صفحة جزء
لما كانت الصلاة صلة بين العبد وبين ربه، ومناجاة تظهر فيها آثار تحليه لقلوب العارفين وقربه شرع قبل الدخول فيها الطهارة، فإنه لا يصلح للوقوف بين يدي الله عز وجل والخلوة بمناجاته إلا طاهر، فأما المتلوث بالأوساخ الظاهرة والباطنة فلا يصلح للقرب، فشرع الله عز وجل للمصلي غسل أعضائه بالماء ورتب عليها طهارة ظاهرة وباطنة، ثم شرع المشي إلى المساجد . وفيه أيضا تكفير الخطايا حتى تكمل طهارة الذنوب إن بقي منها شيء بعد الوضوء حتى لا يقف العبد في مقام المناجاة إلا بعد كمال طهارة ظاهرة [ ص: 167 ] وباطنة من درن الأوساخ والذنوب، ولهذا شرع له تجديد التوبة والاستغفار عقب وضوء حتى تكمل طهارة ذنوبه، كما خرج النسائي من حديث أبي سعيد مرفوعا وموقوفا: "من توضأ فأسبغ الوضوء ثم قال عند فراغه من وضوئه: سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك، ختم عليها بخاتم فوضعت تحت العرش فلم تكسر إلى يوم القيامة" .

ومتى اجتهد العبد على تكميل طهارته ومشيه إلى المسجد ولم يقو ذلك على تكفير ذنوبه، فإن الصلاة يكمل بها التكفير، كما في "الصحيحين " عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ " قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: "فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا" .

وإن قوي الوضوء وحده على تكفير الخطايا، فالمشي إلى المسجد والصلاة بعده تكون زيادة حسنات وهذا هو المراد من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث عثمان والصنابحي "وكان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة"، وقد سبق ذكر الحديثين .

واعلم أن جمهور العلماء على أن هذه الأسباب كلها إنما تكفر الصغائر دون الكبائر وقد استدل بذلك عطاء وغيره من السلف في الوضوء، وقال سلمان الفارسي - رضي الله عنه -: الوضوء يكفر الجراحات الصغار، والمشي إلى المسجد يكفر أكثر من ذلك والصلاة تكفر أكثر من ذلك . خرجه محمد بن نصر المروزي ، ويدل على أن الكبائر لا تكفر بذلك ما في "الصحيحين " عن أبي [ ص: 168 ] هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر" .

وفي "صحيح مسلم " عن عثمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها وسجودها، إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة وذلك الدهر كله " .

فانظر إلى كم تيسر لك أسباب تكفير الخطايا لعلك تطهر منها قبل الموت فتلقاه طاهرا فتصلح لمجاورته في دار السلام، وأنت تأبى إلا أن تموت على خبث الذنوب فتحتاج إلى تطهيرها في كير جهنم، يا هذا أما علمت أنه لا يصلح لقربنا إلا طاهر، فإذا أردت قربنا ومناجاتنا اليوم فطهر ظاهرك وباطنك لتصلح لذلك، وإن أردت قربنا ومناجاتنا غدا فطهر قلبك من سوانا لتصلح لمجاورتنا يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم والقلب السليم الذي ليس فيه غير محبة الله ومحبة ما يحبه الله "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا" فما كل أحد يصلح لمجاورة الله تعالى غدا، ولا كل عبد يصلح لمناجاة الله اليوم ولا على كل الحالات تحسن المناجاة .


الناس من الهوى على أصناف هذا نقض العهد وهذا وافي     هيهات من الكدور تبغي الصافي
ما يصلح للحضرة قلب جافي



السبب الثالث: من مكفرات الذنوب الجلوس في المساجد بعد الصلوات . والمراد بهذا الجلوس انتظار صلاة أخرى كما في حديث أبي هريرة "وانتظار [ ص: 169 ] الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط " فجعل هذا من الرباط في سبيل الله عز وجل، وهذا أفضل من الجلوس قبل الصلاة لانتظارها، فإن الجالس لانتظار الصلاة ليؤديها ثم يذهب تقصر مدة انتظاره بخلاف من صلى صلاة ثم جلس ينتظر أخرى فإن مدته تطول فإن كان كلما صلى صلاة جلس ينتظر ما بعدها استغرق عمره بالطاعة وكان ذلك بمنزلة الرباط في سبيل الله عز وجل .

وفي "المسند"، و"سنن ابن ماجه " عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: "صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المغرب فرجع من رجع وعقب من عقب، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسرعا قد حفزه النفس وقد حسر عن ركبتيه فقال: "أبشروا هذا ربكم قد فتح بابا من أبواب السماء، يباهي بكم الملائكة، يقول: انظروا إلى عبادي قد قضوا فريضة وهم ينتظرون أخرى " .

وفي "المسند" عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "منتظر الصلاة بعد الصلاة كفارس اشتد به فرسه في سبيل الله على كشحه تصلي عليه ملائكة الله ما لم يحدث أو يقوم، وهو في الرباط الأكبر " . ويدخل في قوله: "والجلوس في المساجد بعد الصلوات " الجلوس للذكر والقراءة وسماع العلم وتعليمه ونحو ذلك لاسيما بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس; فإن النصوص قد وردت بفضل ذلك، وهو شبيه بمن جلس ينتظر صلاة أخرى، لأنه قد قضى ما جاء إلى المسجد لأجله من الصلاة وجلس ينتظر طاعة أخرى . وفي "الصحيح " عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما اجتمع قوم في بيت [ ص: 170 ] من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده " .

وأما الجالس قبل الصلاة في المسجد لانتظار تلك الصلاة خاصة فهو في صلاة حتى يصلي .

وفي "الصحيحين " عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أنه لما أخر صلاة العشاء الآخرة، ثم خرج فصلى بهم، قال لهم: "إنكم لم تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة " .

وفيهما أيضا عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه ما لم يحدث، اللهم اغفر له اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة" وفي رواية لمسلم "ما لم يؤذ فيه ما لم يحدث فيه " . وهذا يدل على أن المراد بالحدث حدث اللسان ونحوه من الأذى، وفسره أبو هريرة بحدث الفرج، وقيل: إنه يشمل الحدثين .

وفي "المسند" عن عقبة بن عامر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "القاعد يراعي الصلاة كالقانت ويكتب من المصلين من حين يخرج من بيته حتى يرجع إليه " وفي رواية له: "فإذا صلى في المسجد ثم قعد فيه كان كالصائم القانت حتى يرجع" . وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة، وبالجملة فالجلوس في المساجد للطاعات له فضل عظيم . [ ص: 171 ] وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يوطن رجل المساجد للصلاة والذكر إلا تبشبش الله عز وجل به كما يتبشبش أهل الغائب إذا قدم عليهم غائبهم " . وروى دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ألف المسجد ألفه الله " .

وقال سعيد بن المسيب : من جلس في المسجد فإنما يجالس الله عز وجل .

وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه عد من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله رجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه . وإنما كانت ملازمة المسجد للطاعات مكفرة للذنوب; لأن فيها مجاهدة النفس وكفا لها عن أهوائها; فإنها لا تميل إلا إلى الانتشار في الأرض لابتغاء الكسب; أو لمجالسة الناس، أو لمحادثتهم، أو للتنزه في الدور الأنيقة والمساكن الحسنة ومواطن النزه، ونحو ذلك . فمن حبس نفسه في المساجد على الطاعة فهو مرابط لها في سبيل الله مخالف لهواها، وذلك من أفضل أنواع الصبر والجهاد . وهذا الجنس - أعني ما يؤلم النفس ويخالف هواها - فيه كفارة للذنوب وإن كان لا صنع فيه للعبد كالمرض ونحوه فكيف بما كان حاصلا عن فعل العبد واختياره إذا قصد به التقرب إلى الله عز وجل، فإن هذا من نوع الجهاد في سبيل الله الذي يقتضي تكفير الذنوب كلها ولهذا المعنى كان المشي إلى [ ص: 172 ] المساجد كفارة للذنوب أيضا هو نوع من الجهاد في سبيل الله أيضا، كما خرجه الطبراني من حديث أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " الغدو والرواح إلى المساجد من الجهاد في سبيل الله عز وجل " .

كان زياد مولى ابن عباس أحد العباد الصالحين، وكان يلازم مسجد المدينة فسمعوه يوما يعاتب نفسه ويقول لها: أين تريدين أن تذهبي، إلى أحسن من هذا المسجد; تريدين أن تبصري دار فلان ودار فلان .

لما كانت المساجد في الأرض بيوت الله أضافها الله إلى نفسه تشريفا لها وتعلقت قلوب المحبين لله عز وجل بها لنسبتها إلى محبوبهم، وارتاحت إلى ملازمتها لإظهار ذكره فيها، قال تعالى: في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار أين يذهب المحبون عن بيوت مولاهم; قلوب المحبين ببيوت محبوبهم متعلقة، وأقدام العابدين إلى بيوت معبودهم مترددة .

يا حبذا العرعر النجدي والبان     ودار قوم بأكناف الحمى بانوا
وأطيب الأرض ما للقلب فيه هوى     سم الخياط مع الأحباب ميدان
لا يذكر الرمل إلا حن مغترب     له بذي الرمل أوطار وأوطان
يهفو إلى البان من قلبي نوازعه     وما بي البان بل من داره البان



التالي السابق


الخدمات العلمية