صفحة جزء
[ ص: 268 ] فصل والأصل في أن تلف المبيع والمستأجر قبل التمكن من قبضه ينفسخ به العقد : من السنة : ما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لو بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا بم تأخذ مال أخيك بغير حق ؟ } وفي رواية أخرى : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح } .

فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح أنه إذا باع ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل له أن يأخذ منه شيئا .

ثم بين سبب ذلك وعلته فقال : { بم تأخذ مال أخيك بغير حق ؟ } وهذا دلالة على ما ذكره الله في كتابه من تحريم أكل المال بالباطل وأنه إذا تلف المبيع قبل التمكن من قبضه كان أخذ شيء من الثمن أخذ ماله بغير حق ; بل بالباطل وقد حرم الله أكل المال بالباطل ; لأنه من الظلم المخالف للقسط الذي تقوم به السماء والأرض .

وهذا الحديث أصل في هذا الباب .

[ ص: 269 ] والعلماء وإن تنازعوا في حكم هذا الحديث - كما سنذكره واتفقوا على أن تلف المبيع قبل التمكن من القبض يبطل العقد ويحرم أخذ الثمن - فلست أعلم عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا صحيحا صريحا في هذه القاعدة وهي : " أن تلف المبيع قبل التمكن من القبض يبطل العقد " غير هذا الحديث .

وهذا له نظائر متعددة قد ينص النبي صلى الله عليه وسلم نصا يوجب قاعدة ويخفى النص على بعض العلماء حتى يوافقوا غيرهم على بعض أحكام تلك القاعدة ويتنازعوا فيما لم يبلغهم فيه النص : مثل اتفاقهم على المضاربة ومنازعتهم في المساقاة والمزارعة .

وهما ثابتان بالنص والمضاربة ليس فيها نص وإنما فيها عمل الصحابة رضي الله عنهم .

ولهذا كان فقهاء الحديث يؤصلون أصلا بالنص ويفرعون عليه - لا ينازعون في الأصل المنصوص ويوافقون فيما لا نص فيه - ويتولد من ذلك ظهور الحكم المجمع عليه ; لهيبة الاتفاق في القلوب وأنه ليس لأحد خلافه .

وتوقف بعض الناس في الحكم المنصوص .

وقد يكون حكمه أقوى من المتفق عليه .

وإن خفي مدركه على بعض العلماء فليس ذلك بمانع [ ص: 270 ] من قوته في نفس الأمر حتى يقطع به من ظهر له مدركه .

ووضع الجوائح من هذا الباب فإنها ثابتة بالنص وبالعمل القديم الذي لم يعلم فيه مخالف من الصحابة والتابعين وبالقياس الجلي والقواعد المقررة ; بل عند التأمل الصحيح ليس في العلماء من يخالف هذا الحديث على التحقيق .

وذلك أن القول به هو مذهب أهل المدينة قديما وحديثا وعليه العمل عندهم من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زمن مالك وغيره وهو مشهور عن علمائهم : كالقاسم بن محمد ويحيى بن سعيد القاضي ومالك وأصحابه وهو مذهب فقهاء الحديث : كالإمام أحمد وأصحابه وأبي عبيد والشافعي في قوله القديم .

وأما في القول الجديد فإنه علق القول به على ثبوته ; لأنه لم يعلم صحته فقال رضي الله عنه لم يثبت عندي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح ولو ثبت لم أعده ولو كنت قائلا بوضعها لوضعتها في القليل والكثير .

فقد أخبر أنه إنما لم يجزم به ; لأنه لم يعلم صحته .

وعلق القول به على ثبوته فقال : لو ثبت لم أعده .

والحديث ثابت عند أهل الحديث لم يقدح فيه أحد من علماء الحديث ; بل صححوه ورووه في الصحاح والسنن رواه مسلم وأبو داود وابن ماجه والإمام أحمد .

فظهر وجوب القول به [ ص: 271 ] على أصل الشافعي أصلا .

وأما أبو حنيفة فإنه لا يتصور الخلاف معه في هذا الأصل على الحقيقة ; لأن من أصله : أنه لا يفرق بين ما قبل بدو الصلاح وبعده ومطلق العقد عنده وجوب القطع في الحال .

ولو شرط التبقية بعد بدو الصلاح لم يصح عنده ; بناء على ما رآه من أن العقد موجب التقابض في الحال فلا يجوز تأخيره ; لأنه شرط يخالف مقتضى العقد فإذا تلف الثمر عنده بعد البيع والتخلية فقد تلف بعد وجوب قطعه كما لو تلف عند غيره بعد كمال صلاحه .

وطرد أصله في الإجارة فعنده لا يملك المنافع فيها إلا بالقبض شيئا فشيئا لا تملك بمجرد العقد وقبض العين ; ولهذا يفسخها بالموت وغيره .

ومعلوم أن الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم متواترة في التفريق بين ما بعد بدو الصلاح وقبل بدوه كما عليه جماهير العلماء حيث نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار .

حتى يبدو صلاحها وذلك ثابت في الصحاح من حديث ابن عمر وابن عباس وجابر وأنس وأبي هريرة .

فلو كان أبو حنيفة ممن يقول ببيع الثمار بعد بدو صلاحها مبقاة إلى كمال الصلاح ظهر النزاع معه .

والذين ينازعون في وضع الجوائح لا ينازعون في أن المبيع إذا [ ص: 272 ] تلف قبل التمكن من القبض يكون من ضمان البائع ; بل الشافعي أشد الناس في ذلك قولا ; فإنه يقول : إذا تلف قبل القبض كان من ضمان البائع في كل مبيع ويطرد ذلك في غير البيع .

وأبو حنيفة يقول به في كل منقول .

ومالك وأحمد القائلان بوضع الجوائح يفرقان بين ما أمكن قبضه كالعين الحاضرة وما لم يمكن قبضه ; لما روى البخاري من رواية الزهري عن سالم عن ابن عمر قال : " مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حبا مجموعا فهو من مال المشتري " .

وأما النزاع في أن تلف الثمر قبل كمال صلاحه تلف قبل التمكن من القبض أم لا ؟ فإنهم يقولون : هذا تلف بعد قبضه ; لأن قبضه حصل بالتخلية بين المشتري وبينه ; فإن هذا قبض العقار وما يتصل به بالاتفاق ; ولأن المشتري يجوز تصرفه فيه بالبيع وغيره وجواز التصرف يدل على حصول القبض ; لأن التصرف في المبيع قبل القبض لا يجوز فهذا سر قولهم .

وقد احتجوا بظاهر من أحاديث معتضدين بها .

مثل ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد قال : { أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدقوا عليه فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه : خذوا ما [ ص: 273 ] وجدتم وليس لكم إلا ذلك } ومثل ما روي في الصحيحين { أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إن ابني اشترى ثمرة من فلان فأذهبتها الجائحة فسأله أن يضع عنه فتألى ألا يفعل .

فقال النبي صلى الله عليه وسلم تألى أن لا يفعل خيرا
} .

ولا دلالة في واحد من الحديثين .

أما الأول : فكلام مجمل فإنه حكى أن رجلا اشترى ثمارا فكثرت ديونه فيمكن أن السعر كان رخيصا فكثر دينه لذلك .

ويحتمل أنها تلفت أو بعضها بعد كمال الصلاح أو حوزها إلى الجرين أو إلى البيت أو السوق .

ويحتمل أن يكون هذا قبل نهيه أن تباع الثمار قبل بدو صلاحها .

ولو فرض أن هذا كان مخالفا لكان منسوخا ; لأنه باق على حكم الأصل وذاك ناقل عنه وفيه سنة جديدة فلو خولفت لوقع التغيير مرتين .

وأما الحديث الثاني فليس فيه إلا قول النبي صلى الله عليه وسلم { تألى ألا يفعل خيرا } والخير قد يكون واجبا وقد يكون مستحبا ولم يحكم عليه لعدم مطالبة الخصم وحضور البينة أو الإقرار ولعل التلف كان بعد كمال الصلاح .

وقد اعترض بعضهم على حديث الجوائح بأنه محمول على بيع الثمر قبل بدو صلاحه كما في حديث أنس .

وهذا باطل لعدة أوجه .

[ ص: 274 ] ( أحدها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا بعت من أخيك ثمرة فأصابتها جائحة } والبيع المطلق لا ينصرف إلا إلى البيع الصحيح .

( والثاني أنه أطلق بيع الثمرة ولم يقل قبل بدو صلاحها .

فأما تقييده ببيعها قبل بدو صلاحها فلا وجه له .

( الثالث أنه قيد ذلك بحال الجائحة وبيع الثمر قبل بدو صلاحه لا يجب فيه ثمن بحال .

( الرابع أن المقبوض بالعقد الفاسد مضمون فلو كان الثمر على الشجر مقبوضا لوجب أن يكون مضمونا على المشتري في العقد الفاسد .

وهذا الوجه يوجب أن يحتج بحديث أنس على وضع الجوائح في البيع الصحيح كما توضع في البيع الفاسد ; لأن ما ضمن في الصحيح ضمن في الفاسد وما لا يضمن في الصحيح لا يضمن في الفاسد .

وأما قولهم : إنه تلف بعد القبض فممنوع بل نقول : ذلك تلف قبل تمام القبض وكماله ; بل وقبل التمكن من القبض ; لأن البائع عليه تمام التربية من سقي الثمر حتى لو ترك ذلك لكان مفرطا ولو فرض أن البائع فعل ما يقدر عليه من التخلية فالمشتري إنما عليه أن يقبضه على الوجه المعروف المعتاد .

فقد وجد التسليم دون تمام التسلم .

وذلك [ ص: 275 ] أحد طرفي القبض .

ولم يقدر المشتري إلا على ذلك .

وإنما على المشتري أن يقبض المبيع على الوجه المعروف المعتاد الذي اقتضاه العقد سواء كان القبض مستعقبا للعقد أو مستأخرا .

وسواء كان جملة أو شيئا فشيئا .

ونحن نطرد هذا الأصل في جميع العقود فليس من شرط القبض أن يستعقب العقد ; بل القبض يجب وقوعه على حسب ما اقتضاه العقد ; لفظا وعرفا ; ولهذا يجوز استثناء بعض منفعة المبيع مدة معينة وإن تأخر بها القبض على الصحيح كما يجوز بيع العين المؤجرة ويجوز بيع الشجر واستثناء ثمره للبائع وإن تأخر معه كمال القبض .

ويجوز عقد الإجارة لمدة لا تلي العقد .

وسر ذلك أن القبض هو موجب العقد فيجب في ذلك ما أوجبه العاقدان بحسب قصدهما الذي يظهر بلفظهما وعرفهما ; ولهذا قلنا إن شرطا تعجيل القطع جاز إذا لم يكن فيه فساد يحظره الشرع فإن المسلمين عند شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا .

وإن أطلقا فالعرف تأخير الجذاذ والحصاد إلى كمال الصلاح .

وأما استدلالهم بأن القبض هو التخلية فالقبض مرجعه إلى عرف الناس حيث لم يكن له حد في اللغة ولا في الشرع .

وقبض ثمر الشجر [ ص: 276 ] لا بد فيه من الخدمة والتخلية المستمرة إلى كمال الصلاح ; بخلاف قبض مجرد الأصول .

وتخلية كل شيء بحسبه .

ودليل ذلك المنافع في العين المؤجرة .

وأما استدلالهم بجواز التصرف فيه بالبيع فعن أحمد في هذه المسألة روايتان : ( إحداهما لا يجوز بيعه ما دام مضمونا على البائع ; لأنه بيع ما لم يقبض فلا يجوز .

وعلى هذا يمنع الحكم في الأصل .

( والرواية الثانية يجوز التصرف .

وعلى هذه الرواية فذلك بمنزلة منافع الإجارة بأنها لو تلفت قبل الاستيفاء كانت من ضمان المؤجر بالاتفاق ومع هذا فيجوز التصرف فيها قبل القبض وذلك لأنه في الموضعين حصل الإقباض الممكن فجاز التصرف فيه باعتبار التمكن ولم يدخل في الضمان ; لانتفاء كماله وتمامه الذي به يقدر المشتري والمستأجر على الاستيفاء وعلى هذا فعندنا لا ملازمة بين جواز التصرف والضمان ; بل يجوز التصرف بلا ضمان كما هنا .

وقد يحصل الضمان بلا جواز تصرف كما في المقبوض قبضا فاسدا كما لو اشترى قفيزا من صبرة فقبض الصبرة كلها وكما في الصبرة قبل نقلها على إحدى الروايتين .

اختارها الخرقي . وقد يحصلان جميعا . وقد لا يحصلان جميعا .

[ ص: 277 ] ولنا في جواز إيجار العين المؤجرة بأكثر من أجرتها روايتان ; لما في ذلك من ربح ما لم يضمن .

ورواية ثالثة : إن زاد فيها عمارة جازت زيادة الأجرة فتكون الزيادة في مقابلة الزيادة .

فالروايتان في بيع الثمار المشتراة نظير الروايتين في إيجار العين المؤجرة .

ولو قيل في الثمار : إنما يمنع من الزيادة على الثمن كرواية المنع في الإجارة لتوجه ذلك .

وبهذا الكلام يظهر المعنى في المسألة وإن ذلك تلف قبل التمكن من القبض المقصود بالعقد فيكون مضمونا على البائع كتلف المنافع قبل التمكن من قبضها ; وذلك لأن التخلية ليست مقصودة لذاتها وإنما مقصودها تمكن المشتري من قبض المبيع والثمر على الشجر ليس بمحرز ولا مقبوض ; ولهذا لا قطع فيه .

ولا المقصود بالعقد كونه على الشجر ; وإنما المقصود حصاده وجذاذه ولهذا وجب على البائع ما به يتمكن من جذاذه وسقيه والأجزاء الحادثة بعد البيع داخلة فيه وإن كانت معدومة كما تدخل المنافع في الإجارة وإن كانت معدومة .

فكيف يكون المعدوم مقبوضا قبضا مستقرا موجبا لانتقال الضمان ؟ .

التالي السابق


الخدمات العلمية