رواية هؤلاء وأمثالهم ضعيفة بطل كل فضيلة تروى لعلي ولم يكن للرافضة حجة وإن كانت روايتهم صحيحة ثبتت فضائل علي وغيره ; ممن روى هؤلاء فضائله : كأبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم . فإن قال الرافضي : فضائل علي متواترة عند الشيعة - كما يقولون : إن النص عليه بالإمامة متواتر - قيل له أما " الشيعة " الذين ليسوا من الصحابة : فإنهم لم يروا النبي صلى الله عليه وسلم ولا سمعوا كلامه ونقلهم نقل مرسل منقطع إن لم يسنده إلىالصحابة لم يكن صحيحا .

والصحابة الذين تواليهم الرافضة نفر قليل - بضعة عشر وإما نحو ذلك - وهؤلاء لا يثبت التواتر بنقلهم لجواز التواطؤ على مثل هذا العدد القليل ، والجمهور الأعظم من الصحابة الذين نقلوا فضائلهم تقدح الرافضة فيهم ; ثم إذا جوزوا على الجمهور الذين أثنى عليهم القرآن الكذب والكتمان فتجويز ذلك على نفر قليل أولى وأجوز . وأيضا فإذا قال الرافضي : إن أبا بكر وعمر وعثمان كان قصدهم الرياسة والملك فظلموا غيرهم بالولاية .

قال لهم : هؤلاء لم يقاتلوا مسلما على الولاية وإنما قاتلوا المرتدين والكفار وهم الذين كسروا كسرى وقيصر وفتحوا بلاد فارس وأقاموا الإسلام وأعزوا الإيمان وأهله وأذلوا الكفر وأهله . [ ص: 471 ] وعثمان هو دون أبي بكر وعمر في المنزلة .

ومع ذلك فقد طلبوا قتله وهو في ولايته فلم يقاتل المسلمين ولا قتل مسلما على ولايته ; فإن جوزت على هؤلاء أنهم كانوا ظالمين في ولايتهم أعداء الرسول : كانت حجة الناصبي عليك أظهر . وإذا أسأت القول في هؤلاء ونسبتهم إلى الظلم والمعاداة للرسول وطائفته : كان ذلك حجة للخوارج النواصب المارقين عليك . فإنهم يقولون : أيما أولى أن ينسب إلى طلب الرياسة : من قاتل المسلمين على ولايته - ولم يقاتل الكفار - وابتدأهم بالقتال ليطيعوه ; وهم لا يطيعونه وقتل من " أهل القبلة " الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويحجون البيت العتيق ; ويصومون شهر رمضان ويقرءون القرآن ألوفا مؤلفة ; ومن لم يقاتل مسلما ; بل أعزوا أهل الصلاة والزكاة ونصروهم وآووهم أو من قتل وهو في ولايته لم يقاتل ولم يدفع عن نفسه حتى قتل في داره وبين أهله رضي الله عنه ؟ فإن جوزت على مثل هذا أن يكون ظالما للملك ظالما للمسلمين بولايته فتجويز هذا على من قاتل على الولاية وقتل المسلمين عليها أولى وأحرى .

وبهذا وأمثاله يتبين أن الرافضة أمة ليس لها عقل صريح ; ولا نقل صحيح ولا دين مقبول ; ولا دنيا منصورة بل هم من أعظم الطوائف كذبا وجهلا ودينهم يدخل على المسلمين كل زنديق ومرتد كما دخل فيهم النصيرية ; [ ص: 472 ] والإسماعيلية وغيرهم فإنهم يعمدون إلى خيار الأمة يعادونهم وإلى أعداء الله من اليهود والنصارى والمشركين يوالونهم ويعمدون إلى الصدق الظاهر المتواتر يدفعونه وإلى الكذب المختلق الذي يعلم فساده يقيمونه ; فهم كما قال فيهم الشعبي - وكان من أعلم الناس بهم - لو كانوا من البهائم لكانوا حمرا ولو كانوا من الطير لكانوا رخما .

ولهذا كانوا أبهت الناس وأشدهم فرية مثل ما يذكرون عن معاوية . فإن معاوية ثبت بالتواتر أنه أمره النبي صلى الله عليه وسلم كما أمر غيره وجاهد معه وكان أمينا عنده يكتب له الوحي وما اتهمه النبي صلى الله عليه وسلم في كتابة الوحي . وولاه عمر بن الخطاب الذي كان من أخبر الناس بالرجال وقد ضرب الله الحق على لسانه وقلبه ولم يتهمه في ولايته .

وقد ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أباه أبا سفيان إلى أن مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو على ولايته فمعاوية خير من أبيه وأحسن إسلاما من أبيه باتفاق المسلمين وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ولى أباه فلأن تجوز ولايته بطريق الأولى والأحرى ; ولم يكن من أهل الردة قط ولا نسبه أحد من أهل العلم إلى الردة فالذين ينسبون هؤلاء إلى الردة هم الذين ينسبون أبا بكر وعمر وعثمان وعامة أهل بدر وأهل بيعة الرضوان وغيرهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان إلى ما لا يليق بهم . [ ص: 473 ] والذين نسبوا هؤلاء إلى الردة يقول بعضهم : إنه مات ووجهه إلى الشرق والصليب على وجهه وهذا مما يعلم كل عاقل أنه من أعظم الكذب والفرية عليه .

ولو قال قائل هذا فيمن هو دون معاوية من ملوك بني أمية وبني العباس كعبد الملك بن مروان وأولاده وأبي جعفر المنصور وولديه - الملقبين بالمهدي والهادي - والرشيد وأمثالهم من الذين تولوا الخلافة وأمر المؤمنين ; فمن نسب واحدا من هؤلاء إلى الردة وإلى أنه مات على دين النصارى لعلم كل عاقل أنه من أعظم الناس فرية فكيف يقال مثل هذا في معاوية وأمثاله من الصحابة .

بل يزيد ابنه مع ما أحدث من الأحداث من قال فيه : إنه كافر مرتد فقد افترى عليه . بل كان ملكا من ملوك المسلمين كسائر ملوك المسلمين وأكثر الملوك لهم حسنات ولهم سيئات وحسناتهم عظيمة وسيئاتهم عظيمة فالطاعن في واحد منهم دون نظرائه إما جاهل وإما ظالم .

وهؤلاء لهم ما لسائر المسلمين منهم من تكون حسناته أكثر من سيئاته ومنهم من قد تاب من سيئاته ومنهم من كفر الله عنه ومنهم من قد يدخله الجنة ومنهم من قد يعاقبه لسيئاته ومنهم من قد يتقبل الله فيه شفاعة نبي أو غيره من الشفعاء فالشهادة لواحد من هؤلاء بالنار هو من أقوال أهل البدع والضلال . [ ص: 474 ]

وكذلك قصد لعنة أحد منهم بعينه ليس هو من أعمال الصالحين والأبرار . وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { لعن الله الخمرة وعاصرها ومعتصرها وحاملها وساقيها وشاربها وبائعها ومشتريها وآكل ثمنها } " . وصح عنه : { أنه كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل يكثر شربها يدعى حمارا وكان كلما أتي به النبي صلى الله عليه وسلم جلده فأتى به إليه ليجلده فقال رجل : لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به النبي صلى الله عليه وسلم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله } "

. وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم شارب الخمر عموما ونهى عن لعنة المؤمن المعين . كما أنا نقول ما قال الله تعالى : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا } فلا ينبغي لأحد أن يشهد لواحد بعينه أنه في النار لإمكان أن يتوب أو يغفر له الله بحسنات ماحية أو مصائب مكفرة أو شفاعة مقبولة أو يعفو الله عنه أو غير ذلك .

فهكذا الواحد من الملوك أو غير الملوك وإن كان صدر منه ما هو ظلم فإن ذلك لا يوجب أن نلعنه ونشهد له بالنار . ومن دخل في ذلك كان من أهل البدع والضلال ; فكيف إذا كان للرجل حسنات عظيمة يرجى له بها المغفرة مع ظلمه كما ثبت في صحيح البخاري عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه [ ص: 475 ] قال : " { أول جيش يغزو قسطنطينية مغفور له } " وأول جيش غزاها كان أميرهم " يزيد بن معاوية " وكان معه في الغزاة أبو أيوب الأنصاري وتوفي هناك وقبره هناك إلى الآن .

ولهذا كان المقتصدون من أئمة السلف يقولون في يزيد وأمثاله : إنا لا نسبهم ولا نحبهم أي لا نحب ما صدر منهم من ظلم . والشخص الواحد يجتمع فيه حسنات وسيئات وطاعات ومعاص وبر وفجور وشر فيثيبه الله على حسناته ويعاقبه على سيئاته إن شاء أو يغفر له ويحب ما فعله من الخير ويبغض ما فعله من الشر .

فأما من كانت سيئاته صغائر فقد وافقت المعتزلة على أن الله يغفرها . وأما صاحب الكبيرة فسلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة لا يشهدون له بالنار بل يجوزون أن الله يغفر له كما قال تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فهذه في حق من لم يشرك فإنه قيدها بالمشيئة وأما قوله تعالى { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا } فهذا في حق من تاب ولذلك أطلق وعم .

والخوارج والمعتزلة يقولون : إن صاحب الكبيرة يخلد في النار ثم إنهم [ ص: 476 ] قد يتوهمون في بعض الأخيار أنه من أهل الكبائر كما تتوهم الخوارج في عثمان وعلي وأتباعهما أنهم مخلدون في النار كما يتوهم بعض ذلك في مثل معاوية وعمرو بن العاص وأمثالهما ويبنون مذاهبهم على مقدمتين باطلتين : ( إحداهما : أن فلانا من أهل الكبائر .

( والثانية : أن كل صاحب كبيرة يخلد في النار . وكلا القولين باطل . وأما الثاني فباطل على الإطلاق . وأما الأول فقد يعلم بطلانه وقد يتوقف فيه . ومن قال عن معاوية وأمثاله ; ممن ظهر إسلامه وصلاته وحجه وصيامه أنه لم يسلم وأنه كان مقيما على الكفر فهو بمنزلة من يقول ذلك في غيره كما لو ادعى مدع ذلك في العباس وجعفر وعقيل وفي أبي بكر وعمر وعثمان .

وكما لو ادعى أن الحسن والحسين ليسا ولدي علي بن أبي طالب إنما هما أولاد سلمان الفارسي ولو ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج ابنة أبي بكر وعمر ولم يزوج بنتيه عثمان ; بل إنكار إسلام معاوية أقبح من إنكار هذه الأمور فإن منها ما لا يعرفه إلا العلماء . وأما إسلام معاوية وولايته على المسلمين والإمارة والخلافة فأمر يعرفه جماهير الخلق ولو أنكر منكر إسلام علي أو ادعى بقاءه على الكفر ; لم يحتج [ ص: 477 ] عليه إلا بمثل ما يحتج به على من أنكر إسلام أبي بكر ; وعمر ; وعثمان ومعاوية وغيرهم .

وإن كان بعضهم أفضل من بعض فتفاضلهم لا يمنع اشتراكهم في ظهور إسلامهم . وأما قول القائل : إيمان معاوية كان نفاقا ; فهو أيضا من الكذب المختلق . فإنه ليس في علماء المسلمين من اتهم معاوية بالنفاق ; بل العلماء متفقون على حسن إسلامه ; وقد توقف بعضهم في حسن إسلام أبي سفيان - أبيه - وأما معاوية ; وأخوه يزيد فلم يتنازعوا في حسن إسلامهما كما لم يتنازعوا في حسن إسلام عكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو وصفوان بن أمية وأمثالهم من مسلمة الفتح وكيف يكون رجلا متوليا على المسلمين أربعين سنة نائبا ومستقلا يصلي بهم الصلوات الخمس ويخطب ويعظهم ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويقيم فيهم الحدود ويقسم بينهم فيأهم ومغانمهم وصدقاتهم ويحج بهم ومع هذا يخفي نفاقه عليهم كلهم ؟ وفيهم من أعيان الصحابة جماعة كثيرة .

بل أبلغ من هذا أنه - ولله الحمد - لم يكن من الخلفاء الذين لهم ولاية عامة من خلفاء بني أمية وبني العباس أحد يتهم بالزندقة والنفاق وبنو أمية لم ينسب أحد منهم إلى الزندقة والنفاق وإن كان قد ينسب الرجل منهم إلى نوع من البدعة أو نوع من الظلم لكن لم ينسب أحد منهم من أهل العلم إلى زندقة ونفاق . [ ص: 478 ] وإنما كان المعروفون بالزندقة والنفاق بني عبيد القداح الذين كانوا بمصر والمغرب وكانوا يدعون أنهم علويون وإنما كانوا من ذرية الكفار فهؤلاء قد اتفق أهل العلم على رميهم بالزندقة والنفاق وكذلك رمي بالزندقة والنفاق قوم من ملوك النواحي الخلفاء من بني بويه وغير بني بويه ; فأما خليفة عام الولاية في الإسلام فقد طهر الله المسلمين أن يكون ولي أمرهم زنديقا منافقا فهذا مما ينبغي أن يعلم ويعرف فإنه نافع في هذا الباب . واتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة فإن الأربعة قبله كانوا خلفاء نبوة وهو أول الملوك ; كان ملكه ملكا ورحمة كما جاء في الحديث : " { يكون الملك نبوة ورحمة ثم تكون خلافة ورحمة ثم يكون ملك ورحمة ثم ملك وجبرية ثم ملك عضوض } " وكان في ملكه من الرحمة والحلم ونفع المسلمين ما يعلم أنه كان خيرا من ملك غيره .

وأما من قبله فكانوا خلفاء نبوة فإنه قد ثبت عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { تكون خلافة النبوة ثلاثين سنة ثم تصير ملكا } " وكان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم هم الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم " { عليكم بسنتي وسنة الخلفاء [ ص: 479 ] الراشدين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة } " . وقد تنازع كثير من الناس في خلافة علي ; وقالوا : زمانه زمان فتنة لم يكن في زمانه جماعة وقالت طائفة : يصح أن يولى خليفتان فهو خليفة ومعاوية خليفة ; لأن الأمة لم تتفق عليه ولم تنتظم في خلافته . والصحيح الذي عليه الأئمة : أن عليا رضي الله عنه من الخلفاء الراشدين بهذا الحديث فزمان علي كان يسمي نفسه أمير المؤمنين والصحابة تسميه بذلك .

قال الإمام أحمد بن حنبل : " من لم يربع بعلي رضي الله عنه في الخلافة فهو أضل من حمار أهله " ومع هذا فلكل خليفة مرتبة . فأبو بكر وعمر لا يوازنهما أحد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " { اقتدوا باللذين من بعدي : أبي بكر وعمر } " ولم يكن نزاع بين شيعة علي الذين صحبوه في تقديم أبي بكر وعمر وثبت عن علي من وجوه كثيرة أنه قال : لا أوتى برجل يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري . وإنما كانوا يتنازعون في عثمان وعلي رضي الله عنهما لكن ثبت تقديم عثمان على علي باتفاق السابقين على مبايعة ( عثمان طوعا بلا كره ; بعد أن جعل عمر الشورى في ستة : عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد [ ص: 480 ] وعبد الرحمن بن عوف .

وتركها " ثلاثة " وهم : طلحة والزبير وسعد . فبقيت في " ثلاثة " عثمان وعلي وعبد الرحمن . فولي أحدهما فبقي عبد الرحمن يشاور المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ثلاثة أيام ثم أخبر أنهم لم يعدلوا بعثمان . ونقل وفاته وولايته : حديث طويل فمن أراده فعليه بأحاديث الثقات . والله أعلم . وصلى الله على نبينا محمد وسلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية