صفحة جزء
وسئل رحمه الله عن رجل وقف وقفا على مدرسة . وشرط في كتاب الوقف أنه لا ينزل بالمدرسة المذكورة إلا من لم يكن له وظيفة بجامكية ; ولا مرتب . وأنه لا يصرف ريعها لمن له مرتب في جهة أخرى ; وشرط لكل طالب جامكية معلومة : فهل يصح هذا الشرط والحالة هذه ; وإذا صح فنقص ريع الوقف ; ولم يصل كل طالب إلى الجامكية المقررة له : فهل يجوز [ ص: 13 ] للطالب أن يتناول جامكية في مكان آخر ؟ وإذا نقص ريع الوقف ولم يصل كل طالب إلى تمام حقه . فهل يجوز للناظر أن يبطل الشرط المذكور أم لا ؟ وإذا حكم بصحة الوقف المذكور حاكم : هل يبطل الشرط والحالة هذه ؟ .


فأجاب : أصل هذه المسائل أن شرط الواقف إن كان قربة وطاعة لله ورسوله كان صحيحا ; وإن لم يكن شرطا لازما . وإن كان مباحا كما لم يسوغ النبي صلى الله عليه وسلم السبق إلا في خف أو حافر أو نصل ; وإن كانت المسابقة بلا عوض قد جوزها بالأقدام وغيرها ; ولأن الله تعالى قال في مال الفيء : { كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم } فعلم أن الله يكره أن يكون المال دولة بين الأغنياء .

وإن كان الغنى وصفا مباحا فلا يجوز الوقف على الأغنياء ; وعلى قياسه سائر الصفات المباحة ; ولأن العمل إذا لم يكن قربة لم يكن الواقف مثابا على بذل المال فيه فيكون قد صرف المال فيما لا ينفعه ; لا في حياته ولا في مماته ثم إذا لم يكن للعامل فيه منفعة في الدنيا ; كان تعذيبا له بلا فائدة تصل إليه ; ولا إلى الواقف ; ويشبه ما كانت الجاهلية تفعله من الأحباس المنبه عليها في سورة الأنعام ; والمائدة .

وإذا خلا العمل المشروط في العقود كلها عن منفعة في الدين ; أو في الدنيا [ ص: 14 ] كان باطلا بالاتفاق في أصول كثيرة ; لأنه شرط ليس في كتاب الله تعالى ; فيكون باطلا ; ولو كان مائة شرط .

مثال ذلك أن يشرط عليه التزام نوع من المطعم ; أو الملبس ; أو المسكن الذي لم تستحبه الشريعة ; أو ترك بعض الأعمال التي تستحب الشريعة عملها ونحو ذلك .

يبقى الكلام في تحقيق هذا المناط في اعتبار المسائل ; فإنه قد يكون متفقا عليه وقد يكون مختلفا فيه ; لاختلاف الاجتهاد في بعض الأعمال ; فينظر في شرط ترك من جهة أخرى ; فما لم يكن فيه مقصود شرعي - خالص أو راجح - كان باطلا ; وإن كان صحيحا ; ثم ( إذا نقص الريع عما شرطه الواقف جاز للمطالب أن يرتزق تمام كفايته من جهة أخرى ; لأن رزق الكفاية لطلبة العلم من الواجبات الشرعية ; بل هو من المصالح الكلية التي لا قيام للخلق بدونها ; فليس لأحد أن يشرط ما ينافيها ; فكيف إذا لم يعلم أنه قصد ذلك ؟ .

ويجوز للناظر مع هذه الحالة أن يوصل إلى المرتزقة بالعلم ما جعل لهم [ و ] أن لا يمنعهم من تناول تمام كفايتهم من جهة أخرى يرتبون فيها ; وليس هذا إبطالا للشرط ; لكنه ترك العمل به عند تعذره ; وشروط الله حكمها كذلك وحكم الحاكم لا يمنع ما ذكر .

[ ص: 15 ] وهذه الأرزاق المأخوذة على الأعمال الدينية إنما هي أرزاق ومعاون على الدين ; بمنزلة ما يرتزقه المقاتلة ; والعلماء من الفيء . والواجبات الشرعية تسقط بالعذر ; وليست كالجعالات على عمل دنيوي ; ولا بمنزلة الإجارة عليها فهذه حقيقة حال هذه الأموال . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية