صفحة جزء
وقد يقول كثير من علماء المسلمين أهل العلم والدين من الصحابة والتابعين وسائر أئمة المسلمين كالأربعة وغيرهم أقوالا باجتهادهم ; فهذه يسوغ [ ص: 367 ] القول بها ولا يجب على كل مسلم أن يلتزم إلا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ; فهذا شرع دخل فيه التأويل والاجتهاد وقد يكون في نفس الأمر موافقا للشرع المنزل فيكون لصاحبه أجران وقد لا يكون موافقا له ; لكن لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ; فإذا اتقى العبد الله ما استطاع آجره الله على ذلك وغفر له خطأه .

ومن كان هكذا لم يكن لأحد أن يذمه ولا يعيبه ولا يعاقبه ولكن إذا عرف الحق بخلاف قوله لم يجز ترك الحق الذي بعث الله به رسوله لقول أحد من الخلق وذلك هو الشرع المنزل من عند الله وهو الكتاب والسنة وهو دين الله ورسوله لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله لا يجاهدون على قول عالم ولا شيخ ولا متأول ; بل يجاهدون ليعبد الله وحده ويكون الدين له كما في المسند عن ابن عمر قال قال النبي صلى الله عليه وسلم { بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذل والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم } وقال تعالى { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال { قيل : يا رسول الله الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء : فأي ذلك في سبيل الله ؟ فقال من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله } . [ ص: 368 ]

فالمقصود بالجهاد أن لا يعبد أحد إلا الله ; فلا يدعو غيره ولا يصلي لغيره ولا يسجد لغيره ; ولا يصوم لغيره ولا يعتمر ولا يحج إلا إلى بيته ولا يذبح القرابين إلا له ولا ينذر إلا له ولا يحلف إلا به ولا يتوكل إلا عليه ولا يخاف إلا إياه ولا يتقي إلا إياه . فهو الذي لا يأتي بالحسنات إلا هو ولا يدفع السيئات إلا هو ولا يهدي الخلق إلا هو ; ولا ينصرهم إلا هو ولا يرزقهم إلا هو ولا يغنيهم إلا هو ولا يغفر ذنوبهم إلا هو قال تعالى : { وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون } { وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون } { وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون } { ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون } { ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون } . والله تعالى قد حرم الشرك كله وأن يجعل له ندا ; فلا يدعى غيره لا الملائكة ولا الأنبياء ولا الصالحون ولا الشمس ولا القمر ولا الكواكب ولا الأوثان ولا غير ذلك ; بل قد بين أن من اتخذ الملائكة والنبيين أربابا فهو كافر قال تعالى : { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون } { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } [ ص: 369 ] وقال تعالى : { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا } { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا } ذم الله سبحانه وتعالى لمن يدعو الملائكة والأنبياء وغيرهم من الصالحين وبين أن هؤلاء الذين يدعونهم لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويله وأنهم يتقربون إلى الله بالوسيلة وهي الأعمال الصالحة ويرجون رحمته ويخافون عذابه فكيف يدعون المخلوقين ويذرون الخالق

وقال تعالى : { أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا } وهو سبحانه وتعالى عليم بأحوال عباده رحيم بهم ; كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه رأى امرأة من السبي إذ رأت ولدا ألصقته ببطنها فقال : أترون هذه واضعة ولدها في النار ؟ قالوا : لا يا رسول الله قال : لله أرحم بعباده من هذه بولدها } وهو سبحانه سميع قريب قال الله تعالى : { قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب } وهو تعالى رحيم ودود . و " الود " اللطف والمحبة ; فهو يود عباده المؤمنين ويجعل لهم الود في القلوب كما قال تعالى : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا } قال ابن عباس وغيره : يحبهم ويحببهم إلى عباده . [ ص: 370 ] وهو سبحانه لا يشغله سمع عن سمع ولا تغلطه المسائل ولا يتبرم بإلحاح الملحين ; بل يحب من يدعوه ويتضرع إليه ويبغض من لا يدعوه قال النبي صلى الله عليه وسلم { : من لا يسأل الله يغضب عليه }

وقال تعالى { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } وقال تعالى تعالى : { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون } قال بعض الصحابة : يا رسول الله ربنا قريب فنناجيه ؟ أو بعيد فنناديه ؟ فأنزل الله هذه الآية . وهو سبحانه وتعالى ليس كالمخلوقين الذين ترفع إليهم الحوائج بالحجاب ; بل في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { يقول الله قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد : { الحمد لله رب العالمين } قال الله حمدني عبدي فإذا قال : { الرحمن الرحيم } قال الله : أثنى علي عبدي فإذا قال { مالك يوم الدين } قال الله : مجدني عبدي ; فإذا قال : { إياك نعبد وإياك نستعين } قال الله هذه الآية بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال : { اهدنا الصراط المستقيم } { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } قال هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل } . [ ص: 371 ] وهو سبحانه يتولى كلام عباده يوم القيامة كما جاء في الصحيح عن عدي بن حاتم أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه عز وجل ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا شيئا قدمه وينطر أشأم منه فلا يرى إلا شيئا قدمه وينظر أمامه فتستقبله النار فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق تمرة فليفعل فإن لم يجد فبكلمة طيبة } وهو سبحانه قريب ممن دعاه يتقرب ممن عبده وأطاعه كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : {

يقول الله تعالى : أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه وإن تقرب إلي شبرا تقربت منه ذراعا وإن تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة
} . والله سبحانه يولي عباده إحسانا وجودا وكرما ; لا لحاجة إليهم كما قال تعالى : { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا } ولا يحاسب العباد إلا هو وحده وهو الذي يجازيهم بأعمالهم { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } { ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } . وهو الذي يرزقهم ويعافيهم وينصرهم ويهديهم ; لا أحد غيره يفعل ذلك قال تعالى : { أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور } { أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور } وقال تعالى : { قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون } وأصح القولين في الآية أن معناه من ذا الذي يكلؤكم بدلا من الله ؟ من الذي يدفع الآفات عنكم التي تخافونها من الإنس والجن . والرسول هو الواسطة والسفير بينهم وبين الله عز وجل فهو الذي يبلغهم أمر الله ونهيه ووعده ووعيده وتحليله وتحريمه : فالحلال ما حلله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله والدين ما شرعه الله ورسوله ; وليس لأحد أن يخرج عن شيء مما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الشرع الذي يجب على ولاة الأمر إلزام الناس به ويجب على المجاهدين الجهاد عليه ويجب على كل واحد اتباعه ونصره .

وليس المراد بالشرع اللازم لجميع الخلق " حكم الحاكم " ولو كان الحاكم أفضل أهل زمانه ; بل حكم الحاكم العالم العادل يلزم قوما معينين تحاكموا إليه في قضية معينة ; لا يلزم جميع الخلق ولا يجب على عالم من علماء المسلمين أن يقلد حاكما لا في قليل ولا في كثير إذا كان قد عرف ما أمر الله به ورسوله ; بل لا يجب على آحاد العامة تقليد الحاكم في شيء ; بل له أن يستفتي من يجوز له استفتاؤه وإن لم يكن حاكما ومتى ترك العالم ما علمه من [ ص: 373 ] كتاب الله وسنة رسوله واتبع حكم الحاكم المخالف لحكم الله ورسوله كان مرتدا كافرا يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة قال تعالى : { المص } { كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين } { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون } . ولو ضرب وحبس وأوذي بأنواع الأذى ليدع ما علمه من شرع الله ورسوله الذي يجب اتباعه واتبع حكم غيره كان مستحقا لعذاب الله بل عليه أن يصبر وإن أوذي في الله فهذه سنة الله في الأنبياء وأتباعهم قال الله تعالى : { الم } { أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } { ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين } وقال تعالى : { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم } وقال تعالى : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب }

وهذا إذا كان الحاكم قد حكم في مسألة اجتهادية قد تنازع فيها الصحابة والتابعون فحكم الحاكم بقول بعضهم وعند بعضهم سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تخالف ما حكم به فعلى هذا عليه أن يتبع [ ص: 374 ] ما علم من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأمر بذلك ويفتي به ويدعو إليه ولا يقلد الحاكم . هذا كله باتفاق المسلمين . وإن ترك المسلم عالما كان أو غير عالم ما علم من أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لقول غيره كان مستحقا للعذاب قال تعالى : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } وإن كان ذلك الحاكم قد خفي عليه هذا النص - مثل كثير من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم تكلموا في مسائل باجتهادهم وكان في ذلك سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تخالف اجتهادهم - فهم معذورون لكونهم اجتهدوا و { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } ولكن من علم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجز له أن يعدل عن السنة إلى غيرها قال تعالى : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا } ومن اتبع ما بعث الله به رسوله كان مهديا منصورا بنصرة الله في الدنيا والآخرة كما قال تعالى : { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد }

وقال تعالى : { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين } { إنهم لهم المنصورون } { وإن جندنا لهم الغالبون } وإذا أصابت العبد مصيبة كانت بذنبه لا باتباعه للرسول صلى الله عليه وسلم بل باتباعه للرسول صلى الله عليه وسلم [ ص: 375 ] يرحم وينصر وبذنوبه يعذب ويخذل قال تعالى : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } ولهذا لما انهزم المسلمون يوم أحد وكانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم واستظهر عليهم العدو بين الله لهم أن ذلك بذنوبهم قال تعالى : { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم } وقال تعالى : { أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم } وبين سبحانه حكمة ابتلائهم فقال تعالى : { قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } { هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين } { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } { إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين } { وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين } وقال تعالى : { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } والله قدرها وقدر كل شيء .

لكن ما أصاب العبد من عافية ونصر ورزق فهو من إنعام الله عليه وإحسانه إليه فالخير كله من الله ; وليس للعبد من نفسه شيء بل هو فقير لا يملك [ ص: 376 ] لنفسه نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا : وما أصابه من مصيبة فبذنوبه والله تعالى يكفر ذنوب المؤمنين بتلك المصائب ويأجرهم على الصبر عليها ويغفر لمن استغفر ويتوب على من تاب قال النبي صلى الله عليه وسلم { ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا غم ولا حزن ولا أذى حتى الشوكة يشاكها ; إلا كفر الله بها من خطاياه } { ولما أنزل الله تعالى قوله : { من يعمل سوءا يجز به } قال أبو بكر : يا رسول الله قد جاءت قاصمة الظهر وأينا لم يعمل سوءا ؟ قال : يا أبا بكر ألست تنصب ؟ ألست تحزن ؟ ألست تصيبك اللأواء ؟ فذلك ما تجزون به } وقد قص الله علينا في القرآن أخبار الأنبياء وما أصابهم وما أصاب أتباعهم المؤمنين من الأذى في الله ثم إنه تعالى نصرهم وجعل العاقبة لهم وقص علينا ذلك لنعتبر به قال تعالى : { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } .

التالي السابق


الخدمات العلمية