صفحة جزء
قوله تعالى: وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما

[قال البخاري ] : باب الخطبة قائما: وقال أنس : بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب قائما . حديث أنس ، هو الذي فيه ذكر الاستسقاء في الجمعة، وسيأتي - إن شاء الله سبحانه وتعالى - فيما بعد .

حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري: نا خالد بن الحارث : نا عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب قائما، ثم يقعد، ثم يقوم كما يفعلون الآن .

وفي الخطبة قائما أحاديث أخر .

وخرج مسلم من حديث سماك ، عن جابر بن سمرة ، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب قائما، ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائما، فمن نبأك أنه [ ص: 461 ] كان يخطب جالسا فقد كذب، فقد - والله - صليت معه أكثر من ألفي صلاة .

وخرج مسلم بإسناده من حديث كعب بن عجرة ، أنه دخل المسجد وعبد الرحمن بن أم الحكم يخطب قاعدا، فقال: انظروا الخبيث، يخطب قاعدا، وقد قال الله تعالى: وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما .

وخرج ابن ماجه من حديث إبراهيم، عن علقمة ، عن ابن مسعود ، أنه سئل: أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب قائما أو قاعدا؟ قال: أما تقرأ: وتركوك قائما ؟ وهذا إسناد جيد .

لكن روي، عن إبراهيم، عن علقمة من قوله . وعن إبراهيم، عن عبد الله منقطعا . واستدل بهذه الآية على القيام في الخطبة جماعة، منهم: ابن سيرين ، وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود .

وإنما احتاجوا إلى السؤال عن ذلك، لأنه كان في زمن بني أمية من يخطب جالسا، وقد قيل: إن أول من جلس معاوية -: قاله الشعبي والحسن وطاوس .

وقال طاوس : الجلوس على المنبر يوم الجمعة بدعة . [ ص: 462 ] وقال الحسن: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر وعثمان يخطبون قياما، ثم إن عثمان لما رق وكبر كان يخطب، فيدركه ما يدرك الكبير فيستريح ولا يتكلم، ثم يقوم فيتم خطبته .

خرجه القاضي إسماعيل . وخرج - أيضا - من رواية ابن جريج ، عن عطاء ، أنه قال; أول من جعل في الخطبة جلوسا عثمان ، حين كبر وأخذته الرعدة جلس هنية . قيل له: هل كان يخطب عمر إذا جلس؟ قال: لا أدري .

وقد روي عن عمر بن عبد العزيز ، أنه كان يخطب الخطبة الأولى جالسا . ويقوم في الثانية .

خرجه ابن سعد .

والظن به أنه لم تبلغه السنة في ذلك، ولو بلغته كان أتبع الناس لها . وقد قيل: إن ذلك لم يصح عنه; فإن الأثرم حكى: أن الهيثم بن خارجة قال لأحمد: كان عمر بن عبد العزيز يجلس في خطبته؟ قال: فظهر منه إنكار لذلك .

ورواية ابن سعد له عن الواقدي ، وهو لا يعتمد .

وقد روي عن ابن الزبير - أيضا - الجلوس في الخطبة الأولى - أيضا .

خرجه القاضي إسماعيل .

واختلف العلماء في الخطبة جالسا: فمنهم من قال: لا يصح، وهو قول [ ص: 463 ] الشافعي ، وحكى روايته عن مالك وأحمد .

وقال ابن عبد البر : أجمعوا على أن الخطبة لا تكون إلا قائما لمن قدر على القيام .

ولعله أراد إجماعهم على استحباب ذلك; فإن الأكثرين على أنها تصح من الجالس، مع القدرة على القيام، مع الكراهة . وهو قول أبي حنيفة ومالك ، والمشهور عن أحمد ، وعليه أصحابه، وقول إسحاق - أيضا .

* * *

[قال البخاري ] : حدثنا معاوية بن عمرو : ثنا زائدة، عن حصين، عن سالم بن أبي الجعد : ثنا جابر بن عبد الله ، قال: بينما نحن نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أقبلت عير تحمل طعاما، فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا اثنا عشر رجلا، فنزلت هذه الآية : وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما

وخرجه في "التفسير"، عن حفص بن عمر ، قال: ثنا خالد بن عبد الله : حدثنا حصين، عن سالم بن أبي الجعد - وعن أبي سفيان ، عن جابر ابن عبد الله - فذكره بمعناه .

وفي هذه الرواية: متابعة أبي سفيان لسالم بن أبي الجعد على روايته عن جابر ، وإنما خرج لأبي سفيان متابعة .

وقد خرجه مسلم بالوجهين - أيضا . [ ص: 464 ] وفي أكثر رواياته: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -كان يخطب يوم الجمعة .

وفي رواية له: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب قائما يوم الجمعة - فذكره بمعناه .

وفي رواية له: فلم يبق إلا اثنا عشر رجلا، أنا فيهم .

وفي رواية له - أيضا -: فيهم أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - .

وقوله في الرواية التي خرجها البخاري : بينا نحن نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - " لم يرد به أنهم انفضوا عنه في نفس الصلاة، إنما أراد - والله أعلم - أنهم كانوا مجتمعين للصلاة، فانفضوا وتركوه .

ويدل عليه: حديث كعب بن عجرة ، لما قال: انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعدا، وقد قال الله تعالى: انفضوا إليها وتركوك قائما

وكذلك استدلال ابن مسعود وخلق من التابعين بالآية على القيام في الخطبة

وروى علي بن عاصم هذا الحديث عن حصين، فقال فيه: فلم يبق معه إلا أربعون رجلا، أنا فيهم .

خرجه الدارقطني والبيهقي . وعلي بن عاصم ، ليس بالحافظ، فلا يقبل تفرده بما يخالف الثقات .

وقد استدل البخاري وخلق من العلماء على أن الناس إذا نفروا عن الإمام وهو يخطب للجمعة، وصلى الجمعة بمن بقي، جاز ذلك، وصحت جمعتهم . [ ص: 465 ] وهذا يرجع إلى أصل مختلف فيه، وهو: العدد الذي تنعقد به الجمعة؟ وقد اختلف في ذلك:

فقالت طائفة: لا تنعقد الجمعة بدون أربعين رجلا، روي ذلك عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة وعمر بن عبد العزيز ، وهو قول الشافعي وأحمد - في المشهور عنه - وإسحاق، ورواية عن مالك .

وقالت طائفة: تنعقد بخمسين، روي عن عمر بن عبد العزيز - أيضا - وهو رواية عن أحمد .

وقالت طائفة تنعقد بثلاثة، منهم: ابن المبارك والأوزاعي والثوري ، وأبو ثور ، وروي عن أبي يوسف، وحكي رواية عن أحمد .

وقالت طائفة: تنعقد بأربعة، وهو قول أبي حنيفة وصاحبيه - في المشهور عنهما - والأوزاعي ومالك والثوري - في رواية عنهما - والليث بن سعد . وحكي قولا قديما للشافعي ، ومنهم من حكاه أنها تنعقد بثلاثة .

وقالت طائفة: يعتبر أربعون في الأمصار وثلاثة في القرى، وحكي رواية عن أحمد ، صححها بعض المتأخرين من أصحابه .

وقالت طائفة: تنعقد بسبعة، وحكي عن عكرمة ، ورواية عن أحمد .

وقالت طائفة: تنعقد باثني عشر رجلا، حكي عن ربيعة .

وقد قال الزهري : إن مصعب بن عمير أول ما جمع بهم بالمدينة كانوا اثني عشر رجلا . [ ص: 466 ] وتعلق بعضهم لهذا الحديث بحديث جابر المخرج في هذا الباب .

وقال طائفة: تنعقد الجمعة بما تنعقد به الجماعة، وهو رجلان، وهو قول الحسن بن صالح وأبي ثور - في رواية - وداود، وحكي عن مكحول .

وتعلق القائلون بالأربعين بحديث كعب بن مالك ، أن أول جمعة جمع بهم أسعد بن زرارة ، كانوا أربعين، وقد سبق ذكره في أول "كتاب الجمعة" .

وقد ذكر القاضي أبو يعلى وغيره وجه الاستدلال به: أن الجمعة فرضت بمكة، وكان بالمدينة من المسلمين أربعة وأكثر ممن هاجر إليها وممن أسلم بها . ثم لم يصلوا كذلك حتى كمل العدد أربعين، فدل على أنها لا تجب على أقل منهم، ولم يثبت أبو بكر الخلال خلافه عن أحمد في اشتراط الأربعين .

قال: وإنما يحكى عن غيره، أنه قال بثلاثة، وبأربعة، وبسبعة، ولم يذهب إلى شيء من ذلك، وهذا الذي قاله الخلال هو الأظهر . والله أعلم

. وفي عدد الجمعة أحاديث مرفوعة، لا يصح فيها شيء، فلا معنى لذكرها .

وإذا تقرر هذا الأصل، فمن قال: إن الجمعة تنعقد باثني عشر رجلا أو بدونهم، فلا إشكال عنده في معنى حديث جابر ; فإنه يحمله على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الجمعة بمن بقي معه، وصحت جمعتهم .

ومن قال: لا تصح الجمعة بدون أربعين، فإنه يشكل عليه حديث جابر .

وقد أجاب بعضهم: بأن الصحيح أنهم انفضوا وهو في الخطبة . قال: فيحتمل أنهم رجعوا قبل الصلاة، أو رجع من تم به الأربعون، فجمع بهم . قال: والظاهر أنهم انفضوا ابتداء سوى اثني عشر رجلا، ثم رجع منهم تمام [ ص: 467 ] أربعين، فجمع بهم، وبذلك يجمع بين رواية علي بن عاصم وسائر الروايات .

وهذا الذي قاله بعيد، ورواية علي بن عاصم غلط محض، لا يلتفت إليها .

وسلك طائفة مسلكا آخر، وظاهر كلام البخاري هاهنا وتبويبه يدل عليه . وهو: أن انفضاضهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في نفس الصلاة، وكان قد افتتح بهم الجمعة بالعدد المعتبر، ثم تفرقوا في أثناء الصلاة، فأتم بهم صلاة الجمعة" فإن الاستدامة يغتفر فيها ما لا يغتفر في الابتداء .

وهذا قول جماعة من العلماء، منهم: أبو حنيفة وأصحابه والثوري ومالك والشافعي - في القديم - وإسحاق، وهو وجه لأصحابنا .

وعلى هذا، فمنهم من اعتبر أن يبقى معه واحد فأكثر; لأن أصل الجماعة تنعقد بذلك، ومنهم من شرط أن يبقى معه اثنان، وهو قول الثوري وابن المبارك ، وحكي قولا للشافعي .

وقال إسحاق: إن بقي معه اثنا عشر رجلا جمع بهم وإلا فلا; لظاهر حديث جابر .

وهو وجه لأصحابنا . ولأصحابنا وجه آخر: يتمها الإمام جمعة، ولو بقي وحده . وهذا بعيد جدا .

وفرق مالك بين أن يكون انفضاضهم قبل تمام ركعة فلا تصح جمعتهم ويصلون ظهرا، وبين أن يكون بعد تمام ركعة فيتمونها جمعة . [ ص: 468 ] ووافقه المزني، وهو وجه لأصحابنا .

وقال أبو حنيفة : إن انفضوا قبل أن يسجد في الأولى فلا جمعة لهم، وإن كان قد سجد فيها سجدة أتموها جمعة .

وقال صاحباه: بل يتمونها جمعة بكل حال، ولو انفضوا عقب تكبيرة الإحرام .

ومذهب الشافعي - في الجديد - وأحمد والحسن بن زياد : أنه لا جمعة لهم، حتى يكمل العدد في مجموع الصلاة .

قال أبو بكر عبد العزيز بن جعفر : لم يختلف قول أحمد في ذلك . وقد وجدت جوابا آخر عن حديث جابر ، وهو: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد صلى بأصحابه الجمعة، ثم خطبهم فانفضوا عنه في خطبته بعد صلاة الجمعة، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك قدم خطبة الجمعة على صلاتها .

فخرج أبو داود في "مراسيله " بإسناده، عن مقاتل بن حيان ، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الجمعة قبل الخطبة مثل العيد، حتى إذا كان يوم جمعة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، وقد صلى الجمعة، فدخل رجل، فقال: إن دحية بن خليفة قد قدم بتجارته - وكان دحية إذا قدم تلقاه أهله بالدفاف -، فخرج الناس، لم يظنوا إلا أنه ليس في ترك الخطبة شيء، فأنزل الله عز وجل: وإذا رأوا تجارة أو لهوا فقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - الخطبة يوم الجمعة، وأخر الصلاة .

وهذا الجواب أحسن مما قبله . [ ص: 469 ] ومن ظن بالصحابة أنهم تركوا صلاة الجمعة خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد دخولهم معه فيها، ثم خرجوا من المسجد حتى لم يبق معه إلا اثنا عشر رجلا، فقد أساء بهم الظن، ولم يقع ذلك بحمد الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية