صفحة جزء
[ ص: 57 ] ما تقول السادة العلماء في الشروط التي قد جرت العوائد في اشتراط أمثالها من الواقفين على الموقوف عليهم مما بعضه له فائدة ظاهرة وفيه مصلحة مطلوبة وبعضها ليس فيها كبير غرض للواقف ; وقد يكون فيه مشقة على الموقوف عليه ; فإن وفى به شق عليه ; وإن أهمله خشي الإثم وأن يكون متناولا للحرام وذلك كشرط واقف الرباط أو المدرسة المبيت والعزوبة وتأدية الصلوات المفروضات بالرباط وتخصيص القراءة المعينة بالمكان بعينه وأن يكونوا من مدينة معينة أو قبيلة معينة أو مذهب معين وما أشبه ذلك من الشروط في الإمامة بالمساجد والأذان وسماع الحديث بحلق الحديث بالخوانك .

فهل هذه الشروط وما أشبهها مما هو مباح في الجملة وللواقف فيه يسير غرض لازمة لا يحل لأحد الإخلال بها ولا بشيء منها ؟ أم يلزم البعض منها دون البعض ؟ وأي ذلك هو اللازم ؟ وأي ذلك الذي لا يلزم ؟ وما الضابط فيما يلزم وما لا يلزم ؟ .


فأجاب - قدس الله روحه - : الحمد لله رب العالمين . الأعمال المشروطة في الوقف من الأمور الدينية مثل الوقف على الأئمة والمؤذنين والمشتغلين بالعلم [ ص: 58 ] والقرآن والحديث والفقه ونحو ذلك أو بالعبادة أو بالجهاد في سبيل الله تنقسم ثلاثة أقسام :

أحدها : عمل يتقرب به إلى الله تعالى وهو الواجبات والمستحبات التي رغب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وحض على تحصيلها . فمثل هذا الشرط يجب الوفاء به ويقف استحقاق الوقف على حصوله في الجملة .

والثاني : عمل قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه : نهي تحريم أو نهي تنزيه فاشتراط مثل هذا العمل باطل باتفاق العلماء لما قد استفاض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خطب على منبره فقال : { ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط كتاب الله أحق وشرط الله أوثق } وهذا الحديث وإن خرج بسبب شرط الولاء لغير المعتق فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب عند عامة العلماء وهو مجمع عليه في هذا الحديث وما كان من الشروط مستلزما وجود ما نهى عنه الشارع فهو بمنزلة ما نهى عنه وما علم ببعض الأدلة الشرعية أنه نهى عنه فهو بمنزلة ما علم أنه صرح بالنهي عنه ; لكن قد يختلف اجتهاد العلماء في بعض الأعمال : هل هو من باب المنهي عنه ؟ فيختلف اجتهادهم في ذلك الشرط بناء على هذا وهذا أمر لا بد منه في الأمة .

[ ص: 59 ] ومن هذا الباب أن يكون المشترط ليس محرما في نفسه ; لكنه مناف لحصول المقصود المأمور به . فمثال هذه الشروط أن يشترط على أهل الرباط ملازمته هذا مكروه في الشريعة كما قد أحدثه الناس أو أن يشترط على الفقهاء اعتقاد بعض البدع المخالفة للكتاب والسنة أو بعض الأقوال المحرمة أو يشترط على الإمام والمؤذن ترك بعض سنن الصلاة والأذان أو فعل بعض بدعها مثل أن يشترط على الإمام أن يقرأ في الفجر بقصار المفصل وأن يصل الأذان بذكر غير مشروع أو أن يقيم صلاة العيد في المدرسة والمسجد مع إقامة المسلمين لها على سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم .

ومن هذا الباب لو اشترط عليهم أن يصلوا وحدانا . ومما يلتحق بهذا القسم أن يكون الشرط مستلزما للحض على ترك ما ندب إليه الشارع مثل أن يشترط على أهل رباط أو مدرسة إلى جانب المسجد الأعظم أن يصلوا فيها فرضهم فإن هذا دعاء إلى ترك أداء الفرض على الوجه الذي هو أحب إلى الله ورسوله فلا يلتفت إلى مثل هذا ; بل الصلاة في المسجد الأعظم هو الأفضل بل الواجب هدم مساجد الضرار مما ليس هذا موضع تفصيله .

ومن هذا الباب اشتراط الإيقاد على القبور وإيقاد شمع أو دهن ونحو ذلك ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لعن الله زوارات القبور والمتخذين [ ص: 60 ] عليها المساجد والسرج } . وبناء المسجد وإسراج المصابيح على القبور مما لم أعلم خلافا أنه معصية لله ورسوله . وتفاصيل هذه الشروط تطول جدا وإنما نذكر هنا جماع الشروط .

القسم الثالث : عمل ليس بمكروه في الشرع ولا مستحب بل هو مباح مستوي الطرفين . فهذا قال بعض العلماء بوجوب الوفاء به والجمهور من العلماء من أهل المذاهب المشهورة وغيرهم على أنه شرط باطل ولا يصح عندهم أن يشترط إلا ما كان قربة إلى الله تعالى وذلك أن الإنسان ليس له أن يبذل ماله إلا لما فيه منفعة في الدين أو الدنيا فما دام الرجل حيا فله أن يبذل ماله في تحصيل الأغراض المباحة ; لأنه ينتفع بذلك . فأما الميت فما بقي بعد الموت ينتفع من أعمال الأحياء إلا بعمل صالح قد أمر به أو أعان عليه أو قد أهدى إليه ونحو ذلك . فأما الأعمال التي ليست طاعة لله ورسوله فلا ينتفع بها الميت بحال .

فإذا اشترط الموصي أو الواقف عملا أو صفة لا ثواب فيها كان السعي فيها بتحصيلها سعيا فيما لا ينتفع به في دنياه وآخرته . ومثل هذا لا يجوز . وهو إنما مقصوده بالوقف التقرب إلى الله تعالى والشارع أعلم من الواقفين بما يتقرب به إلى الله تعالى فالواجب أن يعمل في شروطهم بما يشرطه الله ورضيه في شروطهم .

[ ص: 61 ] وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال : { لا سبق إلا في نصل أو خف ; أو حافر } وعمل بهذا الحديث فقهاء الحديث ; ومتابعوهم فنهى عن بذل المال في المسابقة إلا في مسابقة يستعان بها على الجهاد الذي هو طاعة لله تعالى ; فكيف يجوز أن يبذل الجعل المؤبد لمن يعمل دائما عملا ليس طاعة لله تعالى .

وهذه القاعدة معروفة عند العلماء ; لكن قد تختلف آراء الناس وأهواؤهم في بعض ذلك ; ولا يمكن هنا تفصيل هذه الجملة . ولكن من له هداية من الله تعالى لا يكاد يخفى عليه المقصود في غالب الأمر . وتسمي العلماء مثل هذه الأصول " تحقيق المناط " وذلك كما أنهم جميعهم يشترطون العدالة في الشهادة ; ويوجبون النفقة بالمعروف ; ونحو ذلك . ثم قد يختلف اجتهادهم في بعض الشروط : هل هو شرط في العدالة ؟ ويختلفون في صفة الإنفاق بالمعروف . ونحن نذكر ما ينبه عن مثاله .

أما إذا اشترط على أهل الرباط أو المدرسة أن يصلوا فيها الخمس الصلوات المفروضات ; فإن كانت فيما فيه مقصود شرعي ; كما لو نذر أن يصلي في مكان بعينه ; فإن كان في تعيين ذلك المكان قربة وجب الوفاء به ; بأن يصلي فيه إذا لم يصل صلاة تكون مثل تلك ; أو أفضل ; وإلا [ ص: 62 ] وجب الوفاء بالصلاة ; دون التعيين والمكان . والغالب أنه ليس في التعيين مقصود شرعي .

فإذا كان قد شرط عليهم أن يصلوا الصلوات الخمس هناك في جماعة اعتبرت الجماعة ; فإنها مقصود شرعي بحيث من لم يصل في جماعة لم يف بالشرط الصحيح ; وأما التعيين فعلى ما تقدم .

وأما اشتراط التعزب والرهبانية ; فالأشبه بالكتاب والسنة أنه لا يصح اشتراطه بحال ; لا على أهل العلم ; ولا أهل العبادة ; ولا على أهل الجهاد ; فإن غالب الخلق يكون لهم شهوات ; والنكاح في حقهم مع القدرة إما واجب أو مستحب ; فاشتراط التعزب في حق هؤلاء إن كان فهو مناقضة للشرع .

وإن قيل المقصود بالتعزب الذي لا يستحب له النكاح عند بعض أهل العلم ; خرج عامة الشباب عن هذا الشرط ; وهم الذين ترجى المنفعة بتعليمهم في الغالب ; فيكون كأنه قال : وقفت على المتعلمين الذين لا ترجى منفعتهم في الغالب وقد { كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه مال قسم للآهل قسمين ; وللعزب قسما } فكيف يكون الآهل محروما . وقد قال لأصحابه المتعلمين المتعبدين : { يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج } .

[ ص: 63 ] فكيف يقال للمتعلمين والمتعبدين : لا تتزوجوا ; والشارع ندب إلى ذلك العمل ; وحض عليه . وقد قال : { لا رهبانية في الإسلام } فكيف يصح اشتراط رهبانية .

وما يتوهم من أن التعزب أعون على كيد الشيطان والتعلم والتعبد : غلط مخالف للشرع وللواقع ; بل عدم التعزب أعون على كيد الشيطان والإعانة للمتعبدين والمتعلمين أحب إلى الله ورسوله من إعانة المترهبين منهم . وليس هذا موضع استقصاء ذلك .

وكذلك اشتراط أهل بلد أو قبيلة من الأئمة والمؤذنين ; مما لا يصح ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة ; فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا } رواه مسلم .

والمساجد لله ; تبنى لله على الوجه الذي شرعه الله فإذا قيد إمام المسجد ببلد فقد يوجد في غير أهل ذلك البلد من هو أولى منه بالإمامة في شرط الله ورسوله ; فإن وفينا بشرط الواقف في هذه الحال لزم ترك ما أمر الله به ورسوله وشرط الله أحق وأوثق .

[ ص: 64 ] وأما بقية الشروط المسئول عنها فيحتاج كل شرط منها إلى كلام خاص فيه ; لا تتسع له هذه الورقة ; وقد ذكرنا الأصل . فعلى المؤمن بالله أن ينظر دائما في كل ما يحبه الله ورسوله من الخلق ; فيسعى في تحصيله بالوقف وغيره ; وما يكرهه الله ورسوله يسعى في إعدامه وما لا يكرهه الله ولا يحبه يعرض عنه ولا يعلق به استحقاق وقف ولا عدمه ولا غيره . والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب . والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .

التالي السابق


الخدمات العلمية