1. الرئيسية
  2. تفسير ابن رجب
  3. تفسير سورة يونس
  4. تفسير قوله تعالى هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين
صفحة جزء
[ ص: 530 ] سورة يونس

قوله تعالى: هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون

قال الله عز وجل: وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وقال الله تعالى: هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب فأخبر سبحانه وتعالى أنه علق معرفة السنين والحساب على تقدير القمر منازل . وقيل: بل على جعل الشمس ضياء والقمر نورا، لأن حساب السنة والشهر يعرف بالقمر، واليوم والأسبوع يعرف بالشمس، وبهما يتم الحساب .

وقوله تعالى: لتعلموا عدد السنين والحساب لما كان الشهر الهلالي لا يحتاج إلى عد لتوفيته بما بين الهلالين، لم يقل: لتعلموا عدد الشهور . فإن الشهر لا يحتاج إلى عده إلا إذا غم آخره، فيكمل عدده بالاتفاق، إلا في شهر شعبان إذا غم آخره بالنسبة إلى صوم رمضان خاصة، فإن فيه اختلافا مشهورا، وأما السنة فلا بد من عددها، إذ ليس لها حد ظاهر في السماء فيحتاج إلى عددها بالشهور، ولا سيما مع تطاول السنين وتعددها . [ ص: 531 ] وجعل الله السنة اثني عشر شهرا، كما قال تعالى: إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله وذلك بعدد البروج التي تكمل بدور الشمس فيها السنة الشمسية، فإذا دار القمر فيها كلها كملت دورته السنوية، وإنما جعل الله الاعتبار بدور القمر، لأن ظهوره في السماء لا يحتاج إلى حساب ولا كتاب، بل هو أمر ظاهر يشاهد بالبصر، بخلاف سير الشمس; فإنه تحتاج معرفته إلى حساب وكتاب، فلم يحوجنا إلى ذلك، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا" وأشار بأصابعه العشر، وخنس إبهامه في الثالثة . "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة" وإنما علق الله تعالى على الشمس أحكام اليوم من الصلاة والصيام، حيث كان ذلك أيضا مشاهدا بالبصر لا يحتاج إلى حساب ولا كتاب، فالصلاة تتعلق بطلوع الفجر، وطلوع الشمس، وزوالها وغروبها، ومصير ظل الشيء مثله . وغروب الشفق، والصيام يتوقت بمدة النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس . وقوله تعالى: (والحساب) ، يعني بالحساب: حساب ما يحتاج إليه الناس من مصالح دينهم ودنياهم، كصيامهم، وفطرهم، وحجهم، وزكاتهم . ونذورهم، وكفاراتهم، وعدد نسائهم، ومدد إيلائهم، ومدد إجاراتهم . وحلول آجال ديونهم، وغير ذلك مما يتوقت بالشهور والسنين . وقد قال الله عز وجل: يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج فأخبر أن الأهلة مواقيت للناس عموما، وخص الحج من بين ما [ ص: 532 ] يوقت به، للاهتمام به، وجعل الله سبحانه وتعالى في كل يوم وليلة لعباده المؤمنين وظائف موظفة عليهم من وظائف طاعته، فمنها ما هو مفترض كالصلوات الخمس . ومنها ما يندبون إليه من غير افتراض، كنوافل الصلاة والذكر وغير ذلك . وجعل في شهور الأهلة وظائف موظفة أيضا على عباده كالصيام . والزكاة، والحج، ومنه فرض مفروض عليهم، كصيام رمضان، وحجة الإسلام، ومنه ما هو مندوب، كصيام شعبان، وشوال، والأشهر الحرم . وجعل الله سبحانه لبعض الشهور فضلا على بعض، كما قال تعالى: منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقال الله تعالى: الحج أشهر معلومات وقال الله تعالى: شهر رمضان الذي أنـزل فيه القرآن كما جعل بعض الأيام والليالي أفضل من بعض، وجعل ليلة القدر خيرا من ألف شهر، وأقسم بالعشر، وهو عشر ذي الحجة على الصحيح، كما سنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى . وما من هذه المواسم الفاضلة موسم إلا ولله تعالى فيه وظيفة من وظائف طاعاته، يتقرب بها إليه، ولله فيه لطيفة من لطائف نفحاته، يصيب بها من يعود بفضله ورحمته عليه، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات، فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار وما فيه من اللفحات .

وقد خرج ابن أبي الدنيا والطبراني وغيرهما، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - [ ص: 533 ] مرفوعا: "اطلبوا الخير دهركم كله، وتعرضوا لنفحات رحمة ربكم، فإن لله نفحات من رحمته يصيب به من يشاء من عباده، وسلوا الله أن يستر عوراتكم ويؤمن روعاتكم " . وفي رواية للطبراني من حديث محمد بن مسلمة مرفوعا: "إن لله في أيام الدهر نفحات فتعرضوا لها، فلعل أحدكم أن تصيبه نفحة فلا يشقى بعدها أبدا"

وفي "مسند الإمام أحمد " عن عقبة بن عامر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "ليس من عمل يوم إلا يختم عليه " وروى ابن أبي الدنيا بإسناده، عن مجاهد . قال: ما من يوم إلا يقول: ابن آدم، قد دخلت عليك اليوم ولن أرجع إليك بعد اليوم، فانظر ماذا تعمل في; فإذا انقضى طواه، ثم يختم عليه فلا يفك حتى يكون الله هو الذي يفض ذلك الخاتم يوم القيامة، ويقول اليوم حين ينقضي: الحمد لله الذي أراحني من الدنيا وأهلها، ولا ليلة تدخل على الناس إلا قالت كذلك . وبإسناده عن مالك بن دينار ، قال: كان عيسى - عليه السلام -، يقول: إن هذا الليل والنهار خزانتان، فانظروا ما تضعون فيهما، وكان يقول: اعملوا الليل لما خلق له، واعملوا النهار لما خلق له . وعن الحسن، قال: ليس يوم يأتي من أيام الدنيا إلا يتكلم، يقول: يا أيها الناس، إني يوم جديد، وإني على ما يعمل في شهيد، وإني لو قد غربت الشمس، لم أرجع إليكم إلى يوم القيامة . وعنه أنه كان يقول: يا ابن آدم، اليوم ضيفك، والضيف مرتحل، يحمدك أو يذمك، وكذلك ليلتك . وبإسناده عن بكر المزني، أنه قال: ما من [ ص: 534 ] يوم أخرجه الله إلى أهل الدنيا إلا ينادي: ابن آدم، اغتنمني، لعله لا يوم لك بعدي، ولا ليلة إلا تنادي: ابن آدم، اغتنمني، لعله لا ليلة لك بعدي، وعن عمر بن ذر أنه كان يقول: اعملوا لأنفسكم رحمكم الله في هذا الليل وسواده، فإن المغبون من غبن خير الليل والنهار، والمحروم من حرم خيرهما . إنما جعلا سبيلا للمؤمنين إلى طاعة ربهم، ووبالا على الآخرين للغفلة عن أنفسهم، فأحيوا لله أنفسكم بذكره، فإنما تحيا القلوب بذكر الله عز وجل . عن أبي موسى - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه، مثل الحي والميت " . كم من قائم لله في هذا الليل قد اغتبط بقيامه في ظلمة حفرته، وكم من نائم في هذا الليل قد ندم على طول نومه، عندما يرى من كرامة الله عز وجل للعابدين غدا . فاغتنموا ممر الساعات والليالي والأيام، رحمكم الله .

وعن داود الطائي أنه قال: إنما الليل والنهار مراحل، ينزلها الناس مرحلة مرحلة، حتى ينتهي بهم ذلك إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن تقدم في كل مرحلة زادا لما بين يديها فافعل، فإن انقطاع السفر عن قريب ما هو . والأمر أعجل من ذلك . فتزود لسفرك واقض ما أنت قاض من أمرك فكأنك بالأمر قد بغتك .

قال ابن أبي الدنيا : وأنشدنا محمود بن الحسين :


مضى أمسك الماضي شهيدا معدلا . وأعقبه يوم عليك جديد     فيومك إن أغنيته عاد نفعه .
عليك وماضي الأمس ليس يعود

[ ص: 535 ]     فإن كنت بالأمس اقترفت إساءة .
فثن بإحسان وأنت حميد     فلا ترج فعل الخير يوما إلى غد .
لعل غدا يأتي وأنت فقيد



وفي "تفسير عبد بن حميد " وغيره من التفاسير المسندة عن الحسن في قول الله عز وجل: وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا قال: من عجز بالليل كان له في أول النهار مستعتب . ومن عجز عن النهار، كان له في الليل مستعتب . وعن قتادة قال: إن المؤمن قد ينسى بالليل ويذكر بالنهار، وينسى النهار ويذكر بالليل . قال: وجاء رجل إلى سلمان الفارسي ، قال: إني لا أستطيع قيام الليل . قال له: فلا تعجز بالنهار . قال قتادة : فأدوا إلى الله من أعمالكم خيرا في هذا الليل والنهار . فإنهما مطيتان تقحمان الناس إلى آجالهم، يقربان كل بعيد، ويبليان كل جديد، ويجيئان بكل موعود، إلى يوم القيامة .

* * *

وأما الصبر، فإنه ضياء، والضياء : هو النور الذي يحصل فيه نوع حرارة وإشراق كضياء الشمس بخلاف القمر، فإنه نور محض، فيه إشراق بغير إحراق، قال الله عز وجل: هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا ومن هنا وصف الله شريعة موسى بأنها ضياء، كما قال: ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين وإن كان قد ذكر أن في التوراة نورا، كما قال: إنا أنـزلنا التوراة فيها هدى ونور لكن الغالب على شريعتهم الضياء لما فيه من الآصار والأغلال والأثقال . [ ص: 536 ] ووصف شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - بأنها نور لما فيها من الحنيفية السمحة، قال تعالى: قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين وقال: الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنـزل معه أولئك هم المفلحون ولما كان الصبر شاقا على النفوس، يحتاج إلى مجاهدة النفس، وحبسها . وكفها عما تهواه، كان ضياء، فإن معنى الصبر في اللغة: الحبس، ومنه: قتل الصبر; وهو أن يحبس الرجل حتى يقتل .

التالي السابق


الخدمات العلمية