صفحة جزء
الوجه الرابع أن الله جعل لابن آدم من الحس الظاهر والباطن ما يحس به الأشياء ويعرفها ; فيعرف بسمعه وبصره وشمه وذوقه ولمسه الظاهر ما يعرف ويعرف أيضا بما يشهده ويحسه بنفسه وقلبه ما هو أعظم من ذلك . فهذه هي الطرق التي تعرف بها الأشياء فأما الكلام فلا يتصور أن يعرف بمجرده مفردات الأشياء إلا بقياس تمثيل أو تركيب ألفاظ وليس شيء من ذلك يفيد تصور الحقيقة .

فالمقصود أن الحقيقة : إن تصورها بباطنه أو ظاهره استغنى عن الحد القولي وإن لم يتصورها بذلك امتنع أن يتصور حقيقتها بالحد القولي . وهذا أمر محسوس يجده الإنسان من نفسه . فإن من عرف المحسوسات المذوقة [ ص: 48 ] - مثلا - كالعسل : لم يفده الحد تصورها . ومن لم يذق ذلك كمن أخبر عن السكر - وهو لم يذقه - لم يمكن أن يتصور حقيقته بالكلام والحد بل يمثل له ويقرب إليه ويقال له : طعمه يشبه كذا أو يشبه كذا وكذا وهذا التشبيه والتمثيل ليس هو الحد الذي يدعونه .

وكذلك المحسوسات الباطنة مثل الغضب والفرح والحزن والغم والعلم ونحو ذلك من وجدها فقد تصورها . ومن لم يجدها لم يمكن أن يتصورها بالحد ولهذا لا يتصور الأكمه الألوان بالحد ولا العنين الوقاع بالحد . فإذن القائل : بأن الحدود هي التي تفيد تصور الحقائق قائل للباطل المعلوم بالحس الباطن والظاهر .

التالي السابق


الخدمات العلمية