صفحة جزء
مالك يوم الدين

يوم الدين هو يوم الجزاء ، وقيل يوم الطاعة ، وقيل يوم الشريعة الحاكم على كل عقيدة باطلة ، ومهما يكن من اختلاف هذه الألفاظ في مدلولاتها الخاصة ، فإن النهاية تتجه إلى أن ذلك اليوم هو اليوم الذي يجازى فيه المحسن بإحسانه ، والمسيء [ ص: 60 ] بإساءته ، وهو الذي تجد فيه كل نفس ما عملت محضرا ، يعلن ما تستحق من عقاب أو ثواب .

و (مالك يوم الدين ) فيه قراءات تختلف في أشكالها ، ولا تختلف في مضمونها فقرئ هكذا : مالك يوم الدين ، وقرئ : مليك يوم الدين ، وقرئ : ملك يوم الدين ، وقرأ أبو حنيفة رضي الله عنه : ملك يوم الدين ، وقرئ : مالكا يوم الدين ، وقرئ : مالك . والقراءات كلها تنتهي إلى معنى واحد ، وإن كانت تختلف في أعاريبها ، والنص العثماني يشملها جميعا ، ولا تخالف في النسخ المتواتر ، بيد أن قراءة النصب " مالكا " تكون حالا من الذات العلية ، أي أنه الرب للوجود كله والمنعم عليه بجلائل النعم ; جليها وخفيها ، حال كونه مالكا من بعد ذلك ليوم الجزاء ، الذي يجزي كل نفس ما كسبت ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، و " يوم الدين " تكون ظرفا غير مضاف إليه ، وكذلك في قراءة الرفع مع التنوين يكون يوم الدين ظرفا للملك وكمال السلطان .

وقراءة " مالك " تفيد أن كل شيء مملوك لله تعالى في ذلك اليوم ، فالنفوس في مآلها وفي نهايتها ملك لله ، ومستقبلها القريب والبعيد لله لا تملك من أمرها شيئا ، بل كما قال تعالى : يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ، وإذا كان سبحانه وتعالى يملك كل شيء في هذا اليوم ، فالسلطان ، والتدبير له ، وحده الذي يملك الجزاء ، والمغفرة إذا أراد ، ولا إرادة لسواه ، إنه الحكم العدل اللطيف الخبير .

و" ملك " ، و " ملك " ، الفرق بينهما وبين قراءة " مالك " كالفرق بين المصدرين ، الملك ، والملك ، فالملك استيلاء على الأشياء يكون مردها إليه ، والملك السلطان [ ص: 61 ] بالأمر والنهي وتنفيذ ما يريد ، وألا يكون معه آمر ولا ناه ولا حاكم سواه ، ولا إرادة فوق إرادته ، ولا حكم فوق حكمه .

ويلاحظ أن معنى الملك يتضمنه بالاقتضاء معنى الملك ، لأن من ملك شيئا ملك السلطان فيه ، والسيطرة عليه ، فالملك يقتضي الملك والسلطان ، والملك لا يقتضي الملك والسلطان ، ولذلك يقال سبحان مالك الملك ، ولا يقال ملك الملك .

ورأينا أن كل قراءة متواترة قرآن ، وأن القرآن لا يخالف بعضه بعضا ، بل قد يتم بعضه بعضا ، وليس لنا أن نراجح بين قراءة وقراءة ، لأن كلتيهما تتمم الأخرى .

وخلاصة القول في القراءتين أن قراءة (ملك يوم الدين ) موضحة لما تضمنته (مالك يوم الدين ) ، ولا نتصور أن تتعارض قراءتان متواترتان ; لأن القرآن لا يضرب بعضه بعضا . وفي الإعراب " مالك " أو " ملك " مضاف إلى يوم الدين على أنه هو المسيطر المتصرف المالك لأحداث ذلك اليوم من جزاء : ثواب أو عقاب أو مغفرة ، وأنه واقع لا محالة ، وأن ما فيه في ملكه وتحت سلطانه وحده .

وإن اسم الفاعل يدل على الاستقبال ، فلا يقال إنه مالك لليوم واليوم لم يجئ ، وإن الأزمان الماضي والحاضر والمستقبل كلها بالنسبة لله تعالى واحدة .

هذا ، ويلاحظ أن الأسماء أو الصفات هي كما أشرنا من قبل من قبيل السبب لانفراد الله تعالى بالحمد الكامل ، فالربوبية الكاملة بالإنشاء لهذا الوجود وما فيه ومن فيه ، وتعهده بالإنماء والتربية والتهذيب والتكميل ، والرعاية لكل شيء ، إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده ، ثم رحمته الظاهرة والباطنة ، والعاجلة والآجلة التي تعم الوجود كله من سماء [ ص: 62 ] وأرضين ، وشموس ونجوم ، ورحمته الخاصة بعباده العاقلين المكلفين من قبول للتوبة ، وغفران ، وثواب .

ثم كونه بعد ذلك مالكا وحده ليوم الجزاء ، كل هذه الأسماء والصفات من شأنها أن تجعله مستحقا للحمد الكامل بكل ضروبه ، وفي كل الأحوال ، وذلك بربوبيته الشاملة ، ورحمته الكاملة ، وامتلاكه وحده ليوم الجزاء .

وإن الأسماء أو الصفات كما أنها سبب لانفراده باستحقاق الحمد ، هي أيضا سبب لانفراده بالعبادة والاستعانة ، وطلب الهداية ، وقد التفت الكلام الحكيم من بعد ذلك من الإخبار باستحقاق الحمد لله تعالى وحده ، وبيان جليل أسمائه إلى ذكر ما ينبغي للمؤمن من إفراده بالعبادة والاستعانة به دون غيره ، والضراعة إليه في طلب الهداية ، لذا قال سبحانه :

* * *

التالي السابق


الخدمات العلمية