صفحة جزء
[ ص: 193 ] وسئل رحمه الله تعالى هل يجوز شرب قليل ما أسكر كثيره من غير خمر العنب . كالصرماء والقمز والمزر ؟ أو لا يحرم إلا القدح الأخير ؟


فأجاب : الحمد لله . قد ثبت في الصحيحين { عن أبي موسى قال : قلت يا رسول الله أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن البتع وهو العسل ينبذ حتى يشتد . و المزر وهو من الذرة ينبذ حتى يشتد قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطي جوامع الكلم فقال : كل مسكر حرام } { وعن عائشة قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع وهو نبيذ العسل وكان أهل اليمن يشربونه فقال : كل شراب أسكر فهو حرام } وفي صحيح مسلم عن جابر { أن رجلا من اليمن سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وسلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له : المزر فقال : أمسكر هو ؟ قال : نعم . فقال : كل مسكر حرام إن على الله عهدا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال قالوا : يا رسول الله وما طينة الخبال ؟ قال : عرق أهل النار ; أو عصارة أهل النار }

. [ ص: 194 ] ففي هذه الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أشربة من غير العنب كالمزر وغيره فأجابهم بكلمة جامعة وقاعدة عامة : { إن كل مسكر حرام } وهذا يبين أنه أراد كل شراب كان جنسه مسكرا حرام سواء سكر منه أو لم يسكر كما في خمر العنب . ولو أراد بالمسكر القدح الأخير فقط لم يكن الشراب كله حراما ; ولكان بين لهم ; فيقول اشربوا منه ولا تسكروا . ولأنه { سألهم عن المزر أمسكر هو ؟ فقالوا : نعم . فقال . كل مسكر حرام } . فلما سألهم " أمسكر هو ؟ " إنما أراد يسكر كثيره كما يقال . الخبز يشبع ; والماء يروي وإنما يحصل الري والشبع بالكثير منه لا بالقليل . كذلك المسكر إنما يحصل السكر بالكثير منه فلما قالوا له : هو مسكر . قال : { كل مسكر حرام } فبين أنه أراد بالمسكر كما يراد بالمشبع والمروي ونحوهما ولم يرد آخر قدح ; وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { كل مسكر خمر ; وكل خمر حرام } وفي لفظ : { كل مسكر حرام } ومن تأوله على القدح الأخير لا يقول : إنه خمر والنبي صلى الله عليه وسلم جعل كل مسكر حراما .

وفي السنن عن النعمان بن بشير . قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن من الحنطة خمرا ومن الشعير خمرا ومن الزبيب خمرا ومن العسل خمرا } وفي الصحيح أن عمر بن الخطاب قال على منبر النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 195 ] : أما بعد أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة أشياء : من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير ; والخمر ما خامر العقل . والأحاديث في هذا الباب كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم تبين أن الخمر التي حرمها اسم لكل مسكر سواء كان من العسل أو التمر أو الحنطة أو الشعير ; أو لبن الخيل أو غير ذلك . وفي السنن عن عائشة ; قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { كل مسكر حرام وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام } قال الترمذي حديث حسن وقد روى أهل السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم { ما أسكر كثيره فقليله حرام } من حديث جابر وابن عمر ; وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وغيره وصححه الدارقطني وغيره .

وهذا الذي عليه جماهير أئمة المسلمين : من الصحابة والتابعين وأئمة الأمصار والآثار ولكن بعض علماء المسلمين سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في النبيذ ; وأن الصحابة كانوا يشربون النبيذ : فظنوا أنه السكر ; وليس كذلك ; بل النبيذ الذي شربه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة هو أنهم كانوا ينبذون التمر أو الزبيب أو نحو ذلك في الماء حتى يحلو فيشربه أول يوم وثاني يوم ; وثالث يوم ; ولا يشربه بعد ثلاث ; لئلا تكون الشدة قد بدت فيه ; وإذا اشتد قبل ذلك لم يشرب . وقد [ ص: 196 ] روى أهل السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها } وروي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم من أربعة أوجه وهذا يتناول من شرب هذه الأشربة التي يسمونها الصرماء وغير ذلك ; والأمر في ذلك واضح ; فإن خمر العنب قد أجمع المسلمون على تحريم قليلها وكثيرها ; ولا فرق في الحس ولا العقل بين خمر العنب والتمر والزبيب والعسل ; فإن هذا يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ; وهذا يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ; وهذا يوقع العداوة والبغضاء ; وهذا يوقع العداوة والبغضاء . والله سبحانه قد أمر بالعدل والاعتبار ; وهذا هو " القياس الشرعي " وهو التسوية بين المتماثلين ; فلا يفرق الله ورسوله بين شراب مسكر وشراب مسكر فيبيح قليل هذا ولا يبيح قليل هذا ; بل يسوي بينهما وإذا كان قد حرم القليل من أحدهما حرم القليل منهما ; فإن القليل يدعو إلى الكثير وأنه سبحانه أمر باجتناب الخمر ولهذا يؤمر بإراقتها ; ويحرم اقتناؤها وحكم بنجاستها ; وأمر بجلد شاربها ; كل ذلك حسما لمادة الفساد ; فكيف يبيح القليل من الأشربة المسكرة والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية