صفحة جزء
[ ص: 519 ] سئل شيخ الإسلام عن الغلاء والرخص : هل هما من الله تعالى أم لا ؟


فأجاب : جميع ما سوى الله من الأعيان وصفاتها وأحوالها مخلوقة لله مملوكة لله هو ربها وخالقها ومليكها ومدبرها لا رب لها غيره ولا إله سواه ; له الخلق والأمر لا شريك له في شيء من ذلك ولا معين ; بل هو كما قال سبحانه : { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير } { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له }

. أخبر سبحانه أن ما يدعى من دونه ليس له مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا شرك في ملك ولا إعانة على شيء . وهذه الوجوه الثلاثة : هي التي ثبت بها حق الغير ; فإنه إما أن يكون مالكا للشيء مستقلا بملكه أو يكون مشاركا له فيه نظير أو لا ذا ولا ذاك فيكون معينا لصاحبه : كالوزير والمشير والمعلم والمنجد والناصر فبين سبحانه أنه ليس لغيره ملك لمثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا لغيره شرك في ذلك لا قليل ولا كثير ; فلا [ ص: 520 ] يملكون شيئا ; ولا لهم شرك في شيء ; ولا له سبحانه ظهير : وهو المظاهر المعاون فليس له وزير ولا مشير ولا ظهير .

وهذا كما قال سبحانه : { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا } فإن المخلوق يوالي المخلوق لذله ; فإذا كان له من يواليه عز بوليه ; والرب تعالى لا يوالي أحدا لذلته تعالى بل هو العزيز بنفسه و { من كان يريد العزة فلله العزة جميعا } وإنما يوالي عباده المؤمنين لرحمته ونعمته وحكمته وإحسانه وجوده وفضله وإنعامه .

وحينئذ : فالغلاء بارتفاع الأسعار ; والرخص بانخفاضها هما من جملة الحوادث التي لا خالق لها إلا الله وحده ; ولا يكون شيء منها إلا بمشيئته وقدرته ; لكن هو سبحانه قد جعل بعض أفعال العباد سببا في بعض الحوادث كما جعل قتل القاتل سببا في موت المقتول ; وجعل ارتفاع الأسعار قد يكون بسبب ظلم العباد وانخفاضها قد يكون بسبب إحسان بعض الناس ولهذا أضاف من أضاف من القدرية المعتزلة وغيرهم الغلاء والرخص إلى بعض الناس وبنوا على ذلك أصولا فاسدة : ( أحدها : أن أفعال العباد ليست مخلوقة لله تعالى . [ ص: 521 ]

و ( الثاني : إنما يكون فعل العبد سببا له يكون العبد هو الذي أحدثه . و ( الثالث : أن الغلاء والرخص إنما يكون بهذا السبب . وهذه الأصول باطلة ; فإنه قد ثبت أن الله خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها ; ودلت على ذلك الدلائل الكثيرة السمعية والعقلية وهذا متفق عليه بين سلف الأمة وأئمتها ; وهم مع ذلك يقولون : إن العباد لهم قدرة ومشيئة وإنهم فاعلون لأفعالهم ; ويثبتون ما خلقه الله من الأسباب وما خلق الله من الحكم .

و " مسألة القدر " مسألة عظيمة ضل فيها طائفتان من الناس " طائفة " أنكرت أن يكون الله خالقا لكل شيء ; وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن كما أنكرت ذلك المعتزلة . و " طائفة " أنكرت أن يكون العبد فاعلا لأفعاله ; وأن تكون لهم قدرة لها تأثير في مقدورها ; أو أن يكون في المخلوقات ما هو سبب لغيره وأن يكون الله خلق شيئا لحكمة كما أنكر ذلك الجهم بن صفوان ومن اتبعه من المجبرة الذين نسب كثير منهم إلى السنة ; والكلام على هذه المسألة مبسوط في مواضع أخر .

و ( الأصل الثاني : وهو إنما كان فعل العبد أحد أسبابه : كالشبع [ ص: 522 ] الذي يكون بسبب الأكل وزهوق النفس الذي يكون بالقتل فهذا قد جعله أكثر المعتزلة فعلا للعبد والجبرية لم يجعلوا لفعل العبد فيه تأثيرا بل ما تيقنوا أنه سبب قالوا : إنه عنده لا به وأما السلف والأئمة فلا يجعلون العبد فاعلا لذلك كفعله لما قام به من الحركات فلا يمنعون أن يكون مشاركا في أسبابه وأن يكون الله جعل فعل العبد مع غيره أسبابا في حصول مثل ذلك .

وقد ذكر الله في كتابه النوعين بقوله : { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين } { ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون } والإنفاق والسير هو نفس أعمالهم القائمة بهم فقال فيها : إلا كتب لهم ولم يقل إلا كتب لهم به عمل صالح فإنها نفسها عمل فنفس كتابتها يحصل به المقصود بخلاف الظمأ والنصب والجوع الحاصل بغير الجهاد بخلاف غيظ الكفار بما نيل منهم فإن هذه ليست نفس أفعالهم وإنما هي حادثة عن أسباب منها : أفعالهم فلهذا قال تعالى : { إلا كتب لهم به عمل صالح }

. فتبين أن ما يحدث من الآثار عن أفعال العباد لهم بها عمل ; لأن أفعالهم كانت سببا فيها كما قال صلى الله عليه وسلم { من دعا إلى هدى كان له من [ ص: 523 ] الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيء }

. و ( الأصل الثالث : أن الغلاء والرخص لا تنحصر أسبابه في ظلم بعض بل قد يكون سببه قلة ما يخلق أو يجلب من ذلك المال المطلوب فإذا كثرت الرغبات في الشيء وقل المرغوب فيه : ارتفع سعره فإذا كثر وقلت الرغبات فيه انخفض سعره والقلة والكثرة قد لا تكون بسبب من العباد وقد تكون بسبب لا ظلم فيه وقد تكون بسبب فيه ظلم والله تعالى يجعل الرغبات في القلوب . فهو سبحانه كما جاء في الأثر : قد تغلوا الأسعار والأهواء غرار وقد ترخص الأسعار والأهواء فقار .

التالي السابق


الخدمات العلمية