صفحة جزء
[ ص: 92 ] وسئل رحمه الله تعالى عن " الأخوة " التي يفعلها بعض الناس في هذا الزمان ، والتزام كل منهم بقوله : إن مالي مالك ، ودمي دمك ، وولدي ولدك ، ويقول الآخر كذلك ، ويشرب أحدهم دم الآخر : فهل هذا الفعل مشروع ، أم لا ؟ وإذا لم يكن مشروعا مستحسنا . فهل هو مباح ، أم لا ؟ وهل يترتب على ذلك شيء من الأحكام الشرعية التي تثبت بالأخوة الحقيقية ، أم لا ؟ وما معنى الأخوة التي آخى بها النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار ؟


فأجاب : الحمد لله رب العالمين . هذا الفعل على هذا الوجه المذكور ليس مشروعا باتفاق المسلمين ; وإنما كان أصل الأخوة أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين المهاجرين والأنصار ، وحالف بينهم في دار أنس بن مالك ، كما آخى بين سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف ، حتى قال سعد لعبد الرحمن : خذ شطر مالي ، واختر إحدى زوجتي حتى أطلقها وتنكحها فقال عبد الرحمن : بارك الله لك في مالك وأهلك ، دلوني على السوق . وكما آخى بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء . وهذا كله في الصحيح . [ ص: 93 ] وأما ما يذكر بعض المصنفين في " السيرة " من أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين علي وأبي بكر ، ونحو ذلك : فهذا باطل باتفاق أهل المعرفة بحديثه ; فإنه لم يؤاخ بين مهاجر ومهاجر ، وأنصاري وأنصاري ،

وإنما آخى بين المهاجرين والأنصار ، وكانت المؤاخاة والمحالفة يتوارثون بها دون أقاربهم ، حتى أنزل الله تعالى : { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } فصار الميراث بالرحم دون هذه المؤاخاة والمحالفة . وتنازع العلماء في مثل هذه المحالفة والمؤاخاة : هل يورث بها عند عدم الورثة من الأقارب والموالي ؟ على قولين : " أحدهما " يورث بها ، وهو مذهب أبي حنيفة ، وأحمد في إحدى الروايتين ، لقوله تعالى { والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } . " والثاني " لا يورث بها بحال ، وهو مذهب مالك ، والشافعي ، وأحمد في الرواية المشهورة عند أصحابه وهؤلاء يقولون هذه الآية منسوخة .

وكذلك تنازع الناس هل يشرع في الإسلام أن يتآخى اثنان ويتحالفا كما فعل المهاجرون والأنصار ؟ فقيل : إن ذلك منسوخ ، لما رواه مسلم في صحيحه عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا حلف في الإسلام وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة } ولأن الله قد جعل المؤمنين إخوة بنص القرآن ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم { المسلم أخو [ ص: 94 ] المسلم لا يسلمه ، ولا يظلمه ، والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحبه لنفسه } فمن كان قائما بواجب الإيمان كان أخا لكل مؤمن ، ووجب على كل مؤمن أن يقوم بحقوقه ، وإن لم يجر بينهما عقد خاص ; فإن الله ورسوله قد عقدا الأخوة بينهما بقوله : { إنما المؤمنون إخوة } وقال النبي صلى الله عليه وسلم { وددت أني قد رأيت إخواني } . ومن لم يكن خارجا عن حقوق الإيمان وجب أن يعامل بموجب ذلك ، فيحمد على حسناته ; ويوالى عليها ، وينهى عن سيئاته ، ويجانب عليها بحسب الإمكان ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم { انصر أخاك ظالما أو مظلوما قلت يا رسول الله أنصره مظلوما ، فكيف أنصره ظالما قال : تمنعه من الظلم ، فذلك نصرك إياه } . والواجب على كل مسلم أن يكون حبه وبغضه ، وموالاته ومعاداته : تابعا لأمر الله ورسوله . فيحب ما أحبه الله ورسوله ، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله ، ويوالي من يوالي الله ورسوله ، ويعادي من يعادي الله ورسوله . ومن كان فيه ما يوالى عليه من حسنات وما يعادى عليه من سيئات عومل بموجب ذلك ، كفساق أهل الملة ; إذ هم مستحقون للثواب والعقاب ، والموالاة والمعاداة ، والحب والبغض ; بحسب ما فيهم من البر والفجور ، فإن { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } { ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } . [ ص: 95 ]

وهذا مذهب أهل السنة والجماعة ، بخلاف الخوارج والمعتزلة ، وبخلاف المرجئة والجهمية ; فإن أولئك يميلون إلى جانب ، وهؤلاء إلى جانب . وأهل السنة والجماعة وسط . ومن الناس من يقول : تشرع تلك المؤاخاة والمحالفة ، وهو يناسب من يقول بالتوارث بالمحالفة . لكن لا نزاع بين المسلمين في أن ولد أحدهما لا يصير ولد الآخر بإرثه مع أولاده . والله سبحانه قد نسخ التبني الذي كان في الجاهلية حيث كان يتبنى الرجل ولد غيره ، قال الله تعالى : { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم } وقال تعالى : { ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين } . وكذلك لا يصير مال كل واحد منهما مالا للآخر يورث عنه ماله ; فإن هذا ممتنع من الجانبين ; ولكن إذا طابت نفس كل واحد منهما بما يتصرف فيه الآخر من ماله فهذا جائز ، كما كان السلف يفعلون ،

وكان أحدهما يدخل بيت الآخر ويأكل من طعامه مع غيبته ; لعلمه بطيب نفسه بذلك ، كما قال تعالى : { أو صديقكم } . وأما شرب كل واحد منهما دم الآخر . فهذا لا يجوز بحال ، وأقل ما في ذلك مع النجاسة التشبيه باللذين يتآخيان متعاونين على الإثم والعدوان : [ ص: 96 ] إما على فواحش ، أو محبة شيطانية ، كمحبة المردان ونحوهم ، وإن أظهروا خلاف ذلك من اشتراك في الصنائع ونحوها .

وإما تعاون على ظلم الغير ، وأكل مال الناس بالباطل ; فإن هذا من جنس مؤاخاة بعض من ينتسب إلى المشيخة والسلوك للنساء ، فيواخي أحدهم المرأة الأجنبية ، ويخلو بها . وقد أقر طوائف من هؤلاء بما يجري بينهم من الفواحش . فمثل هذه المؤاخاة وأمثالها مما يكون فيه تعاون على ما نهى الله عنه كائنا ما كان : حرام باتفاق المسلمين . وإنما النزاع في مؤاخاة يكون مقصودهما بها التعاون على البر والتقوى ، بحيث تجمعهما طاعة الله ، وتفرق بينهما معصية الله ، كما يقولون : تجمعنا السنة ، وتفرقنا البدعة . فهذه التي فيها النزاع . فأكثر العلماء لا يرونها ، استغناء بالمؤاخاة الإيمانية التي عقدها الله ورسوله ; فإن تلك كافية محصلة لكل خير ; فينبغي أن يجتهد في تحقيق أداء واجباتها ; إذ قد أوجب الله للمؤمن على المؤمن من الحقوق ما هو فوق مطلوب النفوس .

ومنهم من سوغها على الوجه المشروع إذا لم تشتمل على شيء من مخالفة الشريعة وإما أن تقال على المشاركة في الحسنات والسيئات ، فمن دخل منهما الجنة أدخل صاحبه ، ونحو ذلك مما قد يشرطه بعضهم على بعض : فهذه الشروط وأمثالها لا تصح ، ولا يمكن الوفاء بها ; فإن الشفاعة لا تكون [ ص: 97 ] إلا بإذن الله ، والله أعلم بما يكون من حالهما ، وما يستحقه كل واحد منهما ، فكيف يلزم المسلم ما ليس إليه فعله ، ولا يعلم حاله فيه ، ولا حال الآخر ولهذا نجد هؤلاء الذين يشترطون هذه الشروط لا يدرون ما يشرطون ; ولو استشعر أحدهم أنه يؤخذ منه بعض ماله في الدنيا فالله أعلم هل كان يدخل فيها ، أم لا ؟ وبالجملة فجميع ما يقع بين الناس من الشروط والعقود والمحالفات في الأخوة وغيرها ترد إلى كتاب الله وسنة رسوله ، فكل شرط يوافق الكتاب والسنة يوفى به ، و { من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل ; وإن كان مائة شرط . كتاب الله أحق ، وشرطه أوثق } فمتى كان الشرط يخالف شرط الله ورسوله كان باطلا : مثل أن يشترط أن يكون ولد غيره ابنه ، أو عتق غيره مولاه ، أو أن ابنه أو قريبه لا يرثه ، أو أنه يعاونه على كل ما يريد ، وينصره على كل من عاداه سواء كان بحق أو بباطل ، أو يطيعه في كل ما يأمره به ، أو أنه يدخله الجنة ويمنعه من النار مطلقا ، ونحو ذلك من الشروط . وإذا وقعت هذه الشروط وفى منها بما أمر الله به ورسوله ; ولم يوف منها بما نهى الله عنه ورسوله .

وهذا متفق عليه بين المسلمين . وفي المباحات نزاع وتفصيل ليس هذا موضعه . [ ص: 98 ] وكذا في شروط البيوع ، والهبات ، والوقوف ، والنذور ; وعقود البيعة للأئمة ; وعقود المشايخ ; وعقود المتآخيين ، وعقود أهل الأنساب والقبائل ، وأمثال ذلك ; فإنه يجب على كل أحد أن يطيع الله ورسوله في كل شيء ; ويجتنب معصية الله ورسوله في كل شيء ; ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق . ويجب أن يكون الله ورسوله أحب إليه من كل شيء ، ولا يطيع إلا من آمن بالله ورسوله . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية