صفحة جزء
" وأيضا " فإذا كان المحلوف عليه بالطلاق فعل بر وإحسان : من صدقة أو عتاقة وتعليم علم ; وصلة رحم وجهاد في سبيل الله وإصلاح بين الناس [ ص: 300 ] ونحو ذلك من الأعمال الصالحة التي يحبها الله ويرضاها ; فإنه لما عليه من الضرر العظيم في الطلاق أعظم [ أن ] لا يفعل ذلك ; بل ولا يؤمر به شرعا ; لأنه قد يكون الفساد الناشئ من الطلاق أعظم من الصلاح الحاصل من هذه الأعمال . وهذه المفسدة هي التي أزالها الله ورسوله بقوله تعالى : { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم } وقوله صلى الله عليه وسلم { لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يأتي الكفارة } . فإن قيل : فهو الذي أوقع نفسه في أحد هذه الضرائر الثلاث فلا ينبغي له أن يحلف ؟ قيل : ليس في شريعتنا ذنب إذا فعله الإنسان لم يكن له مخرج منه بالتوبة إلا بضرر عظيم ; فإن الله لم يحمل علينا إصرا كما حمله على الذين من قبلنا . فهب هذا قد أتى كبيرة من الكبائر في حلفه بالطلاق ثم تاب من تلك الكبيرة فكيف يناسب أصول شريعتنا أن يبقى أثر ذلك الذنب عليه لا يجد منه مخرجا وهذا بخلاف الذي ينشئ الطلاق لا بالحلف عليه فإنه لا يفعل ذلك إلا وهو مريد الطلاق : إما لكراهة المرأة أو غضب عليها ونحو ذلك . وقد جعل الله الطلاق ثلاثة فإذا كان إنما يتكلم بالطلاق باختياره وله ذلك ثلاث مرات : كان وقوع الضرر بمثل هذا نادرا ; بخلاف الأول ; فإن مقصوده لم يكن الطلاق ; إنما كان أن [ ص: 301 ] يفعل المحلوف عليه أو لا يفعله ثم قد يأمره الشرع أو تضطره الحاجة إلى فعله أو تركه فيلزمه الطلاق بغير اختيار لا له ولا لسببه . " وأيضا " فإن الذي بعث الله تعالى به محمدا صلى الله عليه وسلم في " باب الأيمان " تخفيفها بالكفارة ; لا تثقيلها بالإيجاب أو التحريم . فإنهم كانوا في الجاهلية يرون الظهار طلاقا واستمروا على ذلك في أول الإسلام حتى ظاهر أوس بن الصامت من امرأته . " وأيضا " فالاعتبار بنذر اللجاج والغضب فإنه ليس بينهما من الفرق إلا ما ذكرناه وسنبين إن شاء الله عدم تأثيره . والقياس بإلغاء الفارق أصح ما يكون من الاعتبار باتفاق العلماء المعتبرين ; وذلك أن الرجل إذا قال : إن أكلت أو شربت فعلي أن أعتق عبدي أو فعلي أن أطلق امرأتي أو فعلي الحج أو فأنا محرم بالحج أو فمالي صدقة أو فعلي صدقة فإنه تجزئه كفارة يمين عند الجمهور كما قدمناه ; بدلالة الكتاب والسنة وإجماع الصحابة : فكذلك إذا قال إن أكلت هذا أو شربت هذا فعلي الطلاق . أو فالطلاق لي لازم . أو فامرأتي طالق . أو : فعبيدي أحرار ; فإن قوله علي الطلاق لا أفعل كذا أو الطلاق يلزمني لا أفعل كذا : فهو بمنزلة قوله علي الحج لا أفعل كذا أو الحج لي لازم لا أفعل كذا . وكلاهما يمينان محدثان ليستا مأثورتين عن العرب ولا معروفتين عن الصحابة ; وإنما [ ص: 302 ] المتأخرون صاغوا من هذه المعاني أيمانا وربطوا إحدى الجملتين بالأخرى كالأيمان التي كان المسلمون من الصحابة يحلفون بها وكانت العرب تحلف بها ; لا فرق بين هذا وهذا إلا أن قوله : إن فعلت فمالي صدقة . يقتضي وجوب الصدقة عند الفعل . وقوله : فامرأتي طالق . يقتضي وجود الطلاق . فالكلام يقتضي وقوع الطلاق بنفس الشرط وإن لم يحدث بعد هذا طلاقا ولا يقتضي وقوع الصدقة حتى يحدث صدقة . وجواب هذا الفرق الذي اعتمده الفقهاء المفرقون من " وجهين " " أحدهما " منع الوصف الفارق في بعض الأصول المقيس عليها وفي بعض صور الفروع المقيس عليها . " والثاني " بيان عدم التأثير . أما " الأول " فإنه إذا قال : إن فعلت كذا فمالي صدقة أو فأنا محرم أو فبعيري هدي . فالمعلق بالصفة وجود الصدقة والإحرام والهدي لا وجوبهما كما أن المعلق في قوله : فعبدي حر وامرأتي طالق . وجود الطلاق والعتق لا وجوبهما ; ولهذا اختلف الفقهاء من أصحابنا وغيرهم فيما إذا قال هذا : هدي وهذا صدقة لله : هل يخرج عن ملكه أو لا يخرج ؟ فمن قال يخرج عن ملكه فهو كخروج زوجته وعبده عن ملكه . وأكثر ما في الباب أن الصدقة [ ص: 303 ] والهدي يتملكهما الناس بخلاف الزوجة والعبد . وهذا لا تأثير له وكذلك لو قال : علي الطلاق لأفعلن كذا أو الطلاق يلزمني لأفعلن كذا فهو كقوله : علي الحج لأفعلن كذا فهو جعل المحلوف به هاهنا وجوب الطلاق ; لا وجوده كأنه قال : إن فعلت كذا فعلي أن أطلق . فبعض صور الحلف بالطلاق يكون المحلوف به صيغة وجوب . كما أن بعض صور الحلف بالنذر يكون المحلوف به صيغة وجود . و " أما الجواب الثاني " فنقول : هب أن المعلق بالفعل هنا وجود الطلاق والعتق والمعلق هناك وجوب الصدقة والحج والصيام والإهداء أليس موجب الشرط ثبوت هذا الوجوب ؟ بل يجزئه كفارة يمين كذلك عند الشرط لا يثبت هذا الوجوب بل يجزيه كفارة يمين عند وجوب الشرط فإن كان عند الشرط لا يثبت ذلك الوجوب كذلك عند الشرط لا يثبت هذا الوجود ; بل كما لو قال : هو يهودي أو نصراني أو كافر إن فعل كذا ; فإن المعلق هنا وجود الكفر عند الشرط ; ثم إذا وجد الشرط لم يوجد الكفر بالاتفاق ; بل يلزمه كفارة يمين أو لا يلزمه شيء . ولو قال ابتداء : هو يهودي أو نصراني أو كافر يلزمه الكفر ; بمنزلة قوله ابتداء : عبدي حر ; وامرأتي طالق ; وهذه البدنة هدي وعلي [ ص: 304 ] هدي ; وعلي صوم يوم الخميس . ولو علق الكفر بشرط يقصد وجوده كقوله : إذا هل الهلال فقد برئت من دين الإسلام لكان الواجب أنه يحكم بكفره ; لكن لا يناجز الكفر ; لأن توقيته دليل على فساد عقيدته . قيل : فالحلف بالنذر إنما عليه فيه الكفارة فقط قيل : مثله في الحلف بالعتق ; وكذلك الحلف بالطلاق كما لو قال فعلي أن أطلق امرأتي . ومن قال إنه إذا قال : فعلي أن أطلق امرأتي . لا يلزمه شيء . فقياس قوله في الطلاق لا يلزمه شيء ; ولهذا توقف طاوس في كونه يمينا . وإن قيل : إنه يخير بين الوفاء به والتكفير فكذلك هنا يخير بين الطلاق والعتق وبين التكفير فإن وطئ امرأته كان اختيارا للتكفير ; كما أنه في الظهار يكون مخيرا بين التكفير وبين تطليقها ; فإن وطئها لزمته الكفارة ; لكن في الظهار لا يجوز له الوطء حتى يكفر لأن الظهار منكر من القول وزور حرمها عليه . وأما هنا فقوله : إن فعلت فهي طالق . بمنزلة قوله : فعلي أن أطلقها . أو قال والله لأطلقنها . إن لم يطلقها فلا شيء عليه ; وإن طلقها فعليه كفارة يمين . يبقى أن يقال : هل تجب الكفارة على الفور إذا لم يطلقها حينئذ ؟ كما لو قال : والله لأطلقنها الساعة ولم يطلقها ؟ أو لا تجب إلا إذا عزم على إمساكها ؟ أو لا تجب حتى يوجد منه ما يدل على الرضا بها من قول أو فعل كالذي يخير [ ص: 305 ] بين فراقها وإمساكها لعيب ونحوه وكالمعتقة تحت عبده ؟ أو لا تجب بحال حتى يفوت الطلاق ؟ قيل الحكم في ذلك كما لو قال : فثلث مالي صدقة أو هدي ونحو ذلك والأقيس في ذلك أنه مخير بينهما على التراخي ما لم يوجد منه ما يدل على الرضا بأحدهما كسائر أنواع الخيار .

التالي السابق


الخدمات العلمية