صفحة جزء
[ ص: 99 ] باب حكم المرتد سئل شيخ الإسلام رضي الله عنه عن رجلين تكلما في " مسألة التأبير " فقال أحدهما : من نقص الرسول صلى الله عليه وسلم أو تكلم بما يدل على نقص الرسول كفر ; لكن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين ; فإن بعض العلماء قد يتكلم في مسألة باجتهاده فيخطئ فيها فلا يكفر ; وإن كان قد يكفر من قال ذلك القول إذا قامت عليه الحجة المكفرة ، ولو كفرنا كل عالم بمثل ذلك لزمنا أن نكفر فلانا - وسمى بعض العلماء المشهورين الذين لا يستحقون التكفير وهو الغزالي - فإنه ذكر في بعض كتبه تخطئة الرسول في مسألة تأبير النخل : فهل يكون هذا تنقيصا بالرسول بوجه من الوجوه ؟ وهل عليه في تنزيه العلماء من الكفر إذا قالوا مثل ذلك تعزير ، أم لا ؟ وإذا نقل ذلك وتعذر عليه في الحال نفس الكتاب الذي نقله منه وهو معروف بالصدق : فهل عليه في ذلك تعزير أم لا ؟ وسواء أصاب في النقل عن العالم أم أخطأ ؟ وهل يكون في ذلك تنقيص بالرسول صلى الله عليه وسلم ومن اعتدى على مثل هذا ، أو نسبه إلى تنقيص بالرسول ، أو العلماء ، وطلب عقوبته على ذلك : فما يجب عليه ؟ أفتونا مأجورين .


[ ص: 100 ] فأجاب : الحمد لله . ليس في هذا الكلام تنقص بالرسول صلى الله عليه وسلم بوجه من الوجوه باتفاق علماء المسلمين ، ولا فيه تنقص لعلماء المسلمين ; بل مضمون هذا الكلام تعظيم الرسول وتوقيره ، وأنه لا يتكلم في حقه بكلام فيه نقص ، بل قد أطلق القائل تكفير من نقص الرسول صلى الله عليه وسلم أو تكلم بما يدل على نقصه ، وهذا مبالغة في تعظيمه ; ووجوب الاحتراز من الكلام الذي فيه دلالة على نقصه . ثم هو مع هذا بين أن علماء المسلمين المتكلمين في الدنيا باجتهادهم لا يجوز تكفير أحدهم بمجرد خطأ أخطأه في كلامه ، وهذا كلام حسن تجب موافقته عليه ; فإن تسليط الجهال على تكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات ; وإنما أصل هذا من الخوارج والروافض الذين يكفرون أئمة المسلمين ; لما يعتقدون أنهم أخطئوا فيه من الدين .

وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ المحض ; بل كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس كل من يترك بعض كلامه لخطأ أخطأه يكفر ولا يفسق ; بل ولا يأثم ; فإن الله تعالى قال في دعاء المؤمنين : { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم { أن الله تعالى قال قد فعلت } واتفق علماء المسلمين على أنه لا يكفر أحد من علماء المسلمين المنازعين في عصمة الأنبياء ، والذين قالوا : إنه يجوز عليهم الصغائر والخطأ ولا يقرون [ ص: 101 ] على ذلك لم يكفر أحد منهم باتفاق المسلمين ; فإن هؤلاء يقولون : إنهم معصومون من الإقرار على ذلك ، ولو كفر هؤلاء لزم تكفير كثير من الشافعية ، والمالكية ، والحنفية ، والحنبلية ، والأشعرية ، وأهل الحديث ، والتفسير ، والصوفية : الذين ليسوا كفارا باتفاق المسلمين ; بل أئمة هؤلاء يقولون بذلك .

فالذي حكاه عن الشيخ أبي حامد الغزالي قد قال مثله أئمة أصحاب الشافعي أصحاب الوجوه الذين هم أعظم في مذهب الشافعي من أبي حامد ، كما قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني ، الذي هو إمام المذهب بعد الشافعي ، وابن سريج في تعليقه : وذلك أن عندنا أن النبي صلى الله عليه وسلم يجوز عليه الخطأ كما يجوز علينا ولكن الفرق بيننا أنا نقر على الخطأ والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقر عليه ، وإنما يسهو ليسن ، وروي عنه أنه قال : { إنما أسهو لأسن لكم } . وهذه المسألة قد ذكرها في أصول الفقه هذا الشيخ أبو حامد ، وأبو الطيب الطبري ، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي . وكذلك ذكرها بقية طوائف أهل العلم : من أصحاب مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأبي حنيفة . ومنهم من ادعى إجماع السلف على هذا القول ، كما ذكر ذلك عن أبي سليمان الخطابي ونحوه ; ومع هذا فقد اتفق المسلمون على أنه لا يكفر أحد من هؤلاء الأئمة ، ومن كفرهم بذلك استحق العقوبة الغليظة التي تزجره [ ص: 102 ] وأمثاله عن تكفير المسلمين ; وإنما يقال في مثال ذلك : قولهم صواب أو خطأ . فمن وافقهم قال : إن قولهم الصواب .

ومن نازعهم قال : إن قولهم خطأ ، والصواب قول مخالفهم . وهذا المسئول عنه كلامه يقتضي أنه لا يوافقهم على ذلك ; لكنه ينفي التكفير عنهم . ومثل هذا تجب عقوبة من اعتدى عليه ، ونسبه إلى تنقيص الرسول صلى الله عليه وسلم أو العلماء ; فإنه مصرح بنقيض هذا ، وهذا . وقد ذكر القاضي عياض هذه المسألة ، وهو من أبلغ القائلين بالعصمة ، قسم الكلام في هذا الباب ، إلى أن قال : " الوجه السابع " أن يذكر ما يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم ، ويختلف في إقراره عليه ، وما يطرأ من الأمور البشرية منه ويمكن إضافتها إليه . أو يذكر ما امتحن به وصبر في ذات الله على شدته من مقاساة أعدائه وأذاهم له ، ومعرفة ابتداء حاله ، وسيرته ، وما لقيه من بؤس زمنه ، ومر عليه من معانات عيشه ، كل ذلك على طريق الرواية ، ومذاكرة العلم ومعرفة ما صحت به العصمة للأنبياء ، وما يجوز عليهم . فقال : هذا فن خارج من هذه الفنون الستة ; ليس فيه غمض ولا نقص ولا إزراء ولا استخفاف ، ولا في ظاهر اللفظ ولا في مقصد اللافظ ; لكن يجب أن يكون الكلام مع أهل العلم ، وطلبة الدين ممن يفهم مقاصده ، ويحققون فوائده ; ويجنب ذلك ممن عساه لا يفقه ، أو يخشى به فتنة . [ ص: 103 ] وقد ذكر القاضي عياض قبل هذا : أن يقول القائل شيئا من أنواع السب حاكيا له عن غيره ، وآثرا له عن سواه . قال : فهذا ينظر في صورة حكايته ، وقرينة مقالته ; ويختلف الحكم باختلاف ذلك على " أربعة وجوه " الوجوب ، والندب ، والكراهة ، والتحريم .

ثم ذكر أنه يحمل من ذلك ما ذكره على وجه الشهادة ونحوها مما فيه إقامة الحكم الشرعي على القائل ، أو على وجه الرذالة والنقص على قائله ; بخلاف من ذكره لغير هذين . قال : وليس التفكه بعرض النبي صلى الله عليه وسلم والتمضمض بسوء ذكره لأحد لا ذاكرا ، ولا آثرا لغير غرض شرعي مباح . فقد تبين من كلام القاضي عياض أن ما ذكره هذا القائل ليس من هذا الباب ; فإنه من مسائل الخلاف ، وأن ما كان من هذا الباب ليس لأحد أن يذكره لغير غرض شرعي مباح . وهذا القائل إنما ذكر لدفع التكفير عن مثل الغزالي وأمثاله من علماء المسلمين ، ومن المعلوم أن المنع من تكفير علماء المسلمين الذين تكلموا في هذا الباب ; بل دفع التكفير عن علماء المسلمين وإن أخطئوا هو من أحق الأغراض الشرعية ; حتى لو فرض أن دفع التكفير عن القائل يعتقد أنه ليس بكافر حماية له ، ونصرا لأخيه المسلم : لكان هذا غرضا شرعيا حسنا ، وهو إذا اجتهد في ذلك فأصاب فله أجران ، وإن اجتهد فيه فأخطأ فله أجر واحد . [ ص: 104 ] فبكل حال هذا القائل محمود على ما فعل ، مأجور على ذلك ، مثاب عليه إذا كانت له فيه نية حسنة ; والمنكر لما فعله أحق بالتعزير منه ; فإن هذا يقتضي قوله القدح في علماء المسلمين من الكفر ، ومعلوم أن الأول أحق بالتعزير من الثاني إن وجب التعزير لأحدهما ، وإن كان كل منهما مجتهدا اجتهادا سائغا بحيث يقصد طاعة الله ورسوله بحسب استطاعته فلا إثم على واحد منهما ، وسواء أصاب في هذا النقل أو أخطأ فليس في ذلك تنقيص للنبي صلى الله عليه وسلم .

وكذلك أحضر النقل أو لم يحضره ; فإنه ليس في حضوره فائدة ; إذ ما نقله عن الغزالي قد قال مثله من علماء المسلمين من لا يحصي عددهم إلا الله تعالى ; وفيهم من هو أجل من الغزالي ; وفيهم من هو دونه . ومن كفر هؤلاء استحق العقوبة باتفاق المسلمين ; بل أكثر علماء المسلمين وجمهور السلف يقولون مثل ذلك ، حتى المتكلمون ، فإن أبا الحسن الأشعري قال : أكثر الأشعرية والمعتزلة يقولون بذلك ; ذكره في " أصول الفقه " وذكره صاحبه أبو عمرو بن الحاجب . والمسألة عندهم من الظنيات ; كما صرح بذلك الأستاذ أبو المعالي ، وأبو الحسن الآمدي ، وغيرهما ; فكيف يكفر علماء المسلمين في مسائل الظنون أم كيف يكفر جمهور علماء المسلمين ; أو جمهور سلف الأئمة وأعيان العلماء بغير حجة أصلا والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية