صفحة جزء
وقال شيخ الإسلام : فصل في وجوب اختصاص الخالق بالعبادة والتوكل عليه : فلا يعمل إلا له ، ولا يرجى إلا هو ، هو سبحانه الذي ابتدأك بخلقك والإنعام عليك بنفس قدرته عليك ومشيئته ورحمته من غير سبب منك أصلا ; وما فعل بك لا يقدر عليه غيره . ثم إذا احتجت إليه في جلب رزق أو دفع ضرر : فهو الذي يأتي بالرزق لا يأتي به غيره ، وهو الذي يدفع الضرر لا يدفعه غيره .

كما قال تعالى : { أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور } { أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور } . وهو سبحانه ينعم عليك ، ويحسن إليك بنفسه ; فإن ذلك موجب ما تسمى به ، ووصف به نفسه ; إذ هو الرحمن الرحيم ; الودود المجيد ; وهو قادر بنفسه ، وقدرته من لوازم ذاته ، وكذلك رحمته وعلمه وحكمته : لا يحتاج إلى خلقه بوجه من الوجوه ; بل هو الغني عن العالمين { ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم } { وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد } { وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد } .

وفي الحديث الصحيح الإلهي : { يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم [ ص: 38 ] وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا ; ولو كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا ; ولو قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي شيئا } إلى آخر الحديث .

فالرب سبحانه غني بنفسه ، وما يستحقه من صفات الكمال ثابت له بنفسه ، واجب له من لوازم نفسه ، لا يفتقر في شيء من ذلك إلى غيره ; بل أفعاله من كماله : كمل ففعل ; وإحسانه وجوده من كماله لا يفعل شيئا لحاجة إلى غيره بوجه من الوجوه ; بل كلما يريده فعله ; فإنه فعال لما يريد .

وهو سبحانه بالغ أمره ; فكل ما يطلب فهو يبلغه ويناله ويصل إليه وحده لا يعينه أحد ، ولا يعوقه أحد ، لا يحتاج في شيء من أموره إلى معين ، وما له من المخلوقين ظهير ; وليس له ولي من الذل . [ ص: 39 ]

فصل والعبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقارا إليه وخضوعا له : كان أقرب إليه ، وأعز له ، وأعظم لقدره ، فأسعد الخلق : أعظمهم عبودية لله . وأما المخلوق فكما قيل : احتج إلى من شئت تكن أسيره ، واستغن عمن شئت تكن نظيره ، وأحسن إلى من شئت تكن أميره ، ولقد صدق القائل : -

بين التذلل والتدلل نقطة في رفعها تتحير الأفهام     ذاك التذلل شرك
فافهم يا فتى بالخلف

فأعظم ما يكون العبد قدرا وحرمة عند الخلق : إذا لم يحتج إليهم بوجه من الوجوه ، فإن أحسنت إليهم مع الاستغناء عنهم : كنت أعظم ما يكون عندهم ، ومتى احتجت إليهم - ولو في شربة ماء - نقص قدرك عندهم بقدر حاجتك إليهم ، وهذا من حكمة الله ورحمته ، ليكون الدين كله لله ، ولا يشرك به شيء .

ولهذا قال حاتم الأصم ، لما سئل فيم السلامة من الناس ؟ قال : أن يكون شيؤك لهم مبذولا وتكون من شيئهم آيسا ، لكن إن كنت معوضا لهم عن ذلك وكانوا محتاجين ، فإن تعادلت الحاجتان تساويتم كالمتبايعين ليس لأحدهما فضل على الآخر وإن كانوا إليك أحوج خضعوا لك . فالرب سبحانه : أكرم ما تكون عليه أحوج ما تكون إليه . وأفقر ما تكون [ ص: 40 ] إليه .

والخلق : أهون ما يكون عليهم أحوج ما يكون إليهم ، لأنهم كلهم محتاجون في أنفسهم ، فهم لا يعلمون حوائجك ، ولا يهتدون إلى مصلحتك ، بل هم جهلة بمصالح أنفسهم ، فكيف يهتدون إلى مصلحة غيرهم فإنهم لا يقدرون عليها ، ولا يريدون من جهة أنفسهم ، فلا علم ولا قدرة ولا إرادة . والرب تعالى يعلم مصالحك ويقدر عليها ، ويريدها رحمة منه وفضلا ، وذلك صفته من جهة نفسه ، لا شيء آخر جعله مريدا راحما ، بل رحمته من لوازم نفسه ، فإنه كتب على نفسه الرحمة ، ورحمته وسعت كل شيء ، والخلق كلهم محتاجون ، لا يفعلون شيئا إلا لحاجتهم ومصلحتهم ، وهذا هو الواجب عليهم والحكمة ، ولا ينبغي لهم إلا ذلك ، لكن السعيد منهم الذي يعمل لمصلحته التي هي مصلحة ، لا لما يظنه مصلحة وليس كذلك . فهم ثلاثة أصناف : ظالم . وعادل . ومحسن . فالظالم : الذي يأخذ منك مالا أو نفعا ولا يعطيك عوضه ، أو ينفع نفسه بضررك . والعادل : المكافئ . كالبايع لا لك ولا عليك كل به يقوم الوجود ، وكل منهما محتاج إلى صاحبه كالزوجين والمتبايعين والشريكين . والمحسن الذي يحسن لا لعوض يناله منك .

فهذا إنما عمل لحاجته ومصلحته ، وهو انتفاعه بالإحسان ، وما يحصل له بذلك مما تحبه نفسه من الأجر ، أو طلب مدح - الخلق وتعظيمهم ، أو التقرب إليك ، إلى غير ذلك . وبكل حال : ما أحسن إليك إلا لما يرجو من الانتفاع . وسائر الخلق إنما يكرمونك ويعظمونك لحاجتهم إليك ، وانتفاعهم بك ، إما بطريق [ ص: 41 ] المعاوضة ; لأن كل واحد من المتبايعين والمتشاركين والزوجين محتاج إلى الآخر ، والسيد محتاج إلى مماليكه وهم محتاجون إليه ، والملوك محتاجون إلى الجند والجند محتاجون إليهم ، وعلى هذا بني أمر العالم ، وأما بطريق الإحسان منك إليهم . فأقرباؤك وأصدقاؤك وغيرهم إذا أكرموك لنفسك ، فهم إنما يحبونك ويكرمونك لما يحصل لهم بنفسك من الكرامة ، فلو قد وليت ولوا عنك وتركوك فهم في الحقيقة إنما يحبون أنفسهم ، وأغراضهم . فهؤلاء كلهم من الملوك إلى من دونهم تجد أحدهم سيدا مطاعا وهو في الحقيقة عبد مطيع وإذا أوذي أحدهم بسبب سيده أو من يطيعه تغير الأمر بحسب الأحوال ، ومتى كنت محتاجا إليهم نقص الحب والإكرام والتعظيم بحسب ذلك وإن قضوا حاجتك .

والرب تعالى : يمتنع أن يكون المخلوق الآخرين له أو متفضلا عليه ; ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا رفعت مائدته : { الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه غير مكفي ولا مكفور ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا } رواه البخاري من حديث أبي أمامة بل ولا يزال الله هو المنعم المتفضل على العبد وحده لا شريك له في ذلك ; بل ما بالخلق كلهم من نعمة فمن الله ; وسعادة العبد في كمال افتقاره إلى الله ، واحتياجه إليه ، وأن يشهد ذلك ويعرفه ويتصف معه بموجبه ، أي بموجب علمه ذلك . فإن الإنسان قد يفتقر ولا يعلم مثل أن يذهب ماله ولا يعلم ، بل يظنه باقيا فإذا علم بذهابه صار له حال آخر ، فكذلك الخلق كلهم فقراء إلى الله ، لكن أهل الكفر والنفاق في جهل بهذا وغفلة عنه وإعراض عن تذكره والعمل به ، والمؤمن يقر بذلك ويعمل بموجب إقراره ، وهؤلاء هم عباد الله . [ ص: 42 ]

فالإنسان وكل مخلوق فقير إلى الله بالذات ، وفقره من لوازم ذاته ، يمتنع أن يكون إلا فقيرا إلى خالقه ، وليس أحد غنيا بنفسه إلا الله وحده ، فهو الصمد الغني عما سواه ، وكل ما سواه فقير إليه ، فالعبد فقير إلى الله من جهة ربوبيته ومن جهة إلهيته ، كما قد بسط هذا في مواضع . والإنسان يذنب دائما فهو فقير مذنب ، وربه تعالى يرحمه ويغفر له ، وهو الغفور الرحيم ، فلولا رحمته وإحسانه : لما وجد خير أصلا ، لا في الدنيا ولا في الآخرة ، ولولا مغفرته لما وقى العبد شر ذنوبه ، وهو محتاج دائما إلى حصول النعمة ، ودفع الضر والشر ولا تحصل النعمة إلا برحمته ، ولا يندفع الشر إلا بمغفرته ، فإنه لا سبب للشر إلا ذنوب العباد . كما قال تعالى : { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } والمراد بالسيئات : ما يسوء العبد من المصائب وبالحسنات : ما يسره من النعم . كما قال : { وبلوناهم بالحسنات والسيئات } فالنعم والرحمة والخير كله من الله فضلا وجودا من غير أن يكون لأحد من جهة نفسه عليه حق ، وإن كان تعالى عليه حق لعباده ، فذلك الحق هو أحقه على نفسه ، وليس ذلك من جهة المخلوق ، بل من جهة الله ، كما قد بسط هذا في مواضع . والمصائب : بسبب ذنوب العباد وكسبهم . كما قال : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } .

والنعم وإن كانت بسبب طاعات يفعلها العبد فيثيبه عليها : فهو سبحانه المنعم . بالعبد وبطاعته وثوابه عليها ، فإنه سبحانه هو الذي خلق العبد وجعله مسلما طائعا ، كما قال الخليل : { الذي خلقني فهو يهدين } وقال : { واجعلنا مسلمين لك } وقال : { اجعلني مقيم الصلاة } وقال : { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون } فسأل ربه أن يجعله مسلما وأن يجعله مقيم الصلاة . وقال : { ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم } الآية : قال في آخرها : { فضلا من الله ونعمة } .

وفي صحيح أبي داود وابن حبان : { اهدنا سبل السلام ، ونجنا من الظلمات إلى النور ، واجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها عليك ، قابليها ، وأتممها علينا } وفي الفاتحة : { اهدنا الصراط المستقيم } وفي الدعاء الذي رواه الطبراني عن ابن عباس قال : مما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة : { اللهم إنك تسمع كلامي ، وترى مكاني ، وتعلم سري وعلانيتي ، ولا يخفى عليك شيء من أمري ، أنا البائس الفقير المستغيث المستجير الوجل المشفق ، المقر بذنبه ، أسألك مسألة المسكين ، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل ، وأدعوك دعاء الخائف الضرير ، من خضعت لك رقبته ، وذل لك جسده ، ورغم لك أنفه ، اللهم لا تجعلني بدعائك رب شقيا وكن بي رءوفا رحيما يا خير المسئولين ، ويا خير المعطين } . ولفظ العبد في القرآن : يتناول من عبد الله ، فأما عبد لا يعبده فلا يطلق عليه لفظ عبده . كما قال : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } وأما قوله { إلا من اتبعك من الغاوين } فالاستثناء فيه منقطع ، كما قاله أكثر المفسرين والعلماء ، وقوله : { عينا يشرب بها عباد الله } { وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا } { واذكر عبدنا داود } و { نعم العبد إنه أواب } { واذكر عبدنا أيوب } { واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب } { فوجدا عبدا من عبادنا } { سبحان الذي أسرى بعبده } { إنه كان عبدا شكورا } { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا } { فأوحى إلى عبده ما أوحى } { وأنه لما قام عبد الله يدعوه } { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده } . ونحو هذا كثير . وقد يطلق لفظ العبد على المخلوقات كلها ، كقوله : { إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم } { أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء } قد يقال في هذا : إن المراد به الملائكة والأنبياء إذا كان قد نهى عن اتخاذهم أولياء فغيرهم بطريق الأولى . فقد قال : { إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا } .

وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في الدجال : { فيوحي الله إلى المسيح أن لي عبادا لا يدان لأحد بقتالهم } وهذا كقوله : { بعثنا عليكم عبادا لنا } فهؤلاء لم يكونوا مطيعين لله ، لكنهم معبدون مذللون مقهورون يجري عليهم قدره . وقد يكون كونهم عبيدا : هو اعترافهم بالصانع وخضوعهم له وإن كانوا كفارا كقوله : { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } وقوله : { إلا آتي الرحمن عبدا } أي ذليلا خاضعا .

ومعلوم أنهم لا يأتون يوم القيامة إلا كذلك ، وإنما الاستكبار عن عبادة الله كان في الدنيا ، ثم قال : {لقد أحصاهم وعدهم عدا } { وكلهم آتيه يوم القيامة فردا } فذكر بعدها أنه يأتي منفردا كقوله { ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة } وقال : { وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون } { ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها } الآية . وقال : { بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون } فليس المراد بذلك مجرد كونهم مخلوقين مدبرين مقهورين تحت المشيئة والقدرة فإن هذا [ ص: 45 ] لا يقال طوعا وكرها فإن الطوع والكره إنما يكون لما يفعله الفاعل طوعا وكرها ، فأما ما لا فعل له فيه : فلا يقال له ساجد أو قانت ، بل ولا مسلم ، بل الجميع مقرون بالصانع بفطرتهم ، وهم خاضعون مستسلمون قانتون مضطرون من وجوه . منها : علمهم بحاجتهم وضرورتهم إليه . ومنها : دعاؤهم إياه عند الاضطرار . ومنها : خضوعهم واستسلامهم لما يجري عليهم من أقداره ومشيئته . ومنها : انقيادهم لكثير مما أمر به في كل شيء ، فإن سائر البشر لا يمكنون العبد من مراده بل يقهرونه ويلزمونه بالعدل الذي يكرهه ، وهو مما أمر الله به ، وعصيانهم له في بعض ما أمر به - وإن كان هو التوحيد - لا يمنع كونهم قانتين خاضعين مستسلمين كرها كالعصاة من أهل القبلة وأهل الذمة وغيرهم ، فإنهم خاضعون للدين الذي بعث به رسله ، وإن كانوا يعصونه في أمور .

والمؤمن يخضع لأمر ربه طوعا ، وكذلك لما يقدره من المصائب ، فإنه يفعل عندها ما أمر به من الصبر وغيره طوعا ، فهو مسلم لله طوعا خاضع له طوعا ، والسجود مقصوده الخضوع ، وسجود كل شيء بحسبه سجودا يناسبها ويتضمن الخضوع للرب . وأما فقر المخلوقات إلى الله : بمعنى حاجتها كلها إليه ، وأنه لا وجود لها ولا شيء من صفاتها وأفعالها إلا به . فهذا : أول درجات الافتقار ، وهو افتقارها إلى ربوبيته لها ، وخلقه وإتقانه ، وبهذا الاعتبار كانت مملوكة له ، وله سبحانه الملك والحمد .

وهذا معلوم عند كل من آمن بالله ورسله الإيمان الواجب ، فالحدوث [ ص: 46 ] دليل افتقار الأنبياء إلى محدثها ، وكذلك حاجتها إلى محدثها بعد إحداثه لها دليل افتقارها فإن الحاجة إلى الرزق دليل افتقار المرزوق إلى الخالق الرازق . والصواب أن الأشياء مفتقرة إلى الخالق لذواتها لا لأمر آخر جعلها مفتقرة إليه ، بل فقرها لازم لها ; لا يمكن أن تكون غير مفتقرة إليه ، كما أن غنى الرب وصف لازم له لا يمكن أن يكون غير غني ، فهو غني بنفسه لا بوصف جعله غنيا ، وفقر الأشياء إلى الخالق وصف لها ، وهي معدومة وهي موجودة فإذا كانت معدومة فقيل عن مطر ينتظر نزوله وهو مفتقر إلى الخالق كان معناه : أنه لا يوجد إلا بالخالق هذا قول الجمهور من نظار المسلمين وغيرهم ، وهذا الافتقار أمر معلوم بالعقل ، وما أثبته القرآن من استسلام المخلوقات وسجودها وتسبيحها وقنوتها أمر زائد على هذا عند عامة المسلمين من السلف وجمهور الخلف . ولكن طائفة تدعي أن افتقارها وخضوعها وخلقها وجريان المشيئة عليها هو تسبيحها وقنوتها ، وإن كان ذلك بلسان الحال ولكونها دلالة شاهدة للخالق جل جلاله . وقل للأرض من فجر أنهارها ، وغرس أشجارها ، وأخرج نباتها وثمارها ، فإن لم تجبك حوارا وإلا أجابتك اعتبارا ، وهذا يقوله الغزالي وغيره ، وهو أحد الوجوه التي ذكرها أبو بكر بن الأنباري في قوله : { كل له قانتون } قال : كل مخلوق قانت له باشر صنعته فيه وأجرى أحكامه عليه ، فذلك دليل على ذله لربه ، وهو الذي ذكرهالزجاج في قوله : { وله أسلم من في السماوات والأرض } قال : إسلام الكل خضوعهم لنفاذ أمره في جبلهم لا يقدر أحد يمتنع من جبلة جبله الله عليها ، وهذا المعنى صحيح لكن الصواب [ ص: 47 ] الذي عليه جمهور علماء السلف والخلف : أن القنوت والاستلام والتسبيح أمر زائد على ذلك ، وهذا كقول بعضهم : إن سجود الكاره وذله وانقياده لما يريده الله منه من عافية ومرض وغنى وفقر ، وكما قال بعضهم في قوله : { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } . قال : تسبيحه دلالته على صانعه فتوجب بذلك تسبيحا من غيره ، والصواب أن لها تسبيحا وسجودا بحسبها .

والمقصود أن فقر المخلوقات إلى الخالق ودلالتها عليه وشهادتها له أمر فطري فطر الله عليه عباده ، كما أنه فطرهم على الإقرار به بدون هذه الآيات ، كما قد بسط الكلام على هذا في مواضع ، وبين الفرق بين دلالة الآيات ودلالة القياس الشمولي والتمثيلي فإن القياس البرهاني العقلي سواء صيغ بلفظ الشمول كالأشكال المنطقية ، أو صيغ بلفظ التمثيل ، وبين أن الجامع هو علة الحكم ويلزم ثبوت الحكم أينما وجد ، وقد بسطنا الكلام على صورة القياسين في غير هذا الموضع .

والتحقيق : أن العلم بأن المحدث لا بد له من محدث هو علم فطري ضروري في المعينات الجزئية ، وأبلغ مما هو في القضية الكلية ، فإن الكليات إنما تصير كليات في العقل بعد استقرار جزئياتها في الوجود ، وكذلك عامة القضايا الكلية التي يجعلها كثير من النظار المتكلمة والمتفلسفة أصول علمهم ، كقولهم ، الكل أعظم من الجزء أو النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان ، والأشياء المساوية لشيء واحد متساوية ونحو ذلك ، فإنه أي كلي تصوره الإنسان علم أنه أعظم من جزئيه ، وإن لم تخطر له القضية الكلية كما يعلم أن بدن الإنسان بعضه أكثر من بعض وأن الدرهم أكبر من بعضه ، وأن المدينة أكثر من بعضها [ ص: 48 ] وأن الجبل أكبر من بعضه وكذلك النقيضان وهما : الوجود والعدم ، فإن العبد إذا تصور وجود أي شيء كان وعدمه علم أن ذلك الشيء لا يكون موجودا معدوما في حالة واحدة وأنه لا يخلو من الوجود والعدم ، وهو يقضي بالجزئيات المعينة ، وإن لم يستحضر القضية الكلية ، وهكذا أمثال ذلك .

ولما كان القياس الكلي فائدته أمر مطلق لا معين : كان إثبات الصانع بطريق الآيات هو الواجب . كما نزل به القرآن ، وفطر الله عليه عباده ، وإن كانت الطريقة القياسية صحيحة ، لكن فائدتها ناقصة ، والقرآن إذا استعمل في الآيات الإلهيات استعمل قياس الأولى لا القياس الذي يدل على المشترك ، فإنه ما وجب تنزيه مخلوق عنه من النقائص والعيوب التي لا كمال فيها .

فالباري تعالى أولى بتنزيهه عن ذلك ، وما ثبت للمخلوق من الكمال الذي لا نقص فيه كالحياة والعلم والقدرة : فالخالق أولى بذلك منه ، فالمخلوقات كلها آيات للخالق ، والفرق بين الآية وبين القياس : أن الآية تدل على عين المطلوب الذي هي آية وعلامة عليه ، فكل مخلوق فهو دليل وآية على الخالق نفسه ، كما قد بسطناه في مواضع . ثم الفطر تعرف الخالق بدون هذه الآيات ، فإنها قد فطرت على ذلك ، ولو لم تكن تعرفه بدون هذه الآيات لم تعلم أن هذه الآية له ، فإن كونها آية له ودلالة عليه : مثل كون الاسم يدل على المسمى فلا بد أن يكون قد تصور المسمى قبل ذلك ، وعرف أن هذا اسم له ، فكذلك كون هذا دليلا على هذا يقتضي تصور المدلول عليه وتصور أن ذلك الدليل مستلزم له ، فلا بد في ذلك أن يعلم أنه مستلزم للمدلول ، فلو لم يكن المدلول متصورا لم يعلم أنه دليل عليه ، [ ص: 49 ] فمعرفة الإضافة متوقفة على تصور المضاف والمضاف إليه ; لكن قد لا يكون الإنسان عالما بالإضافة ولا كونه دليلا ، فإذا تصوره عرف المدلول إذا عرف أنه مستلزم له ، والناس يعلمون أن هذه المخلوقات آيات ودلائل للخالق ، فلا بد أن يكونوا يعرفونه ; حتى يعلمون أن هذه دلائل مستلزمة له .

والمقصود أن هذه الطرق العقلية الفطرية هي التي جاء بها القرآن ، واتفق العقل والشرع ، وتلازم الرأي والسمع . والمتفلسفة كابن سينا الرازي ومن اتبعهما ، قالوا : إن طريق إثباته الاستدلال عليه بالممكنات ، وإن الممكن لا بد له من واجب ، قالوا : والوجود إما واجب وإما ممكن ، والممكن لا بد له من واجب ، فيلزم ثبوت الواجب على التقديرين ; وهذه المقالة أحدثها ابن سينا ، وركبها من كلام المتكلمين وكلام سلفه ; فإن المتكلمين قسموا الوجود إلى قديم ومحدث ، وقسمه هو إلى واجب وممكن ، وذلك أن الفلك عنده ليس محدثا ; بل زعم أنه ممكن . وهذا التقسيم لم يسبقه إليه أحد من الفلاسفة ، بل حذاقهم عرفوا أنه خطأ ، وأنه خالف سلفه وجمهور العقلاء وغيرهم ، وقد بينا في مواضع أن القدم ووجوب الوجود ، متلازمان عند عامة العقلاء ، الأولين والآخرين ، ولم يعرف عن طائفة منهم نزاع في ذلك ، إلا ما أحدثه هؤلاء فإنا نشهد حدوث موجودات كثيرة ، حدثت بعد أن لم تكن ، ونشهد عدمها بعد أن كانت ، وما كان معدوما أو سيكون معدوما لا يكون واجب الوجود ، ولا قديما أزليا .

ثم إن هؤلاء إذا قدر أنهم أثبتوا واجب الوجود فليس في دليلهم أنه مغاير للسموات والأفلاك ، وهذا مما بين تهافتهم فيه الغزالي وغيره ، لكن [ ص: 50 ] عمدتهم أن الجسم لا يكون واجبا ، ; لأنه مركب ، والواجب لا يكون مركبا ، هذا عمدتهم . وقد بينا بطلان هذا من وجوه كثيرة ، وما زال النظار يبينون فساد هذا القول كل بحسبه ، كما بين الغزالي فساده بحسبه . وذلك أن لفظ الواجب صار فيه اشتراك بين عدة معان : فيقال للموجود بنفسه الذي لا يقبل العدم فتكون الذات واجبة والصفات واجبة ، ويقال للموجود بنفسه والقائم بنفسه ، فتكون الذات واجبة دون الصفات ، ويقال لمبدع الممكنات ، وهي المخلوقات ، والمبدع لها هو الخالق ، فيكون الواجب هو الذات المتصفة بتلك الصفات ، والذات مجردة عن الصفات لم تخلق ، والصفات مجردة عن الذات لم تخلق ، ولهذا صار من سار خلفهم ممن يدعي التحقيق والعرفان ، إلى أن جعل الواجب هو الوجود المطلق كما قد بسط القول عليه في مواضع .

والمقصود هنا الكلام أولا : في أن سعادة العبد في كمال افتقاره إلى ربه واحتياجه إليه ، أي في أن يشهد ذلك ويعرفه ، ويتصف معه بموجب ذلك من الذل والخضوع والخشوع ، وإلا فالخلق كلهم محتاجون ، لكن يظن أحدهم نوع استغناء فيطغى . كما قال تعالى : { كلا إن الإنسان ليطغى } { أن رآه استغنى } وقال : { وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض } وفي الآية الأخرى : { كان يئوسا }

التالي السابق


الخدمات العلمية