صفحة جزء
[ ص: 351 ] وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه السلام على النبي ورحمة الله وبركاته السلام على جيرانه سكان " المدينة طيبة " من الأحياء والأموات من المهاجرين والأنصار وسائر المؤمنين ورحمة الله وبركاته . إلى الشيح الإمام العارف الناسك المقتدي الزاهد العابد : شمس الدين كتب الله في قلبه الإيمان وأيده بروح منه وآتاه رحمة من عنده وعلمه من لدنه علما وجعله من أوليائه المتقين وحزبه المفلحين وخاصته المصطفين ورزقه اتباع نبيه باطنا وظاهرا واللحاق به في الدنيا والآخرة إنه ولي ذلك والقادر عليه - من أحمد بن تيمية : سلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

أما بعد : فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو وهو للحمد أهل : وهو على كل شيء قدير ونسأله أن يصلي على صفوته من خلقه وخيرته من بريته النبي الأمي " محمد " وعلى آله وسلم تسليما . [ ص: 352 ] كتابي إليك - أحسن الله إليك في الدنيا والآخرة إحسانا ينيلك به عالي الدرجات في خير وعافية عن نعمة من الله ورحمة وعافية شاملة لنا ولسائر إخواننا - والحمد لله رب العالمين كثيرا كما هو أهله وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله . وقد وصل ما أرسلته من الكتب الثلاثة ونحن نسأل الله تعالى ونرجو منه أن يكون ما قضاه وقدره من مرض ونحوه من مصائب الدنيا مبلغا لدرجات قصر العمل عنها وسبق في أم الكتاب أنها ستنال وأن تكون الخيرة فيما اختاره الله لعباده المؤمنين . وقد علمنا من حيث العموم أن الله تعالى لا يقضي للمؤمن من قضاء إلا كان خيرا له وأن النية وإن كانت متشوقة إلى أمر حجز عنه المرض فإن الخيرة - إن شاء الله تعالى - فيما أراده الله والله تعالى يخير لكم في جميع الأمور خيرة تحصل لكم رضوان الله في خير وعافية وما تشتكي من مصيبة في القلب والدين نسأل الله أن يتولاكم بحسن رعايته توليا لا يكلكم فيه إلى أحد من المخلوقين ويصلح لكم شأنكم كله صلاحا يكون بدؤه منه وإتمامه عليه ويحقق لكم مقام { إياك نعبد وإياك نستعين } ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم . مع أنا نرجو أن تكون رؤية التقصير وشهادة التأخير من نعمة الله على عبده المؤمن التي يستوجب بها التقدم ويتم له بها النعمة ويكفي بها مؤنة شيطانه المزين له سوء عمله ومؤنة نفسه التي تحب أن تحمد بما لم تفعل وتفرح [ ص: 353 ] بما أتت .

وقد قال سبحانه : { إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون } { والذين هم بآيات ربهم يؤمنون } - إلى قوله - { أنهم إلى ربهم راجعون } . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { هو الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه } وفي الأثر - أظنه عن عمر بن الخطاب أو عن ابن مسعود - : من قال : إنه مؤمن فهو كافر ومن قال إنه في الجنة فهو في النار . وقال : والذي لا إله غيره ما أمن أحد على إيمان يسلبه عند الموت ألا يسلبه . وقال أبو العالية : أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه . وقال الصديق - رضي الله عنه - إن الله ذكر أهل الجنة فذكرهم بأحسن أعمالهم وغفر لهم سيئها فيقول الرجل : أين أنا من هؤلاء يعني : وهو منهم وذكر أهل النار بأقبح أعمالهم وأحبط حسنها فيقول القائل لست من هؤلاء ؟ يعني : وهو منهم . هذا الكلام أو قريبا منه . فليبرد القلب من وهج حرارة هذه الشهادة إنها سبيل مهيع لعباد الله الذين أطبق شهداء الله في أرضه أنهم كانوا من الله بالمكانة العالية مع أن الازدياد من مثل هذه الشهادة هو النافع في الأمر الغالب ما لم يفض إلى تسخط للمقدور أو يأس من روح الله ; أو فتور عن الرجاء ; والله تعالى يتولاكم بولاية منه ولا يكلكم إلى أحد غيره .

[ ص: 354 ] وأما ما ذكرت من طلب الأسباب الأربعة التي لا بد فيها من صرف الكلام من حقيقته إلى مجازه فأنا أذكر ملخص الكلام الذي جرى بيني وبين بعض الناس في ذلك وهو ما حكيته لك وطلبته وكان إن شاء الله له ولغيره به منفعة على ما في الحكاية من زيادة ونقص وتغيير . قال لي بعض الناس : إذا أردنا أن نسلك طريق سبيل السلامة والسكوت وهي الطريقة التي تصلح عليها السلامة قلنا كما قال الشافعي - رضي الله عنه - : آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله وآمنت برسول الله وما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وإذا سلكنا سبيل البحث والتحقيق فإن الحق مذهب من يتأول آيات الصفات وأحاديث الصفات من المتكلمين . فقلت له :

أما ما قاله الشافعي فإنه حق يجب على كل مسلم أن يعتقده ومن اعتقده ولم يأت بقول يناقضه فإنه سالك سبيل السلامة في الدنيا والآخرة وأما إذا بحث الإنسان وفحص وجد ما يقوله المتكلمون من التأويل الذي يخالفون به أهل الحديث كله باطلا وتيقن أن الحق مع أهل الحديث ظاهرا وباطنا . فاستعظم ذلك وقال : أتحب لأهل الحديث أن يتناظروا في هذا ؟ فتواعدنا يوما فكان فيما تفاوضنا : أن أمهات المسائل التي خالف فيها متأخرو المتكلمين - ممن ينتحل مذهب الأشعري - لأهل الحديث " ثلاث مسائل " [ ص: 355 ] وصف الله بالعلو على العرش . ومسألة القرآن . ومسألة تأويل الصفات .

فقلت له : نبدأ بالكلام على " مسألة تأويل الصفات " فإنها الأم والباقي من المسائل فرع عليها وقلت له : مذهب " أهل الحديث " وهم السلف من القرون الثلاثة ومن سلك سبيلهم من الخلف : أن هذه الأحاديث تمر كما جاءت ويؤمن بها وتصدق وتصان عن تأويل يفضي إلى تعطيل وتكييف يفضي إلى تمثيل . وقد أطلق غير واحد ممن حكى إجماع السلف - منهم الخطابي - مذهب السلف : أنها تجري على ظاهرها مع نفي الكيفية والتشبيه عنها ; وذلك أن الكلام في " الصفات " فرع على الكلام في " الذات " يحتذى حذوه ويتبع فيه مثاله ; فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية ; فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية فنقول إن له يدا وسمعا ولا نقول إن معنى اليد القدرة ومعنى السمع العلم . فقلت له : وبعض الناس يقول : " مذهب السلف " أن الظاهر غير مراد ويقول : أجمعنا على أن الظاهر غير مراد وهذه العبارة خطأ : إما لفظا ومعنى أو لفظا لا معنى ; لأن الظاهر قد صار مشتركا بين شيئين : [ ص: 356 ] ( أحدهما أن يقال : إن اليد جارحة مثل جوارح العباد وظاهر الغضب غليان القلب لطلب الانتقام وظاهر كونه في السماء أن يكون مثل الماء في الظرف فلا شك أن من قال : إن هذه المعاني وشبهها من صفات المخلوقين ونعوت المحدثين غير مراد من الآيات والأحاديث فقد صدق وأحسن ; إذ لا يختلف أهل السنة أن الله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ; بل أكثر أهل السنة من أصحابنا وغيرهم يكفرون المشبهة والمجسمة .

لكن هذا القائل أخطأ حيث ظن أن هذا المعنى هو الظاهر من هذه الآيات والأحاديث ; وحيث حكي عن السلف ما لم يقولوه ; فإن " ظاهر الكلام " هو ما يسبق إلى العقل السليم منه لمن يفهم بتلك اللغة ثم قد يكون ظهوره بمجرد الوضع وقد يكون بسياق الكلام ; وليست " هذه المعاني " المحدثة المستحيلة على الله تعالى هي السابقة إلى عقل المؤمنين بل اليد عندهم كالعلم والقدرة والذات فكما كان علمنا وقدرتنا وحياتنا وكلامنا ونحوها من الصفات أعراضا تدل على حدوثنا يمتنع أن يوصف الله سبحانه بمثلها ; فكذلك أيدينا ووجوهنا ونحوها أجساما كذلك محدثة يمتنع أن يوصف الله تعالى بمثلها . ثم لم يقل أحد من أهل السنة : إذا قلنا إن لله علما وقدرة وسمعا وبصرا إن ظاهره غير مراد ثم يفسر بصفاتنا . فكذلك لا يجوز أن يقال : إن ظاهر اليد والوجه غير مراد ; إذ لا فرق بين ما هو من صفاتنا جسم أو عرض للجسم . [ ص: 357 ] ومن قال : إن ظاهر شيء من أسمائه وصفاته غير مراد فقد أخطأ ; لأنه ما من اسم يسمى الله تعالى به إلا والظاهر الذي يستحقه المخلوق غير مراد به فكان قول هذا القائل يقتضي أن يكون جميع أسمائه وصفاته قد أريد بها ما يخالف ظاهرها ولا يخفى ما في هذا الكلام من الفساد .

( والمعنى الثاني : أن هذه الصفات إنما هي صفات الله سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله نسبتها إلى ذاته المقدسة كنسبة صفات كل شيء إلى ذاته فيعلم أن العلم صفة ذاتية للموصوف ولها خصائص وكذلك الوجه . ولا يقال : إنه مستغن عن هذه الصفات ; لأن هذه الصفات واجبة لذاته و " الإله " المعبود سبحانه هو المستحق لجميع هذه الصفات . وليس غرضنا الآن الكلام مع نفاة الصفات مطلقا وإنما الكلام مع من يثبت بعض الصفات . وكذلك " فعله " نعلم أن الخلق هو إبداع الكائنات من العدم وإن كنا لا نكيف ذلك الفعل ولا يشبه أفعالنا إذ نحن لا نفعل إلا لحاجة إلى الفعل والله غني حميد . وكذلك " الذات " تعلم من حيث الجملة وإن كانت لا تماثل الذوات المخلوقة ولا يعلم ما هو إلا هو ولا يدرك لها كيفية فهذا هو الذي يظهر من إطلاق هذه الصفات وهو الذي يجب أن تحمل عليه . [ ص: 358 ] فالمؤمن يعلم أحكام هذه الصفات وآثارها وهو الذي أريد منه فيعلم أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما وأن الأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه وأن المؤمنين ينظرون إلى وجه خالقهم في الجنة ويتلذذون بذلك لذة ينغمر في جانبها جميع اللذات ونحو ذلك . كما يعلم أن له ربا وخالقا ومعبودا ولا يعلم كنه شيء من ذلك ; بل غاية علم الخلق هكذا : يعلمون الشيء من بعض الجهات ولا يحيطون بكنهه وعلمهم بنفوسهم من هذا الضرب . قلت له : أفيجوز أن يقال : إن " الظاهر غير مراد " بهذا التفسير ؟ فقال : هذا لا يمكن . فقلت له : من قال : إن الظاهر غير مراد بمعنى أن صفات المخلوقين غير مرادة قلنا له : أصبت في " المعنى " لكن أخطأت في " اللفظ " وأوهمت البدعة وجعلت للجهمية طريقا إلى غرضهم وكان يمكنك أن تقول : تمر كما جاءت على ظاهرها مع العلم بأن صفات الله تعالى ليست كصفات المخلوقين وأنه منزه مقدس عن كل ما يلزم منه حدوثه أو نقصه .

ومن قال : " الظاهر غير مراد " بالتفسير الثاني - وهو مراد الجهمية ومن تبعهم من المعتزلة وبعض الأشعرية وغيرهم - فقد أخطأ . ثم أقرب هؤلاء " الجهمية " الأشعرية يقولون : إن له صفات سبعا : الحياة [ ص: 359 ] والعلم والقدرة والإرادة والكلام والسمع والبصر . وينفون ما عداها وفيهم من يضم إلى ذلك " اليد " فقط ومنهم من يتوقف في نفي ما سواها وغلاتهم يقطعون بنفي ما سواها . وأما " المعتزلة " فإنهم ينفون الصفات مطلقا ويثبتون أحكامها وهي ترجع عند أكثرهم إلى أنه عليم قدير وأما كونه مريدا متكلما فعندهم أنها صفات حادثة أو إضافية أو عدمية . وهم أقرب الناس إلى " الصابئين الفلاسفة " من الروم ومن سلك سبيلهم من العرب والفرس حيث زعموا : أن الصفات كلها ترجع إلى سلب أو إضافة ; أو مركب من سلب وإضافة ; فهؤلاء كلهم ضلال مكذبون للرسل .

ومن رزقه الله معرفة ما جاءت به الرسل وبصرا نافذا وعرف حقيقة مأخذ هؤلاء علم قطعا أنهم يلحدون في أسمائه وآياته وأنهم كذبوا بالرسل وبالكتاب وبما أرسل به رسله ; ولهذا كانوا يقولون : إن البدع مشتقة من الكفر وآيلة إليه ويقولون : إن المعتزلة مخانيث الفلاسفة ; والأشعرية مخانيث المعتزلة . وكان يحيى بن عمار يقول : المعتزلة الجهمية الذكور والأشعرية الجهمية الإناث . ومرادهم الأشعرية الذين ينفون الصفات الخبرية وأما من قال منهم بكتاب " الإبانة " الذي صنفه الأشعري في آخر عمره ولم يظهر مقالة تناقض ذلك فهذا يعد من أهل السنة ; لكن مجرد الانتساب إلى الأشعري بدعة [ ص: 360 ] لا سيما وأنه بذلك يوهم حسنا بكل من انتسب هذه النسبة وينفتح بذلك أبواب شر والكلام مع هؤلاء الذين ينفون ظاهرها بهذا التفسير .

التالي السابق


الخدمات العلمية