صفحة جزء
[ ص: 337 ] وقال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني قدس الله روحه ونور ضريحه بمنه وكرمه : الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليما .

فصل في " المظالم المشتركة " التي تطلب من الشركاء مثل المشتركين في قرية أو مدينة إذا طلب منهم شيء يؤخذ على أموالهم أو رءوسهم : مثل الكلف السلطانية التي توضع عليهم كلهم ; إما على عدد رءوسهم أو عدد دوابهم أو عدد أشجارهم أو على قدر أموالهم كما يؤخذ منهم أكثر من الزكوات الواجبة بالشرع أو أكثر من الخراج الواجب بالشرع أو تؤخذ منهم الكلف التي أحدثت في غير الأجناس الشرعية [ ص: 338 ] كما يوضع على المتبايعين للطعام والثياب والدواب والفاكهة وغير ذلك : يؤخذ منهم إذا باعوا .

ويؤخذ ذلك تارة من البائعين .

وتارة من المشترين وإن كان قد قيل : إن بعض ذلك وضع بتأويل وجوب الجهاد عليهم بأموالهم واحتياج الجهاد إلى تلك الأموال كما ذكره صاحب ( غياث الأمم وغيره مع ما دخل في ذلك من الظلم الذي لا مساغ له عند العلماء .

ومثل الجبايات التي يجبيها بعض الملوك من أهل بلده كل مدة .

ويقول : إنها مساعدة له على ما يريد
ومثل ما يطلبه الولاة أحيانا من غير أن يكون راتبا ; إما لكونهم جيشا قادمين يجمعون ما يجمعونه لجيشهم وإما لكونهم يجمعون لبعض العوارض : كقدوم السلطان أو حدوث ولد له ونحو ذلك .

وإما أن ترمى عليهم سلع تباع منهم بأكثر من أثمانها وتسمى " الحطائط " .

ومثل القافلة الذين يسيرون حجاجا أو تجارا أو غير ذلك .

فيطلب منهم على عدد رءوسهم أو دوابهم أو قدر أموالهم ; أو يطلب مطلقا منهم كلهم سواء كان الطالب ذا السلطان في بعض المدائن والقرى كالذين يقعدون على الجسور وأبواب المدائن فيأخذون ما يأخذونه .

أو كان الآخذون قطاع طريق : كالأعراب والأكراد والترك الذين يأخذون مكوسا من أبناء السبيل ولا يمكنونهم من العبور حتى يعطوهم ما يطلبون .

فهؤلاء المكرهون على أداء هذه الأموال عليهم لزوم العدل فيما [ ص: 339 ] يطلب منهم وليس لبعضهم أن يظلم بعضا فيما يطلب منهم ; بل عليهم التزام العدل فيما يؤخذ منهم بغير حق كما عليهم التزام العدل فيما يؤخذ منهم بحق فإن هذه الكلف التي أخذت منهم بسبب نفوسهم وأموالهم هي بمنزلة غيرها بالنسبة إليهم .

وإنما يختلف حالها بالنسبة إلى الأخذ فقد يكون أخذا بحق وقد يكون أخذا بباطل .

وأما المطالبون بها فهذه كلف تؤخذ منهم بسبب نفوسهم وأموالهم فليس لبعضهم أن يظلم بعضا في ذلك ; بل العدل واجب لكل أحد على كل أحد في جميع الأحوال والظلم لا يباح شيء منه بحال حتى إن الله تعالى قد أوجب على المؤمنين أن يعدلوا على الكفار في قوله تعالى : { كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى } .

والمؤمنون كانوا يعادون الكفار بأمر الله فقال تعالى [ مبينا ] : لا يحملكم بغضكم للكفار على أن لا تعدلوا عليهم بل اعدلوا عليهم فإنه أقرب للتقوى .

وحينئذ فهؤلاء المشتركون ليس لبعضهم أن يفعل ما به ظلم غيره ; بل إما أن يؤدي قسطه فيكون عادلا وإما أن يؤدي زائدا على قسطه فيعين شركاءه بما أخذ منهم فيكون محسنا .

وليس له أن يمتنع عن أداء قسطه من ذلك المال امتناعا يؤخذ به قسطه من سائر الشركاء فيتضاعف الظلم عليهم ; فإن المال إذا كان يؤخذ لا محالة وامتنع بجاه [ ص: 340 ] أو رشوة أو غيرهما : كان قد ظلم من يؤخذ منه القسط الذي يخصه .

وليس هذا بمنزلة أن يدفع عن نفسه الظلم من غير ظلم لغيره ; فإن هذا جائز : مثل أن يمتنع عن أداء ما يخصه فلا يؤخذ ذلك منه ولا من غيره .

وهذا كالوظائف السلطانية التي توضع على القرى مثل أن يوضع عليهم عشرة آلاف درهم فيطلب من له جاه بإمرة أو مشيخة أو رشوة أو غير ذلك أن لا يؤخذ منه شيء وهم لا بد لهم من أخذ جميع المال وإذا فعل ذلك أخذ ما يخصه من سائر الشركاء فيمتنع من أداء ما ينوبه ويؤخذ من سائر الشركاء ; فإن هذا ظلم منه لشركائه ; لأن هذا لم يدفع الظلم عن نفسه إلا بظلم شركائه وهذا لا يجوز .

وليس له أن يقول : أنا لم أظلمهم ; بل ظلمهم من أخذ منهم الحصتين ; لأنه يقال ( أولا : هذا الطالب قد يكون مأمورا ممن فوقه أن يأخذ ذلك المال فلا يسقط عن بعضهم نصيبه إلا أخذه من نصيب ذلك الآخر فيكون أمره بأن لا يأخذ أمرا بالظلم .

( الثاني : أنه لو فرض أنه الآمر الأعلى فعليه أن يعدل بينهم فيما يطلبه منهم وإن كان أصل الطلب ظلما فعليه أن يعدل في هذا الظلم ولا يظلم فيه ظلما ثانيا فيبقى ظلما مكررا فإن الواحد منهم إذا كان قسطه مائة فطولب بمائتين كان قد ظلم ظلما مكررا بخلاف ما إذا [ ص: 341 ] أخذ من كل قسطه .

ولأن النفوس ترضى بالعدل بينها في الحرمان وفيما يؤخذ منها ظلما ولا ترضى بأن يخص بعضها بالعطاء أو الإعفاء .

ولهذا جاءت الشريعة بأن المريض له أن يوصي بثلث ماله لغير وارث ولا يخص الوارث بزيادة على حقه من ذلك الثلث وإن كان له أن يعطيه كله للأجنبي .

وكذلك في عطية الأولاد : هو مأمور أن يسوي بينهم في العطاء أو الحرمان ولا يخص بعضهم بالإعطاء من غير سبب يوجب ذلك ; لحديث النعمان بن بشير وغيره .

( الثالث : أنه إذا طلب من القاهر أن لا يأخذ منه وهو يعلم أنه يضع قسطه على غيره فقد أمره بما يعلم أنه يظلم فيه غيره وليس للإنسان أن يطلب من غيره ما يظلم فيه غيره وإن كان هو لم يأمره بالظلم كمن يولي شخصا ويأمره أن لا يظلم وهو يعلم أنه يظلم فليس له أن يوليه وكذلك من وكل وكيلا وأمره أن لا يظلم وهو يعلم أنه يظلم وكذلك من طلب من غيره أن يوفيه دينه من ماله الحلال وهو يعلم أنه لا يوفيه إلا مما ظلمه من الناس .

وكذلك هذا طلب منه أن يعفيه من الظلم وهو يعلم أنه لا يعفيه إلا بظلم غيره فليس له أن يطلب منه ذلك .

( الرابع : أن هذا يفضي إلى أن الضعفاء الذين لا ناصر لهم يؤخذ منهم جميع ذلك المال والأقوياء لا يؤخذ منهم شيء من وظائف الأملاك مع أن أملاكهم أكثر وهذا يستلزم من الفساد والشر [ ص: 342 ] ما لا يعلمه إلا الله تعالى كما هو الواقع .

( الخامس : أن المسلمين إذا احتاجوا إلى مال يجمعونه لدفع عدوهم وجب على القادرين الاشتراك في ذلك وإن كان الكفار يأخذونه بغير حق فلأن يشتركوا فيما يأخذه الظلمة من المسلمين أولى وأحرى .

التالي السابق


الخدمات العلمية