صفحة جزء
و " السالمية " حلولية في الذات والصفات والقائلون بأن الحروف والأصوات القديمة حلت في الناس : حلولية في الصفات دون الذات . [ ص: 311 ] ومن هؤلاء من يقول أيضا : إن صفة العبد التي هي إيمانه قديم ; ومن هؤلاء من عدى ذلك إلى أقواله دون أفعاله ومنهم من قال : بل وأفعاله المأمور بها قديمة دون المنهي عنها ومنهم من توقف في المنهي عنها ومنهم من قال : بل جميع أفعال العباد قديمة : الخير والشر ; لأن ذلك شرع وقدر والشرع والقدر قديم ; ولم يفرق بين شرع الرب ومشروعه وبين قدره ومقدوره وهؤلاء يقولون : أفعال العباد قديمة ليست هي الحركات بل هي ما تنتجه الحركات ; كالذي يأتي يوم القيامة وهو ثواب أعمالهم . وقد صرح الأئمة - أحمد بن حنبل وغيره - : بأن ذلك كله مخلوق فهؤلاء أسرفوا في القول بقدم الأفعال لطرد قولهم في الإيمان . و " طائفة أخرى " قالوا : إذا كانت هذه الحروف التي هي أصوات مسموعة من العبد قديمة فكل الحروف المسموعة قديمة ; فقالوا : كلام الآدميين كله قديم إلا التأليف ومنهم من قال : والأصوات كلها قديمة حتى أصوات البهائم وحتى ما يخرج من بني آدم .

وقالوا أيضا : حركات اللسان بالقرآن قديمة وحركة البنان بكتابة القرآن قديمة . ومن هؤلاء من قال : " المداد " مخلوق ولكن شكل الحروف قديم ومنهم من توقف في المداد وقال : نسكت عنه وإن كان مخلوقا لكن لا يقال : إنه مخلوق ومنهم من قال : بل المداد قديم . ومن هؤلاء وغيرهم من قال بأن " أرواح العباد قديمة " فصاروا يقولون : [ ص: 312 ] روح العبد محدثة وكلامه قديم وصفاته القائمة به من إيمانه قديمة وإخوانهم يصرحون بأن أفعاله قديمة وهذا أعظم مما يوصف به الرب ; فإنه سبحانه قديم أزلي : وأما أفعاله فحادثة شيئا بعد شيء وكذلك كلامه لم يزل متكلما بمشيئته شيئا بعد شيء . وهؤلاء يقولون بقدم روح العبد وبقدم النور - نور الشمس والقمر ونور السراج ; وكل نور - فهؤلاء قولهم : بقدم أرواح العباد والأنوار : ضاهوا فيه قول المجوس " والفلاسفة الصابئين " الذين يشبهون المجوس ; فإن من الصابئين من يشبه المجوس كذلك قال الحسن البصري وغيره قالوا عن الصابئين : إنهم مثل المجوس . وهؤلاء صنف من الصابئين المشركين ليسوا في الصابئين الممدوحين في القرآن . والمقصود أن قول هؤلاء بقدم أرواح العباد و " نفوسهم " التي تفارق أبدانهم . من جنس قول الذين قالوا بقدم النفس كما تقدم لكن هؤلاء يجعلونها من الله ; إذ كان لا قديم عندهم إلا الله وصفاته وقولهم بقدم النور من جنس قول المجوس .

لكن النور أيضا عندهم من صفات الله . وهذه الأقوال بقدم روح العبد ; أو أقواله ; أو أفعاله ; أو أصواته ; أو قدم نور الشمس والقمر ونحو ذلك . كلها فروع على ذلك الأصل فإن " السلف " قالوا : القرآن كلام الله غير مخلوق . وظن طائفة أن مقصودهم أنه قديم لم يزل والقرآن حروف وأصوات فيكون قديما ; وهذا المسموع هو القرآن [ ص: 313 ] وليس إلا أصوات العباد بالقرآن فتكون قديمة ثم احتاجوا عند البحث إلى طرد أقوالهم . وكذلك في " الإيمان " لم يقل قط أحد من السلف - لا أحمد بن حنبل ولا غيره - إن شيئا من صفات العباد غير مخلوق ولا قديم ولا قالوا عن القرآن : قديم لكن أنكروا على من أطلق القول على " لفظ القرآن أو الإيمان " بأنه مخلوق ; فجاء هؤلاء ففهموا من كونه غير مخلوق أنه قديم وظنوا أنه إذا أنكر على من أطلق القول بأنه مخلوق يجيز أن يقال : إنه غير مخلوق وإنه قديم فقالوا : لفظ العبد وصوته قديم وإيمانه قديم .

ثم طردوا أقوالهم إلى ما ذكرناه وهذه الأمور قد بسط القول فيها في مواضع في عدة مسائل ; سأل عنها السائلون وأجيبوا في ذلك بأجوبة مبسوطة ليس هذا موضعها ; إذ المقصود : التنبيه على ما يحدث عن الأصل المبتدع . وأصل هذا كله حجة الجهمية على حدوث الأجسام : بأن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث فما يقوم به الكلام باختياره أو بمشيئته ولم يزل كذلك يجب أن يكون حادثا ; فلزمهم نفي كلام الرب وفعله بل وتعطيل ذاته ثم آل الأمر إلى جعل المخلوق قديما وتعطيل صفات الرب القديمة ; بل وذاته والله أعلم . وأصحاب هذا الأصل القائلون " بالجوهر الفرد " يقولون : إن نفس الأعيان التي في بدن الإنسان وغيره هي متقدمة الوجود لا يعلم حدوثها [ ص: 314 ] إلا بالدليل وهو الدليل على حدوث الأجسام وأنها لم تخل من الأعراض ويقولون : المعلوم بالمشاهدة حدوث التأليف فقط كما يقوله أولئك في كلام العبد وأن المحدث هو تأليف الحروف فقط .

والقائلون " بوحدة الوجود " يقولون نفس وجود العبد هو نفس وجود الرب وكل هذه الأقوال قد باشرت أصحابها - وهم من أعيان الناس - وجرى بيني وبينهم في ذلك ما يطول وصفه وهدى الله ما شاء الله من الخلق فانظر كيف اضطرب الناس في أنفسهم التي قيل لهم : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } . والمتفلسفة يقولون : مادة بدن الإنسان وسائر المواد قديمة أزلية وهذه الأقوال فيها مضاهاة لقول فرعون من بعض الوجوه وأصحاب " الوحدة " يصرحون بتعظيم فرعون وأنه صدق في قوله : { أنا ربكم الأعلى } ففي تثنية الله لقصة فرعون في القرآن عبرة ; فإن الناس محتاجون إلى الاعتبار بها كما قال : { فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين } .

التالي السابق


الخدمات العلمية