صفحة جزء
الوجه العاشر أن يقال : كون الذهن لا يعقل هذا إلا بعد هذا : إن كان إشارة إلى أذهان معينة وهي التي تصورت هذا : لم [ يكن ] هذا حجة لأنهم هم وضعوها هكذا . فيكون التقدير : أن ما قدمناه في أذهاننا على الحقيقة فهو الذاتي وما أخرناه فهو العرضي . ويعود الأمر إلى أنا تحكمنا بجعل بعض الصفات ذاتيا وبعضها عرضيا لازما وغير لازم وإن كان الأمر كذلك كان هذا الفرقان مجرد تحكم بلا سلطان . ولا يستنكر من هؤلاء أن يجمعوا بين المفترقين ويفرقوا بين المتماثلين . فما أكثر هذا في مقاييسهم التي ضلوا بها وأضلوا . وهم أول من أفسد دين المسلمين وابتدع ما غير به الصابئة مذاهب أهل الإيمان المهتدين .

وإن قالوا : بل جميع أذهان بني آدم والأذهان الصحيحة لا تدرك الإنسان [ ص: 54 ] إلا بعد خطور نطقه ببالها دون ضحكه .

قيل لهم : ليس هذا بصحيح . ولا يكاد يوجد هذا الترتيب إلا فيمن يقلد عنكم هذه الحدود من المقلدين لكم في الأمور التي جعلتموها ميزان المعقولات وإلا فبنو آدم قد لا يخطر لأحدهم أحد الوصفين وقد يخطر له هذا دون هذا وبالعكس . ولو خطر له الوصفان وعرف أن الإنسان حيوان ناطق ضاحك : لم يكن بمجرد معرفته هذه الصفات مدركا لحقيقة الإنسان أصلا . وكل هذا أمر محسوس معقول .

فلا يغالط العاقل نفسه في ذلك لهيبة التقليد لهؤلاء الذين هم من أكثر الخلق ضلالا مع دعوى التحقيق ; فهم في الأوائل كمتكلمة الإسلام في الأواخر . ولما كان المسلمون خيرا من أهل الكتابين والصابئين . كانوا خيرا منهم وأعلم وأحكم فتدبر هذا فإنه نافع جدا .

ومن هنا يقولون : الحدود الذاتية عسرة وإدراك الصفات الذاتية صعب وغالب ما بأيدي الناس : حدود رسمية . وذلك كله لأنهم وضعوا تفريقا بين شيئين بمجرد التحكم الذي هم أدخلوه .

ومن المعلوم : أن ما لا حقيقة له في الخارج ولا في المعقول وإنما هو ابتداع مبتدع وضعه وفرق به بين المتماثلين فيما تماثلا فيه - لا تعقله القلوب [ ص: 55 ] الصحيحة - إذ ذاك من باب معرفة المذاهب الفاسدة التي لا ضابط لها . وأكثر ما تجد هؤلاء الأجناس يعظمونه من معارفهم ويدعون اختصاص فضلائهم به هو : من الباطل الذي لا حقيقة له كما نبهنا على هذا فيما تقدم .

التالي السابق


الخدمات العلمية