صفحة جزء
ومحبة الله تعالى على درجتين:

إحداهما: واجبة وهي المحبة التي توجب للعبد محبة ما يحبه الله من الواجبات وكراهة ما يكرهه من المحرمات، فإن المحبة التامة تقتضي الموافقة لمن يحبه في محبة ما يحبه وكراهة ما يكرهه خصوصا فيما يحبه ويكرهه من المحب نفسه، فلا تصح المحبة بدون فعل ما يحبه المحبوب من محبه وكراهة ما يكرهه المحبوب من محبيه، وسئل بعض العارفين عن المحبة فقال: الموافقة في جميع الأحوال وأنشد:


ولو قلت لي مت مت سمعا وطاعة وقلت لداعي الموت أهلا ومرحبا



وأنشد بعضهم:

تعصي الإله وأنت تزعم حبه     هذا لعمري في القياس فظيع
لو كان حبك صادقا لأطعته     إن المحب لمن يحب مطيع



ومتى أخل العبد ببعض الواجبات أو ارتكب بعض المحرمات فمحبته لربه غير تامة، فالواجب عليه المبادرة بالتوبة، والاجتهاد في تكميل المحبة المفضية لفعل الواجبات كلها، واجتناب المحرمات كلها، وهذا معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن " فإن الإيمان الكامل يقتضي محبة ما يحبه الله، وكراهة ما يكرهه الله عز وجل، والعمل بمقتضى ذلك فلا يرتكب أحد [ ص: 214 ] شيئا من المحرمات أو يخل بشيء من الواجبات إلا لتقديم هوى النفس المقتضي لارتكاب ذلك على محبة الله تعالى المقتضية لخلافه .

الدرجة الثانية من المحبة: درجة المقربين وهي: أن يمتلئ القلب بمحبة الله تعالى حتى توجب له محبة النوافل والاجتهاد فيها وكراهة المكروهات والانكفاف عنها، والرضا بالأقضية والأقدار المؤلمة للنفوس لصدورها عن المحبوب، كما قال عامر بن قيس: أحببت الله حبا هون علي كل مصيبة، ورضاني بكل بلية، فلا أبالي مع حبي إياه على ما أصبحت ولا على ما أمسيت .

وقال عمر بن عبد العزيز لما مات ولده الصالح: إن الله أحب قبضه، وإني أعوذ بالله أن يكون لي محبة في شيء من الأمور يخالف محبة الله، وكان يقول: إذا أصبحت فما لي سرور إلا في مواقع القضاء والقدر .


يا من يعز علينا أن نفارقهم .     وجداننا كل شيء بعدكم عدم
إن كان سركم ما قد بليت به .     فما لجرح إذا أرضاكم ألم



وحسب سلطان الهوى أن يلذ فيه كل ما يؤلم . كان عمار بن ياسر يقول: اللهم لو أعلم أنه أرضى لك أن أرمي بنفسي من هذا الجبل فأتردى فأسقط فعلت، ولو أعلم أنه أرضى لك أن أوقد نارا عظيمة فأقع فيها فعلت، ولو أعلم أنه أرضى لك عني أن ألقي نفسي في الماء فأغرق نفسي فعلت، ولا أقول هذا إلا وأريد وجهك وأنا أرجو أن لا تخيبني وأنا أريد وجهك . وقتل لبعض الصالحين ولدان في الجهاد فعزاه الناس فيهما فبكى وقال: [ ص: 215 ] إني ما أبكي لفقدهما إنما أبكاني كيف كان رضاهما عن الله حيث أخذتهما السيوف .

وكان بعض العارفين يطوف بالبيت فتجمعت القرامطة على الناس قتلوهم في الطواف فوصلوا إليه فلم يقطع الطواف حتى سقط من ظرب السيوف صريعا وأنشد:


والله لو حلف العشاق أنهم موتى .     من الحب ما ماتوا وما حنثوا
ترى المحبين صرعى في ديارهم .     كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا
أقل ثمن المحبة بذل الروح .     بدم المحب يباع وصلهم .
فمن الذي يبتاع بالثمن



قال بعض العارفين: إن كنت تسمح ببذل روحك في هذه الطريق وإلا فلا تشتغل بالترهات:

خاطر بروحك في هوانا واسترح .     إن شئت تحظى بالمحل الأعظم
لا يشغلنك شاغل عن وصلنا .     وانهض على قدم الرجاء واقدم



ولما كانت محبة الله عز وجل لها لوازم وهي محبة ما يحبه الله عز وجل من الأشخاص والأعمال، وكراهة ما يكرهه من ذلك سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - الله تعالى مع محبته محبة شيئين آخرين:

أحدهما: محبة من يحب ما يحبه الله تعالى فإن من أحب الله أحب أحباءه فيه ووالاهم وأبغض أعداءه وعاداهم . كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره [ ص: 216 ] أن يلقى في النار" .

وأعظم من تجب محبته في الله تعالى أنبياؤه ورسله وأعظمهم نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي افترض الله على الخلق كلهم متابعته، وجعل متابعته علامة لصحة محبته، كما قال تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم وتوعد من قدم محبة شيء من المخلوقين على محبته ومحبة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومحبة الجهاد في سبيله في قوله تعالى: قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا ووصف المحبين له باللين للمؤمنين والرأفة بهم والمحبة لهم والشدة على الكافرين والبغض لهم والجهاد في سبيله فقال: فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم الآية .

والثاني: محبة ما يحبه الله تعالى من الأعمال وبها يبلغ إلى حبه وفي هذا إشارة إلى أن درجة المحبة لله تعالى إنما تنال بطاعته وبفعل ما يحبه فإذا امتثل العبد أوامر مولاه وفعل ما يحبه أحبه الله تعالى ورقاه إلى درجة محبته، كما في الحديث الإلهي الذي خرجه البخاري: "وما تقرب إلي عبدي بمثل ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه" .

فأفضل ما تستجلب به محبة الله عز وجل فعل الواجبات وترك المحرمات، ولهذا جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - من علامات وجدان حلاوة الإيمان أن تكره [ ص: 217 ] أن ترجع إلى الكفر كما تكره أن تلقى في النار . وسئل ذو النون متى أحب ربي؟ قال: إذا كان ما يكرهه عندك أمر من الصبر، ثم بعد ذلك الاجتهاد في نوافل الطاعات وترك دقائق المكروهات والمشتبهات، ومن أعظم ما تحصل به محبة الله من النوافل تلاوة القرآن وخصوصا مع التدبر . قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: لا يسأل أحدكم عن نفسه إلا القرآن، فمن أحب القرآن فهو يحب الله ورسوله . ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن قال إني أحب سورة "قل هو الله أحد" لأنها صفة الرحمن فقال: "أخبروه أن الله يحبه " . وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة خطب فقال في خطبته: "إن أحسن الحديث كتاب الله، قد أفلح من زينه الله في قلبه وأدخله في الإسلام بعد الكفر، واختاره على ما سواه من الأحاديث، إنه أحسن الحديث وأبلغه، أحبوا من أحب الله وأحبوا الله من كل قلوبكم " .

وكان بعضهم يكثر من تلاوة القرآن ثم فتر عن ذلك فرأى في المنام قائلا يقول له:

إن كنت تزعم حبي .     فلم جفوت كتابي
أما تدبرت ما فيه .     من لطيف عتابي



فاستيقظ وعاد إلى تلاوته:

ومن الأعمال التي توصل إلى محبة الله تعالى وهي من أعظم علامات المحبين كثرة ذكر الله عز وجل بالقلب واللسان . قال بعضهم: ما أدمن أحد ذكر الله إلا أفادته منه محبة الله تعالى . وقال ذو النون: من أدمن ذكر الله [ ص: 218 ] قذف الله في قلبه نور الاشتياق إليه، وقال بعض التابعين: علامة حب الله كثرة ذكره، فإنك لن تحب شيئا إلا أكثرت ذكره، وقال فتح الموصلي: المحب لله لا يجد مع حب الله للدنيا لذة ولا يغفل عن ذكر الله طرفة عين . المحبون إن نطقوا نطقوا بالذكر، وإن سكتوا اشتغلوا بالفكر:


فإن نطقت فلم ألفظ بغيركم .     وإن سكت فأنتم عند إضماري



ومن علامات المحبين لله وهو مما يحصل به المحبة أيضا حب الخلوة بمناجاة الله تعالى وخصوصا في ظلمة الليل:


الليل لي ولأحبابي أسامرهم .     قد اصطفيتهم كي يسمعوا ويعوا



قال الفضيل: يقول الله عز وجل: كذب من ادعى محبتي فإذا جنه الليل نام عني . أليس كل حبيب يحب الخلوة بحبيبه؟ ها أنا مطلع على أحبابي إذا جنهم الليل جعلت أبصارهم في قلوبهم، ومثلت نفسي بين أعينهم فخاطبوني على المشاهدة، وكلموني على حضوري، غدا أقر عين أحبابي في جناتي:


تنام عيناك وتشكو الهوى .     لو كنت صبا لم تكن نائما



قلوب المحبين جمرة تحت فحمة الليل كلما هب عليها نسيم السحر التهبت، وأنشد:


يذكرني مر النسيم عهودكم .     فأزداد شوقا كلما هبت الريح
أراني إذا ما أظلم الليل أشرقت .     بقلبي من نار الغرام مصابيح
كلما جن الغاسق حن العاشق     لو أنك أبصرت أهل الهوى .
إذا غابت الأنجم الطلع [ ص: 219 ]     فهذا ينوح على ذنبه .
وهذا يصلي وذا يركع



من لم يكن له مثل تقواهم لم يدر ما الذي أبكاهم، ومن لم يشاهد جمال يوسف لم يدر ما الذي آلم قلب يعقوب، وسئل السري السقطي عن حاله فأنشد:

من لم يبت والحب حشو فؤاده .     لم يدر كيف تفتت الأكباد



أين رجال الليل; أين ابن أدهم والفضيل; ذهب الأبطال وبقي كل بطال . يا من رضي من الزهد بالزي، ومن الفقر بالاسم، ومن التصوف بالصوف . ومن التسبيح بالسبح، أين فضل الفضيل؟ أين جد الجنيد؟ أين سر السري؟ أين بشر أين إبراهيم بن أدهم؟ ويحك إن لم تقدر على معرفة معروف فاندب على ربع رابعة وأنشد:

هاتيك ربوعهم وفيها كانوا     بانوا عنها فليتهم ما بانوا
ناديت وفي حشاشتي نيران     يا دار متى تحول السكان



يا من كان له قلب فانقلب، يا من كان له وقت مع الله فذهب، قيام الأسحار يستوحش لك، صيام النهار يسأل عنك، ليالي الوصال تعاتبك على انقطاعك:


تشاغلتم عنا بصحبة غيرنا     وأظهرتم الهجران ما هكذا كنا
وأقسمتم أن لا تحولوا عن الهوى     فقد وحياة الحب حلتم وما حلنا
ليالي كنا نجتني من ثماركم     فقلبي إلى تلك الليالي لقد حنا



إخواني مجالس الذكر شراب المحبين وترياق المذنبين، قد علم كل أناس مشربهم، مجالس الذكر مآتم الأحزان فهذا يبكي لذنوبه، وهذا يندب [ ص: 220 ] لعيوبه، وهذا يتأسف على فوات مطلوبه، وهذا يتلهف لإعراض محبوبه . وهذا يبوح بوجوده وهذا ينوح على فقده وأنشد:


ما أذكر عيشنا الذي قد سلفا     إلا وجف القلب وكم قد وجفا
واها لزماننا الذي كان صفا     بل وأسفا لفقده وأسفا



غيره:


يا ليتنا بزمزم والحجر     يا جيرتنا قبيل يوم النفر
فهل يعود ما مضى من عمري     ما كنت أدري يا ليتني لا أدرى



كأني أرى الخلع قد خلعت على المقبولين، كأني أرى الملائكة تصافح التائبين، فتعالوا نجتمع نبكي على المطرودين:


ما زلت دهرا للقا متعرضا     ولطالما قد كنت عنا معرضا
جانبتنا دهرا فلما لم تجد     عوضا سوانا صرت تبكي محرضا
واحسرتاه عليك من متقلب     حق الوبال عليه من سوء القضا
لو كنت من أحبابنا للزمتنا     فكسيت من إحساننا خلع الرضا
لكن غمطت حقوقنا وتركتنا     فلذاك ضاق عليك متسع الفضا



التالي السابق


الخدمات العلمية