صفحة جزء
[ ص: 194 ] سئل شيخ الإسلام ركن الشريعة أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية " - قدس الله روحه ونور ضريحه : - عن قول الله عز وجل : { الرحمن على العرش استوى } وقوله صلى الله عليه وسلم { ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا } هل الاستواء والنزول حقيقة أم لا ؟ وما معنى كونه حقيقة ؟ وهل الحقيقة استعمال اللفظ فيما وضع له كما يقوله الأصوليون أم لا ؟ وما يلزم من كون آيات الصفات حقيقة ؟ .


فأجاب : الحمد لله رب العالمين . القول في الاستواء والنزول كالقول في سائر الصفات التي وصف الله بها نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى " سمى نفسه بأسماء ووصف نفسه بصفات " سما نفسه : حيا عليما حكيما قديرا سميعا بصيرا غفورا رحيما إلى سائر أسمائه الحسنى . قال الله تعالى : { وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى } وقال : { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض } [ ص: 195 ] وقال : { إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } وقال : { والسماء بنيناها بأيد } أي بقوة وقال : { ورحمتي وسعت كل شيء } . وقال عن ملائكته : { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما } وقال : { رضي الله عنهم ورضوا عنه } وقال : { ورضوان من الله أكبر } وقال : { وغضب الله عليهم ولعنهم } وقال : { سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا } وقال تعالى : { وكلم الله موسى تكليما } وقال : { منهم من كلم الله } وقال : { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا } وقال : { إنني معكما أسمع وأرى } وقال : { وكان الله سميعا بصيرا } وقال : { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } وقال تعالى : { يحبهم ويحبونه } وقال تعالى : { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة } وقال تعالى : { وجاء ربك والملك صفا صفا } . وأمثال ذلك ; فالقول في بعض هذه الصفات كالقول في بعض . ومذهب سلف الأمة وأئمتها أن يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ; ولا تكييف ولا تمثيل . فلا يجوز نفي صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه ; ولا يجوز تمثيلها بصفات المخلوقين ; بل هو سبحانه { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله . [ ص: 196 ] وقال نعيم بن حماد الخزاعي : من شبه الله بخلقه فقد كفر ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر وليس ما وصف الله به نفسه ورسوله تشبيها . ومذهب السلف بين مذهبين وهدى بين ضلالتين : إثبات الصفات ونفي مماثلة المخلوقات ; فقوله تعالى : { ليس كمثله شيء } رد على أهل التشبيه والتمثيل . وقوله : { وهو السميع البصير } - رد على أهل النفي والتعطيل فالممثل أعشى والمعطل أعمى : الممثل يعبد صنما والمعطل يعبد عدما . وقد اتفق جميع أهل الإثبات على أن الله حي حقيقة عليم حقيقة قدير حقيقة سميع حقيقة بصير حقيقة مريد حقيقة متكلم حقيقة ; حتى المعتزلة النفاة للصفات قالوا : إن الله متكلم حقيقة ; كما قالوا - مع سائر المسلمين - إن الله عليم حقيقة قدير حقيقة ; بل ذهب طائفة منهم كأبي العباس الناشي إلى أن هذه الأسماء حقيقة لله مجاز للخلق . وأما جمهور المعتزلة مع المتكلمة الصفاتية - من الأشعرية الكلابية والكرامية والسالمية وأتباع الأئمة الأربعة من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية وأهل الحديث والصوفية - فإنهم يقولون : إن هذه الأسماء حقيقة للخالق سبحانه وتعالى ; وإن كانت تطلق على خلقه حقيقة أيضا . ويقولون : إن له علما حقيقة وقدرة حقيقة وسمعا حقيقة وبصرا حقيقة . [ ص: 197 ] وإنما ينكر أن تكون هذه الأسماء حقيقة النفاة من القرامطة الإسماعيلية الباطنية ونحوهم من المتفلسفة الذين ينفون عن الله الأسماء الحسنى ويقولون : ليس بحي ولا عالم ولا جاهل ولا قادر ولا عاجز ولا موجود ولا معدوم ; فهؤلاء ومن ضاهاهم ينفون أن تكون له حقيقة ثم يقول بعضهم : إن هذه الأسماء لبعض المخلوقات وأنها ليست له حقيقة ولا مجازا . وهؤلاء الذين يسميهم المسلمون الملاحدة ; لأنهم ألحدوا في أسماء الله وآياته وقد قال الله تعالى : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون } وقال تعالى : { إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا } وهؤلاء شر من المشركين الذين أخبر الله عنهم بقوله : { وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا } وقال تعالى : { كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب } . فإن أولئك المشركين إنما أنكروا اسم الرحمن فقط وهم لا ينكرون أسماء الله وصفاته ; ولهذا كانوا عند المسلمين أكفر من اليهود والنصارى . ولو كانت أسماء الله وصفاته مجازا يصح نفيها عند الإطلاق ; لكان يجوز أن الله ليس بحي ولا عليم ولا قدير ولا سميع ولا بصير ولا يحبهم ولا يحبونه ولا استوى على العرش ; ونحو ذلك . ومعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز إطلاق النفي على ما أثبته [ ص: 198 ] الله تعالى من الأسماء الحسنى والصفات ; بل هذا جحد للخالق وتمثيل له بالمعدومات وقد قال أبو عمر بن عبد البر : أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز ; إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك . ولا يحدون فيه صفة محصورة وأما " أهل البدع " من الجهمية والمعتزلة والخوارج فينكرونها ولا يحملونها على الحقيقة ويزعمون أن من أقر بها مشبه وهم عند من أقر بها نافون للمعبود لا مثبتون . والحق فيما قاله القائلون بما نطق به الكتاب والسنة وهم وأئمة الجماعة . وهذا الذي حكاه ابن عبد البر عن المعتزلة ونحوهم هو في بعض ما ينفونه من الصفات وأما فيما يثبتونه من الأسماء والصفات كالحي والعليم والقدير والمتكلم فهم يقولون : إن ذلك حقيقة ومن أنكر أن يكون شيء من هذه الأسماء والصفات حقيقة إنما أنكره لجهله مسمى الحقيقة أو لكفره وتعطيله لما يستحقه رب العالمين وذلك أنه قد يظن أن إطلاق ذلك يقتضي أن يكون المخلوق مماثلا للخالق فيقال له : هذا باطل ; فإن الله موجود حقيقة والعبد موجود حقيقة ; وليس هذا مثل هذا والله تعالى له ذات حقيقة والعبد له ذات حقيقة وليس ذاته كذوات المخلوقات . وكذلك له علم وسمع وبصر حقيقة وللعبد علم وسمع وبصر حقيقة ; وليس [ ص: 199 ] علمه وسمعه وبصره مثل علم الله وسمعه وبصره ولله كلام حقيقة وللعبد كلام حقيقة ; وليس كلام الخالق مثل كلام المخلوقين . ولله تعالى استواء على عرشه حقيقة وللعبد استواء على الفلك حقيقة ; وليس استواء الخالق كاستواء المخلوقين ; فإن الله لا يفتقر إلى شيء ولا يحتاج إلى شيء بل هو الغني عن كل شيء . والله تعالى يحمل العرش وحملته بقدرته ويمسك السموات والأرض أن تزولا . فمن ظن أن قول الأئمة : إن الله مستو على عرشه حقيقة يقتضي أن يكون استواؤه مثل استواء العبد على الفلك والأنعام لزمه أن يكون قولهم : إن الله له علم حقيقة وسمع حقيقة وبصر حقيقة وكلام حقيقة يقتضي أن يكون علمه وسمعه وبصره وكلامه مثل المخلوقين وسمعهم وبصرهم وكلامهم .

[ ص: 200 ] فصل : وأما قول السائل : ما معنى كون ذلك حقيقة ؟ " فالحقيقة " هو اللفظ المستعمل فيما وضع له وقد يراد بها المعنى الموضوع للفظ الذي يستعمل اللفظ فيه . فالحقيقة أو المجاز هي من عوارض الألفاظ في اصطلاح أهل الأصول وقد يجعلونه من عوارض المعاني لكن الأول أشهر وهذه الأسماء والصفات لم توضع لخصائص المخلوقين عند الإطلاق ولا عند الإضافة إلى الله تعالى ولكن عند الإضافة إليهم . فاسم العلم يستعمل مطلقا ويستعمل مضافا إلى العبد كقوله : { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط } ويستعمل مضافا إلى الله كقوله : { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } فإذا أضيف العلم إلى المخلوق لم يصلح أن يدخل فيه علم الخالق سبحانه ولم يكن علم المخلوق كعلم الخالق وإذا أضيف إلى الخالق كقوله : { أنزله بعلمه } لم يصلح أن يدخل فيه علم المخلوقين ولم يكن علمه كعلمهم . وإذا قيل : العلم مطلقا أمكن تقسيمه فيقال : العلم ينقسم إلى العلم القديم والعلم المحدث ; فلفظ العلم عام فيهما متناول لهما بطريق الحقيقة وكذلك إذا [ ص: 201 ] قيل : الوجود ينقسم إلى قديم ومحدث وواجب وممكن ; وكذلك إذا قيل في الاستواء : ينقسم إلى استواء الخالق واستواء المخلوق ; وكذلك إذا قيل : الإرادة والرحمة والهبة تنقسم إلى إرادة الله ومحبته ورحمته وإرادة العبد ومحبته ورحمته . فمن ظن أن " الحقيقة " إنما تتناول صفة العبد المخلوقة المحدثة دون صفة الخالق كان في غاية الجهل ; فإن صفة الله أكمل وأتم وأحق بهذه الأسماء الحسنى فلا نسبة بين صفة العبد وصفة الرب كما لا نسبة بين ذاته وذاته فكيف يكون العبد مستحقا للأسماء الحسنى حقيقة : فيستحق أن يقال له : عالم قادر سميع بصير ; والرب لا يستحق ذلك إلا مجازا ومعلوم أن كل كمال حصل للمخلوق فهو من الرب سبحانه وتعالى وله المثل الأعلى ; فكل كمال حصل للمخلوق فالخالق أحق به ; وكل نقص تنزه عنه المخلوق فالخالق أحق أن ينزه عنه ; ولهذا كان الله " المثل الأعلى " فإنه لا يقاس بخلقه ولا يمثل بهم ولا تضرب له الأمثال . فلا يشترك هو والمخلوق في قياس تمثيل بمثل ; ولا في قياس شمول تستوي أفراده بل { وله المثل الأعلى في السماوات والأرض } . ومن الناس من يسمي هذه الأسماء " المشككة " لكون المعنى في أحد المحلين أكمل منه في الآخر فإن الوجود بالواجب أحق منه بالممكن والبياض بالثلج أحق منه بالعاج وأسماؤه وصفاته من هذا الباب ; فإن الله تعالى يوصف بها على [ ص: 202 ] وجه لا يماثل أحدا من المخلوقين وإن كان بين كل قسمين قدرا مشتركا وذلك القدر المشترك هو مسمى اللفظ عند الإطلاق فإذا قيد بأحد المحلين تقيد به . فإذا قيل : وجود وماهية وذات كان هذا الاسم متناولا للخالق والمخلوق وإن كان الخالق أحق به من المخلوق وهو حقيقة فيهما . فإذا قيل : وجود الله وماهيته وذاته اختص هذا بالله ; ولم يبق للمخلوق دخول في هذا المسمى وكان حقيقة لله وحده . وكذلك إذا قيل وجود المخلوق وذاته اختص ذلك بالمخلوق وكان حقيقة للمخلوق . فإذا قيل : وجود العبد وماهيته وحقيقته لم يدخل الخالق في هذا المسمى وكان حقيقة للمخلوق وحده . والجاهل يظن أن اسم الحقيقة إنما يتناول المخلوق وحده وهذا ضلال معلوم الفساد بالضرورة في " العقول " و " الشرائع " و " اللغات " فإنه من المعلوم بالضرورة أن بين كل موجودين قدرا مشتركا وقدرا مميزا والدال على ما به الاشتراك وحده لا يستلزم ما به الامتياز ومعلوم بالضرورة من دين المسلمين أن الله مستحق للأسماء الحسنى وقد سمى بعض عباده ببعض تلك الأسماء كما سمى العبد سميعا بصيرا وحيا وعليما وحكيما ورءوفا رحيما وملكا وعزيزا ومؤمنا وكريما وغير ذلك . مع العلم بأن الاتفاق في الاسم لا يوجب مماثلة الخالق بالمخلوق وإنما يوجب الدلالة على أن بين المسميين قدرا مشتركا فقط ; مع أن المميز الفارق أعظم من المشترك الجامع . [ ص: 203 ] وأما " اللغات " فإن جميع أهل اللغات - من العرب والروم والفرس والترك والبربر وغيرهم - يقع مثل هذا في لغاتهم وهو حقيقة في لغات جميع الأمم ; بل يعلمون أن الله أحق بأن يكون قادرا فاعلا من العبد ; وأن استحقاق اسم الرب القادر له حقيقة أعظم من استحقاق العبد لذلك وكذلك غيره من الأسماء الحسنى .

وقول الناس : إن بين المسميين قدرا مشتركا لا يريدون بأن يكون في الخارج عن الأذهان أمرا مشتركا بين الخالق والمخلوق ; فإنه ليس بين مخلوق ومخلوق في الخارج شيء مشترك بينهما فكيف بين الخالق والمخلوق ; وإنما توهم هذا من توهمه من أهل " المنطق اليوناني " ومن اتبعهم حتى ظنوا أن في الخارج ماهيات مطلقة مشتركة بين الأعيان المحسوسة ثم منهم من يجردها عن الأعيان كأفلاطون ; ومنهم من يقول : لا تنفك عن الأعيان : كأرسطو وابن سينا وأشباههما .

وقد بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع وبينا ما دخل على من اتبعهم من الضلال في هذا الموضع في " المنطق والإلهيات " حتى إن طوائف من النظار قالوا : إنا إذا قلنا : إن وجود الرب عين ماهيته - كما هو قول أهل الإثبات ومتكلمة أهل الصفات : كابن كلاب والأشعري وغيرهما - يلزم من ذلك أن يكون لفظ " الوجود " مقولا عليهما بالاشتراك اللفظي كما ذكره أبو عبد الله الرازي عن الأشعري وأبي الحسين البصري وغيرهم ; وليس هذا مذهبهم ; [ ص: 204 ] بل مذهبهم : أن لفظ " الوجود " مقول بالتواطؤ وأنه ينقسم إلى قديم ومحدث مع قولهم : إن وجود الرب عين ماهيته ; فإن لفظ الوجود عندهم كلفظ الماهية .

وكما أن الماهية والذات تنقسم إلى قديمة ومحدثة وماهية الرب عين ذاته فكذلك الوجود ينقسم إلى قديم ومحدث ووجود الرب عين ذاته ووجود العبد عين ذاته وذات الشيء هي ماهيته . فاللفظ من الألفاظ المتواطئة ولكن بالإضافة يخص أحد المسميين والمسميان إذا اشتركا في مسمى الوجود والذات والماهية لم يكن بينهما في الخارج أمر مشترك يكون زائدا على خصوصية كل واحد كما يظنه أرسطو وابن سينا والرازي وأمثالهم ; بل ليس في الخارج وجود مطلق ولا ماهية مطلقة ولا ذات مطلقة .

أما المطلق بشرط الإطلاق فقد اتفق هؤلاء وغيرهم على أنه ليس بموجود في الخارج وأن على تقدير ثبوته عن أفلاطون وأتباعه هو قول باطل ضرورة . وأما المطلق لا بشرط فقد يظن أنه في الخارج وأنه جزء من المعين وهذا غلط ; بل ليس في الخارج إلا المعينات وليس في الخارج مطلق يكون جزء معين لكن هؤلاء يريدون بالجزء ما هو صفة ذاتية للموصوف ; بناء على أن [ ص: 205 ] الموصوف مركب من تلك الصفات التي يسمونها الأجزاء الذاتية . كما يقولون : الإنسان مركب من الحيوان والناطق ; أو من الحيوانية والناطقية ;

وهذا التركيب تركيب ذهني ; فالماهية المركبة في الذهن مركبة من هذه الأمور وهي أجزاء تلك الماهية . وأما الحقيقة الموجودة في الخارج فهي موصوفة بهذه الصفات ; ولكن كثيرا من هؤلاء اشتبه عليه الوجود الذهني بالخارجي وهذا الغلط وقع كثيرا في أقوال المتفلسفة ; فأوائلهم كأصحاب فيثاغورس كانوا يقولون بوجود أعداد مجردة عن المعدودات في الخارج ; وأصحاب أفلاطون يقولون : بوجود المثل الأفلاطونية وهي الحقائق المطلقة عن المعينات في الخارج .

وهذه الحقائق مقارنة للمعينات في الخارج كما أثبتوا جواهر عقلية ; وهي المجردات : كالمادة والهيولى ; والعقول والنفوس على قول بعضهم .

ومن هذا الباب تفريقهم بين الصفات الذاتية المتقدمة للماهية التي تتركب منها الأنواع ويسمونها الأجناس والفصول ; وبين الصفات العارضة اللازمة للماهية التي يسمونها خواصا وأعراضا عامة ; وهذه الخمسة هي الكليات وهي الجنس والفصل والنوع والعرض العام والخاصة وقد وقع بسبب ذلك من الغلط في " منطقهم " وفي " الإلهيات " ما ضل به كثير من الخلق ; وقد نبهنا على ذلك في غير هذا الموضع بما لا يتسع له هذا الموضع ; ولهذا كان لفظ المركب [ ص: 206 ] عندهم يقال على خمسة معان : على المركب من الوجود والماهية والمركب من الذات والصفات والمركب من الخاص والعام والمركب من المادة والصورة والقائلون بالجوهر الفرد يثبتون التركيب من الجواهر المفردة .

والمحققون من أهل العلم يعلمون أن تسمية مثل هذه المعاني تركيبا أمر اصطلاحي وهو إما أمر ذهني لا وجود له في الخارج وإما أن يعود إلى صفات متعددة قائمة بالموصوف وهذا حق .

فإن مذهب أهل السنة والجماعة : إثبات الصفات لله تعالى ; بل صفات الكمال لازمة لذاته يمتنع ثبوت ذاته بدون صفات الكمال اللازمة له ; بل يمتنع تحقق ذات من الذوات عرية عن جميع الصفات وهذا كله مبسوط في غير هذا الموضع . والمقصود هنا : أنه إذا قيل هذا إنسان فالمشار إليه بهذا المسمى بإنسان ; وليس الإنسان المطلق جزءا من هذا وليس الإنسان هنا إلا مقيدا وإنما يوجد مطلقا في الذهن ; لا في الخارج .

وإذا قيل هذا في الإنسانية فالمعنى أن بينهما تشابها فيها ; لا أن هناك شيئا موجودا في الأعيان يشتركان فيه . فليتدبر اللبيب هذا فإنه يحل شبهات كثيرة ومن فهم هذا الموضع تبين له غلط من جعل هذه الأسماء مقولة بالاشتراك اللفظي لا المعنوي وغلط من جعل أسماء الله تعالى أعلاما محضة لا تدل على معان ومن زعم أن في الخارج [ ص: 207 ] حقائق مطلقة يشترك فيها الأعيان وعلم أن ما يستحق الرب لنفسه لا يشركه فيه غيره بوجه من الوجوه ولا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من الصفات .

وأما المخلوق فقد يماثله غيره في صفاته لكن لا يشركه في غير ما يستحقه منها والأسماء المتواطئة المقولة على هذا وهذا حقيقة في هذا وهذا . فإذا كانت عامة لهما تناولتهما وإن كانت مطلقة لم يمنع تصورهما من اشتراكهما فيها وإن كانت مقيدة اختصت بمحلها .

فإذا قال : وجود الله وذات الله وعلم الله وقدرة الله وسمع الله وبصر الله وإرادة الله

وكلام الله ; ورحمة الله وغضب الله واستواء الله ونزول الله ومحبة الله ; وإرادة الله ونحو ذلك كانت هذه الأسماء كلها حقيقة لله تعالى من غير أن يدخل فيها شيء من المخلوقات ومن غير أن يماثله فيها شيء من المخلوقات .

وإذا قال : وجود العبد وذاته وماهيته وعلمه وقدرته وسمعه وبصره وكلامه واستواؤه ; ونزوله : كان هذا حقيقة للعبد مختصة به من غير أن تماثل صفات الله تعالى . بل أبلغ من ذلك أن الله أخبر أن في الجنة من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح ما ذكره في كتابه كما أخبر أن فيها لبنا ; وعسلا وخمرا ولحما ; وحريرا وذهبا وفضة وحورا وقصورا ونحو ذلك وقد قال ابن عباس : ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء .

[ ص: 208 ] فتلك الحقائق التي في الآخرة ليست مماثلة لهذه الحقائق التي في الدنيا وإن كانت مشابهة لها من بعض الوجوه والاسم يتناولها حقيقة . ومعلوم أن الخالق أبعد عن مشابهة المخلوق فكيف يجوز أن يظن أن فيما أثبته الله تعالى من أسمائه وصفاته مماثلا لمخلوقاته ؟ وأن يقال : ليس ذلك بحقيقة وهل يكون أحق بهذه الأسماء الحسنى والصفات العليا من رب السموات والأرض مع أن مباينته للمخلوقات أعظم من مباينة كل مخلوق .

والجاهل يضل بقول المتكلمين : إن العرب وضعوا لفظ الاستواء لاستواء الإنسان على المنزل أو الفلك أو استواء السفينة على الجودي ونحو ذلك من استواء بعض المخلوقات فهذا كما يقول القائل : إنما وضعوا لفظ السمع والبصر والكلام لما يكون محله حدقة وأجفانا وأصمخة وأذنا وشفتين وهذا ضلال في الشرع وكذب وإنما وضعوا لفظ الرحمة والعلم والإرادة لما يكون محله مضغة لحم وفؤاد وهذا كله جهل منه .

فإن العرب إنما وضعت للإنسان ما أضافته إليه فإذا قالت : سمع العبد وبصره وكلامه وعلمه وإرادته ورحمته فما يخص به يتناول ذلك خصائص العبد . وإذا قيل : سمع الله وبصره وكلامه وعمله وإرادته ورحمته كان هذا متناولا لما يخص به الرب لا يدخل في ذلك شيء من خصائص المخلوقين فمن ظن أن هذا الاستواء إذا كان حقيقة يتناول شيئا من صفات المخلوقين مع كون النص قد خصه بالله كان جاهلا جدا بدلالات اللغات ومعرفة الحقيقة والمجاز .

[ ص: 209 ] وهؤلاء الجهال يمثلون في ابتداء فهمهم صفات الخالق بصفات المخلوق : ثم ينفون ذلك ويعطلونه فلا يفهمون من ذلك إلا ما يختص بالمخلوق وينفون مضمون ذلك ويكونون قد جحدوا ما يستحقه الرب من خصائصه وصفاته وألحدوا في أسماء الله وآياته وخرجوا عن القياس العقلي والنص الشرعي فلا يبقى بأيديهم لا معقول صريح ولا منقول صحيح ثم لا بد لهم من إثبات بعض ما يثبته أهل الإثبات من الأسماء والصفات فإذا أثبتوا البعض ونفوا البعض قيل لهم : ما الفرق بين مما أثبتموه ونفيتموه ؟ ولم كان هذا حقيقة ولم يكن هذا حقيقة ؟ لم يكن لهم جواب أصلا وظهر بذلك جهلهم وضلالهم شرعا وقدرا .

وقد تدبرت كلام عامة من ينفي شيئا مما أثبته الرسل من الأسماء والصفات فوجدتهم كلهم متناقضين ; فإنهم يحتجون لما نفوه بنظير ما يحتج به النافي لما أثبتوه ; فيلزمهم إما إثبات الأمرين وإما نفيهما ; فإذا نفوهما فلا بد لهم أن يقولوا بالواجب الوجود وعدمه جميعا وهذا نهاية هؤلاء النفاة الملاحدة الغلاة من القرامطة وغلاة المتفلسفة ; فإنهم إذا أخذوا ينفون النقيضين جميعا ; فالنقيضان كما أنهما لا يجتمعان ; فلا يرتفعان .

ومن جهة إن ما يسلبون عنه النقيضين لا بد أن يتصوروه وأن يعبروا عنه ; فإن التصديق مسبوق بالتصور ومتى تصوروه وعبروا عنه كقولهم الثابت والواجب أو أي شيء قالوه لزمهم فيه من إثبات القدر المشترك نظير ما يلزمهم فيما نفوه [ ص: 210 ] ولا يمكن أن يتصور شيء من ذلك مع قولهم : أسماء الله مقولة بالاشتراك اللفظي فقط .

فإن المشتركين اشتراكا لفظيا لا معنويا كلفظ المشترى المقول على الكوكب والمبتاع وسهيل المقول على الكوكب وعلى ابن عمرو فإنه إذا سمع المستمع قائلا يقول له : جاءني سهيل بن عمرو وهذا هو المشتري لهذه السلعة لم يفهم من هذا اللفظ كوكبا أصلا إلا أن يعرف أن اللفظ موضوع له فإذا لم تكن أسماؤه متواطئة لم يفهم العباد من أسمائه شيئا أصلا إلا أن يعرفوا ما يخص ذاته وهم لم يعرفوا ما يخص ذاته فلم يعرفوا شيئا .

ثم إن العلم بانقسام الوجود إلى قديم ومحدث وأمثال ذلك علم ضروري فالقادح سوفسطائي . وكذلك العلم بأن بين الاسمين قدرا مشتركا علم ضروري . وإذا قيل : إن اللفظ حقيقة فيهما لم يحتج ذلك إلى أن يكون أهل اللغة قد تكلموا باللفظ مطلقا فعبروا عن المعنى المطلق المشترك ; فإن المعاني التي لا تكون إلا مضافة إلى غيرها : كالحياة والعلم والقدرة والاستواء ; بل واليد وغير ذلك مما لا يكون إلا صفة قائمة بغيره أو جسما قائما بغيره بحيث لا يوجد في الخارج مجردا عن محله . ولكن أهل النظر لما أرادوا تجريد المعاني الكلية المطلقة عبروا عنها بالألفاظ الكلية المطلقة وأهل اللغة في ابتداء خطابهم يقولون - مثلا - : جاء زيد وهذا وجه زيد ; ويشيرون إلى ما قام به من المجيء والوجه فيفهم المخاطب ذلك . [ ص: 211 ] ثم يقولون تارة أخرى : جاء عمرو ورأيت وجه عمرو وجاء الفرس ورأيت وجه الفرس فيفهم المستمع أن بين هذه قدرا مشتركا وقدرا مميزا وأن لعمرو مجيئا ووجها نسبته إليه كنسبة مجيء زيد ووجهه إليه فإذا علم أن عمرا مثل زيد علم أن مجيئه مثل مجيئه ووجهه مثل وجهه وإن علم أن الفرس ليست مثل زيد بل تشابهه من بعض الوجوه علم أن مجيئها ووجهها ليس مجيء زيد ووجهه بل تشبهه في بعض الوجوه . وكذلك إذا قيل : جاءت الملائكة ورأت الأنبياء وجوه الملائكة علم أن للملائكة مجيئا ووجوها نسبتها إليها كنسبة مجيء الإنسان ووجهه إليه ثم معرفته بحقيقة ذلك تبع معرفته بحقيقة الملائكة ; فإن كان لا يعرف الملائكة : إلا من جهة الجملة ولا يتصور كيفيتهم كان ذلك في مجيئهم ووجوههم لا يعرفها إلا من حيث الجملة ولا يتصور كيفيتها . وكذلك إذا قيل : جاءت الجن فاللفظ في جميع هذه المواضع يدل على معانيها بطريق الحقيقة بل إذا قيل : حقيقة الملك وماهيته ليست مثل حقيقة الجني وماهيته كان لفظ الحقيقة والماهية مستعملا فيهما على سبيل الحقيقة وكان من الأسماء المتواطئة مع أن المسميات قد صرح فيها بنفي التماثل . وكذلك إذا قيل خمر الدنيا ليس كمثل خمر الآخرة ولا ذهبها مثل ذهبها ولا لبنها مثل لبنها ولا [ ص: 212 ] عسلها مثل عسلها كان قد صرح في ذلك بنفي التماثل مع أن الاسم مستعمل فيها على سبيل الحقيقة . ونظائر هذا كثيرة ; فإنه لو قال القائل : هذا المخلوق ما هو مثل هذا المخلوق وهذا الحيوان الذي هو الناطق ليس مثل الحيوان الذي هو الصامت أو هذا اللون الذي هو الأبيض ليس مثل الأسود أو الموجود الذي هو الخالق ليس هو مثل الموجود الذي هو المخلوق ونحو ذلك كانت هذه الأسماء مستعملة على سبيل الحقيقة في المسميين الذين صرح بنفي التماثل بينهما فالأسماء المتواطئة إنما تقتضي أن يكون بين المسميين قدرا مشتركا وإن كان المسميان مختلفين أو متضادين .

فمن ظن أن أسماء الله تعالى وصفاته إذا كانت حقيقة لزم أن يكون مماثلا للمخلوقين وأن صفاته مماثلة لصفاتهم كان من أجهل الناس وكان أول كلامه سفسطة وآخره زندقة لأنه يقتضي نفي جميع أسماء الله تعالى وصفاته وهذا هو غاية الزندقة والإلحاد .

ومن فرق بين صفة وصفة مع تساويهما في أسباب الحقيقة والمجاز : كان متناقضا في قوله متهافتا في مذهبه مشابها لمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض .

وإذا تأمل اللبيب الفاضل هذه الأمور تبين له أن مذهب السلف والأئمة [ ص: 213 ] في غاية الاستقامة والسداد والصحة والاطراد وأنه مقتضى المعقول الصريح والمنقول الصحيح وأن من خالفه كان مع تناقض قوله المختلف الذي يؤفك عنه من أفك خارجا عن موجب العقل والسمع مخالفا للفطرة والسمع والله يتم نعمته علينا وعلى سائر إخواننا المسلمين المؤمنين ويجمع لنا ولهم خير الدنيا والآخرة . وهذا لا تعلق له بصفات الله تعالى قال بعضهم : قد قال الله تعالى : { واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا } فقد ذم الله من اتخذ إلها جسدا ; و " الجسد " هو الجسم ; فيكون الله قد ذم من اتخذ إلها هو جسم . وإثبات هذه الصفات يستلزم أن يكون جسما وهذا منتف بهذا الدليل الشرعي . فهذا خلاصة ما يقوله من يزعم أنه يعتمد في ذلك على الشرع فيقال له : هذا باطل من وجوه : ( أحدها أن هذا إذا دل إنما يدل على نفي أن يكون جسدا ; لا على نفي أن يكون جسما والجسم في اصطلاح هؤلاء - نفاة الصفات - أعم من الجسد . فإن الجسم ينقسم عندهم إلى كثيف ولطيف ; بخلاف الجسد . فإن أردت بقولك الجسم اللغوي - وهو الذي قال أهل اللغة إنه هو [ ص: 214 ] الجسد - قيل لك : لا يلزم من إثبات الاستواء على العرش أن يكون جسدا وهو الجسم اللغوي . فإنا نعلم بالضرورة أن الهواء يعلو على الأرض وليس هو بجسد ; والجسد هو الجسم اللغوي . فقول القائل : لو كان مستويا على العرش لكان جسما . والجسم هو الجسد والجسد منتف بالشرع : كلام ملبس . فإنه إن عنى بالجسم الجسد : كانت المقدمة الأولى ممنوعة ; فإن عاقلا لا يقول إنه لو كان فوق العرش لكان جسدا ; ولا يقول عاقل إنه لو كان له علم وقدرة : لكان جسدا ولا يقول عاقل : إنه لو كان يرى ويتكلم لكان جسدا وبدنا .

فإن الملائكة لهم علم وقدرة وترى وتتكلم وكذلك الجن وكذلك الهواء يعلو على غيره وليس بجسد . وإن عنى بالجسم ما يعنيه أهل الكلام ; من أنه الذي يشار إليه وجعلوا كل ما يشار إليه جسما وكل ما يرى جسما أو كل ما يمكن أنه يرى أو يوصف بالصفات فهو جسم أو كل ما يعلو على غيره ويكون فوقه فهو جسم . فيقال له : فالجسد والجسم بهذا التفسير الكلامي ليس هو جسدا في لغة العرب ; بل هو منقسم إلى غليظ ورقيق إلى ما هو جسد وإلى ما ليس بجسد . [ ص: 215 ] ولذا يقول الفقهاء : النجاسة إن كانت متجسدة كالميتة فحكمها كذا وإن كانت غير متجسدة كالبول فحكمها كذا . وإذا قدر أن الدليل على أنه ليس بجسد لم يلزم أن لا يكون جسما بهذا الاصطلاح ; لأن الجسم أعم عندهم من الجسد ولا يلزم من نفي الخاص نفي العام ; كما إذا قلت ليس هو بإنسان فإنه لا يلزم أنه ليس بحيوان . فلفظ الجسم فيه اشتراك بين معناه في اللغة ومعناه في عرف أهل الكلام ; فإذا كان معناه في اللغة هو معنى الجسد - وهذا منتف بما ذكر من الدليل - بطل قول من نفى الاستواء بالذات ; أو غيره من الصفات . بأنه لو كان موصوفا بذلك : لكان جسما فإن التلازم حينئذ منتف فإحدى المقدمتين باطلة ; إما الأولى وإما الثانية . ونظير هذا أن يقول : لو كان له علم وقدرة لكان محلا للأعراض وما كان محلا للأعراض فهو محل الآفات والعيوب فلا يكون قدوسا ولا سلاما لأن أهل اللغة قالوا : العرض بالتحريك ما يعرض للإنسان من مرض ونحوه فلو جاز أن تقوم به هذه لكان تعالى وتقدس معيبا ناقصا وهو سبحانه مقدس عن ذلك ; إذ هو السلام القدوس . فيقال : لفظ العرض مشترك بين ما ذكر من معناه في اللغة وبين معناه في عرف أهل الكلام فإن معناه - عند من يسمي العلم والقدرة [ ص: 216 ] مطلقا عرضا - ما قام بغيره كالحياة والعلم والقدرة والحركة . والسكون ونحو ذلك . وآخرون يقولون : هو ما لا يبقى زمانين . ويقولون : إن صفات الخالق باقية بخلاف ما يقوم بالمخلوقات من الصفات ; فإنها لا تبقى زمانين . والمقصود هنا : أنه إذا قال لو قام به العلم والقدرة لكان عرضا وما قام به العرض قامت به الآفات كلام فيه تلبيس ; فإن إحدى المقدمتين باطلة . فإن لفظ العرض إن فسر بالصفة فالمقدمة الثانية باطلة ; وإن فسر بما يعرض للإنسان من المرض ونحوه فالمقدمة الأولى باطلة . ونظير ذلك أن يقول : لو كان قد استوى على العرش لكان قد أحدث حدثا وقامت به الحوادث ; لأن الاستواء فعل حادث - كان بعد أن لم يكن - فلو قام به الاستواء لقامت به الحوادث ومن قامت به الحوادث فقد أحدث حدثا والله تعالى منزه عن ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم { لعن الله من أحدث حدثا أو آوى محدثا } ولقوله : { وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة } . فإنه يقال له : الحادث في اللغة ما كان بعد أن لم يكن والله تعالى يفعل ما يشاء ; فما من فعل يفعله إلا وقد حدث بعد أن لم يكن . [ ص: 217 ] وأما المحدثات التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم فهي المحدثات في الدين وهو أن يحدث الرجل بدعة في الدين لم يشرعها الله والإحداث في الدين مذموم من العباد والله يحدث ما يشاء لا معقب لحكمه . فاللفظ المشتبه المجمل إذا خص في الاستدلال وقع فيه الضلال والإضلال . وقد قيل إن أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء .

( الوجه الثاني ) في بيان بطلان ما ذكر من الاستدلال أن يقال : إن الله سبحانه منزه أن يكون من جنس شيء من المخلوقات : لا أجساد الآدميين ولا أرواحهم ولا غير ذلك من المخلوقات ; فإنه لو كان من جنس شيء من ذلك بحيث تكون حقيقته كحقيقته للزم أن يجوز على كل منهما ما يجوز على الآخر ويجب له ما يجب له ويمتنع عليه ما يمتنع عليه وهذا ممتنع ; لأنه يستلزم أن يكون القديم الواجب الوجود بنفسه ; غير قديم واجب الوجود بنفسه وأن يكون المخلوق الذي يمتنع غناه غنيا يمتنع افتقاره إلى الخالق ; وأمثال ذلك من الأمور المتناقضة والله تعالى نزه نفسه أن يكون له كفؤ أو مثل أو سمي أو ند .

فهذه الأدلة الشرعية والعقلية يعلم بها تنزه الله تعالى أن يكون من جنس أجساد الآدميين أو غيرها من المخلوقات ; لكن المستدل على ذلك بقوله : [ ص: 218 ] { واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار } استدل بحجة ضعيفة فإن " الجسد " وإن كان قد قال الجوهري وغيره : إن الجسد هو البدن يقال منه تجسد كما يقال : من الجسم تجسم والجسد أيضا الزعفران ونحوه من الصبغ وهو الدم أيضا . كما قال النابغة :

وما أريق على الأصنام من جسد

فليس المراد بالجسد في القرآن لا هذا ولا هذا فليس المراد من العجل أن له بدنا مثل بدن الآدميين ولا بدنا كأبدان البقر فإن العجل لم يكن كذلك والعرب تقول جسد به الدم يجسد جسدا إذا لصق به فهو جاسد وجسد .

قال الشاعر : -

ساعد به جسد مورس     من الدماء مائع ويبس

والجسد الأحمر والجسد ما أشبع صبغه من الثياب ; لكمال ما لصق به من الصبغ فاللفظ فيه معنى التكاثف والتلاصق ; ولهذا يقول الفقهاء نجاسة متجسدة وغير متجسدة وهو في القرآن يراد به الجسد المصمت المتلاصق المتكاثف أو الذي لا حياة فيه .

وقد ذكر الله تعالى لفظة الجسد في أربعة مواضع . فقال تعالى : { وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام } وقال تعالى : [ ص: 219 ] { وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب } وقال : { واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار } وقال تعالى : { فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار } كأنه عجل مصمت لا جوف له . وقد يقال : إنه لا حياة فيه خار خورة .

ولم يقل عجلا له جسد له بدن له جسم ; لأنه من المعلوم أن كل عجل له جسد هو بدنه وهو جسمه والعجل المعروف جسد فيه روح . والمقصود : أن ما أخرجه كان جسدا مصمتا لا روح فيه حتى تبين نقصه وأنه كان مسلوب الحياة والحركة .

وقد روي : أنه إنما خار خورة واحدة وقد يقال : إن أريد بالجسد المصمت أو الغليظ ونحوه فلم قيل إن ذلك ذكر لبيان نقصه من هذا الوجه ; بل من هذا الوجه ضلوا به وإنما كان النقص من جهة { أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا } وقد يقال : إذا كان لا حياة فيه فالنقص كان فيه من جهة عدم الحياة وغيرها من صفات الكمال ; لا من جهة كونه له بدن أو ليس له بدن ; فالآدمي له بدن .

ولو أخرج لهم عجلا كسائر العجول أو آدميا كاملا أو فرسا حيا أو جملا أو غير ذلك من الحيوان : لكان أيضا له بدن ولكن ذلك أعجوبة عظيمة وكانت الفتنة به أشد ; ولكن الله سبحانه بين أن المخرج كان موصوفا بصفات النقص يحقق ذلك .

[ ص: 220 ] ( الوجه الثالث ) : وهو أنه سبحانه قال : { ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا } فلم يذكر فيما عابه به كونه ذا جسد ; ولكن ذكر فيما عابه به { أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا } ولو كان مجرد كونه ذا بدن عيبا ونقصا لذكر ذلك .

فعلم أن الآية تدل على نقص حجة من يحتج بها على أن كون الشيء ذا بدن عيبا ونقصا وهذه الحجة نظير احتجاجهم بالأفول فإنهم غيروا معناه في اللغة وجعلوه الحركة فظنوا أن إبراهيم احتج بذلك على كونه ليس رب العالمين ولو كان كما ذكروه : لكان حجة عليهم لا لهم .

( الوجه الرابع ) : أن الله تعالى وصفه بكونه عجلا جسدا له خوار ثم قال : { ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا } وقال في السورة الأخرى : { فكذلك ألقى السامري } { فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي } { أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا } فلم يقتصر في وصفه على مجرد كونه جسدا . بل وصفه بأن له خوارا وبين أنه لا يكلمهم ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا .

فالموجب لنقصه إما أن يكون مجموع الصفات أو بعضها أو كل واحد منها ; فإن كان المجموع لم يدل على أن نقصها واحدة نقص وإن كان بعضها فليس كونه جسدا بأولى من كونه له خوار .

وليس هذا وهذا بأولى من كونه مسلوب [ ص: 221 ] التكلم والقدرة على النفع والضر وإن كان كل منهما ; فمعلوم أنهم إنما ضلوا بخواره ونحو ذلك . والله تعالى إنما احتج عليهم بعدم التكلم والقدرة على النفع والضر .

( الوجه الخامس ) : أنه ليس في القرآن دلالة على أن كونه جسدا وكونه له خوار صفة نقص ; وإنما الذي دل عليه القرآن أن كونه لا يكلمهم ولا يقدر على نفعهم وضرهم نقص يبين ذلك : أن الخوار هو الصوت والإنسان الذي يصوت ; ويقال : خار يخور الثور وهو يكلم غيره وقد يهديه السبيل .

والله سبحانه بين أن صفات العجل ناقصة عن صفات الإنسان الذي يكلم غيره ويهديه ; فالعابد أكمل من المعبود يبين هذا أنه لو كلمهم لكان أيضا مصوتا فلو كان ذكر الصوت لبيان نقصه لبطل الاستدلال بقوله تعالى : { ألم يروا أنه لا يكلمهم } فإن تكليمه لهم لو كلمهم إنما كان يكون بصوت يسمعونه منه .

فعلم أن ذكر التصويت لم يكن لكونه صفة نقص فكذلك ذكر الجسد . وبالجملة : من ذكر أن القرآن دل على هذا وهذا هو العيب الذي عابه به وجعله دليلا على نفي إلهيته ; فقد قال على القرآن ما لا يدل عليه ; بل هو على نقيضه أدل .

[ ص: 222 ] ( الوجه السادس ) : أن الله تعالى ذكر عن الخليل صلى الله عليه وسلم أنه قال : { يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا } وقال تعالى : { قال هل يسمعونكم إذ تدعون } { أو ينفعونكم أو يضرون } { قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون } فاحتج على نفي إلهيتها بكونها لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر ; مع كون كل منهما له بدن وجسم سواء كان حجرا أو غيره .

فلو كان مجرد هذا الاحتجاج كافيا لذكره إبراهيم الخليل وغيره من الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام ; بل إنما احتجوا بمثل ما احتج الله به من نفي صفات الكمال عنها : كالتكلم والقدرة والحركة وغير ذلك .

( الوجه السابع ) : أن يقال : ما ذكره الله تعالى إما أن يكون دالا على أن الإله سبحانه موصوف ببعض هذه الصفات ; وإما أن لا يدل . فإن لم يدل بطل ما ذكروه ; وإن دل فهو يدل على إثبات صفات الكمال لله تعالى وهو التكليم للعباد والسمع والبصر والقدرة والنفع والضر .

وهذا يقتضي أن تكون الآيات دليلا على إثبات الصفات ; لا على نفيها ، ونفاة الصفات إنما نفوها لزعمهم أن إثباتها يقتضي التجسيم والتجسيد . فالآيات التي احتجوا بها هي عليهم لا لهم .

وهذا أمر قد وجدناه مطردا في عامة ما يحتج به نفاة الصفات من الآيات فإنما تدل على نقيض مطلوبهم لا على مطلوبهم .

[ ص: 223 ] ( الوجه الثامن ) : أنه إذا كان كل جسم جسدا وكل ما عبد من دون الله تعالى من الشمس والقمر والكواكب والأوثان وغير ذلك : أجساما وهي أجساد فإن كان الله ذكر هذا في العجل لينفي به عنه الإلهية : لزم أن يطرد هذا الدليل في جميع المعبودات . ومعلوم أن الله لم يذكر هذا في غير العجل : أنه ذكر كونه جسدا لبيان سبب افتتانهم به لا أنه جعل ذلك هو الحجة عليهم ; بل احتج عليهم بكونه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا .

( الوجه التاسع ) : أنه سبحانه قال في الأعراف : { ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها } وللناس في هذه الآية قولان :

( أحدهما ) أنه وصفهم بهذه النقائص ليبين أن العابد أكمل من المعبود .

( الثاني ) أنه ذكر ذلك لأن المعبود يجب أن يكون موصوفا بنقيض هذه الصفات فإن قيل بالقول الأول أمكن أن يقال بمثله في آية العجل . فلا يكون فيه تعرض لصفات الإله ; وإن قيل بالثاني : وجب أن يتصف الرب تعالى بما نفاه عن الأصنام .

وحينئذ : فإن كانت هذه الأمور أجساما كانت هذه الدلالة معارضة [ ص: 224 ] لما ذكر في تلك الآية وإن لم تكن أجساما بطل نفيهم لها عن الله تعالى ; ووجب أن يوصف الله عز وجل بما جاء به الكتاب والسنة من الأيدي وغيرها ولا يجب أن تكون أجساما ولا يكون تجسيما وإذا لم يكن هذا تجسيما فإثبات العلو أولى أن لا يكون تجسيما فدل على أنه لا يكون تجسيما فدل على أن الشرع مناقض لما ذكروه .

( الوجه العاشر ) : أن يقال : دلالة الكتاب والسنة على إثبات صفات الكمال وأنه نفسه فوق العرش أعظم من أن تحصر ; كقوله : { إليه يصعد الكلم الطيب } وقوله : { بل رفعه الله إليه } وقوله : { تعرج الملائكة والروح إليه } وقوله : { إن الذين عند ربك } .

وقد قيل : إن ذلك يبلغ ثلاثمائة آية وهي دلائل جلية بينة مفهومة : من القرآن معقولة : من كلام الله تعالى . فإن كان إثبات هذا يستلزم أن يكون الله جسما وجسدا : لم يمكن دفع موجب هذه النصوص بما ذكر في قصة العجل ; لأنه ليس فيها أن مجرد كونه جسدا هو النقص - الذي عابه الله وجعله مانعا من إلهيته - وإن كان إثبات العلو والصفات لا يستلزم أن يكون جسما وجسدا بطل أصل كلامهم ; في - أن عمدتهم - أن إثبات العلو يقتضي التجسيم والتجسد ; فإذا سلموا أنه لا يستلزم التجسيم والتجسد ; لم يكن لهم دليل على نفي ذلك .

[ ص: 225 ] وحينئذ فإذا دلت قصة العجل أو غيرها على امتناع كون الرب تعالى جسدا أو جسما ; لم يكن بين النصوص منافاة ; بل يوصف بأنه نفسه فوق العرش وينفي عنه ما يجب نفيه عنه سبحانه وتعالى . والمقصود : أن الشرع ليس فيه ما يوافق النفاة للعلو وغيره من الصفات ; بوجه من الوجوه . والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية