فهزموهم بإذن الله الفاء هنا للسببية ، أي أنه بسبب قوة عزائمهم ، وحسن صبرهم واتجاههم إلى ربهم ضارعين أن يلهمهم الصبر عند اللقاء ، والثبات عند الزحف ، والنصر في النهاية لأنه المالك لكل شيء ، بسبب كل هذا هزموهم بإذن الله ، أي بتوفيقه سبحانه وإرادته وهدايته ، وإمداده سبحانه بعونه بعد اتخاذهم الأسباب كلها . 
وأصل الهزم معناه الكسر ، وكثر استعماله في كسر الأعداء ، وتشتيت شملهم ، وذلك لأن العدو في هجومه يشبه الصخرة المنقضة في تجمعه وصلابته وحدة صدمته ، فإذا رد على أعقابه تكون حاله كالتكسر بعد الاجتماع والتقطع بعد الاتصال . 
وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء في هذا التعبير السامي ، بيان لسبب من أسباب الانتصار الدنيوي بعد أن وهبهم الانتصار اللدني ، ذلك أن طاغيتهم قد قتل ، وهو الذي كان يفرض أهواءه وشهواته عليهم فيجعل  
[ ص: 908 ] منهم جندا طائعين له يسيرون مع رغبته في السلطان والقهر والغلب بالحق وبالباطل ، وكذلك الشأن دائما في أهل الباطل يجتمعون على رجل ويسيرون وراءه ، فليست لهم إرادة غير إرادته ، ولا روح جماعية تجعل لهم كيانا قائما بذاته ، مظهره قائدهم ، بل يكون الطاغية هو المسلط عليهم ، يملي إرادته على أحدهم ، ولا إرادة لأحد وراء إرادته ، فإذا قتل ذلك الطاغية أو قضي على سلطانه تفرق الجمع وذهبت الوحدة الرابطة ، وعملت السيوف في أقفيتهم . 
وكذلك كان أمر أعداء الله ، جمعهم 
جالوت  تحت إمرته ، وفرض عليهم إرادته بحكم القهر ، أو بالاستهواء ، أو التبعية الشخصية ، فمكن الله أولياءه منه ، حتى إذا قتل تفرق الجمع وولى الأدبار ، ولا يكون الأمر كذلك إذا كانت الجماعة تحس بالوحدة الجامعة التي تربط آحادها ، وقائدها مظهر توحد الإرادة وجمع الكلمة ، وليس موجد هذه الوحدة لتسخر لإرادته ; فإنه في هذه الحال إذا ذهب القائد ، قام مقامه من يماثله أو على الأقل يقاربه ; لأن الجماعة لها إرادة موحدة ، وليست خاضعة لإرادة مسلطة وهي الموجدة لقائدها ، وليس قائدها هو الموجد لإرادته ، والإرادة التي أقامته تقيم غيره مقامه إذا خلا مكانه . 
كان القاتل 
لجالوت  رأس العدو هو 
داود  ، وقد رشحته قوته الجسمية ، وإحكامه للقتال وعلمه وحكمته لأن يتولى الملك من بعد 
طالوت  والملك الذي تولاه ليس هو الملك الوراثي الذي يئول فيه السلطان إلى أحد من أسرة الملك السابق بالوراثة القانونية ; لأن 
داود  لم يكن من أسرة 
طالوت  ، وما رشحته للملك وراثة قانونية ، بل رشحه للملك انتخاب طبيعي ، وإرادة إلهية آتته الحكم والنبوة ، فليس الملك الذي آل لداود هو الملك الوراثي ، بل السلطان الحكم ذلك الانتخاب . 
وقد ذكر سبحانه 
العناصر التي ترشح للسلطان وحكم الناس ، فكانت قوة الجسم ، والحكمة والعلم  ; ولذا قال سبحانه بعد ذكر قتله 
لجالوت   : 
وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء والحكمة هي وضع الأمور في مواضعها والتدبير المحكم على وفق العلم ، فالحكمة تقتضي صفتين ذاتيتين في الشخص : عقلا مدركا نافذا  
[ ص: 909 ] بصيرا يرى بواطن الأمور ويتغلغل في أعماقها ، وإرادة محكمة تجعل العمل يتلاقى مع الفكر الصحيح والإدراك السليم ، فلا يكون سلطان يعارض دواعي العقل ، وأحكام الفكر السليم ، فليس بحكيم من يبادر بالحكم على الأشياء من غير دراسة عميقة مستقصية وليس بحكيم من يكون عمله على غير ما تقتضيه قواعد الفكر المستقيم . 
ولقد ذكر سبحانه أنه علم 
داود  مما يشاء أي علمه علما كثيرا واسعا مما شاء أن يعلمه . فقوله تعالى : 
مما يشاء يشير إلى سعة العلم ، وأنه كثير متشعب لا تحده إلا مشيئة الله وإرادته . 
فعلمه سبحانه سياسة الملك ، وأحوال الناس ، ومنازع النفوس ، وأحوال البلدان وما تنتجه من خيرات ، وغير ذلك ، وكان تعليم الله سبحانه وتعالى له بالنبوة التي أفاضها سبحانه وتعالى عليه ، والتجارب التي ساقها الله إليه ، والذخيرة التي بين يديها من أحوال الحاكمين السابقين ، والهداة المرشدين ، وما أوتيه من علم التوراة ، والأخبار الصحاح عن النبيين السابقين ، وفي كل ذلك هداية وإرشاد إلى أقوم مناهج الحكم الصحيح . 
تلك هي عناصر الحكم الصالح ، لا بد أن يكون الحاكم قويا في جسمه ، بحيث لا يخذل جسمه إرادته ، فكثيرا ما يكون ضعف الإرادة من ضعف الجسم ، وضعف التدبير من تخاذل القوى البدنية عن الاحتمال ، ولكن قد تكون الإرادة القوية والعزيمة الماضية في جسم ضعيف ، وفي هذه الحال قد يستغني عن ذلك العنصر إن لم يوجد شخص تتوافر فيه قوة النفس وقوة الجسم معا ، فالاعتبار الأول لقوة النفس ، وقوة الجسم خادمة لقوة النفس وليست مقصودة لذاتها . 
والعنصر الثاني هو الحكمة : وهي كما رأيت جعل العمل يسير مع العقل فلا تتحكم الأهواء والشهوات ، 
وآفة الحكم الصالح هوى الحاكم ، فإن غلبت رغبته عقله غلب الفساد حكمه ، فليختبر كل حاكم نفسه ، فإن رأى أهواءه هي المسيطرة فليعلم أن الشر قد استحكم ، وأنه أولى به ثم أولى أن يعتزل وإن وجد عقله هو المسيطر فليعلم أن الله أجرى عليه التوفيق .  
[ ص: 910 ] والعنصر الثالث الإحاطة التامة بمصالح الناس وأحوالهم : فإن الحكم عمل للمصلحة ، وليس سيطرة وتحكما ، ومن ظنه سيطرة وتحكما فهو ممن طمس الله بصيرته ، وغلبت عليه شهوته ، ثم غلبت عليه شقوته . 
إن فرق ما بين الحكم الصالح وغير الصالح دقيق في معناه ، وإن كان الأثر كبيرا في مبناه ، فالحكم الصالح أساسه أن يكون الحكم لمصلحة المحكوم وإجابة لرغبته ، والحكم غير الصالح أساسه أن يكون الحكم تحكما في المحكوم ، فمن تحكم في الرعية ولو باسم مصلحتها ، فقد سلك سبيل الفساد ، لأن التحكم ينبعث من الرغبة في السيطرة ، ولو لبس لبوس المصلحة . والسيطرة تسلط ، والتسلط في ذاته فساد يؤدي لا محالة إلى فساد ، ويؤدي إلى موت الإرادات في الجماعة ، وفي ذلك إضعاف لقوتها . 
وأما الحكم المنبعث من إرادة الجماعة الذي يقودها لمصلحتها ، فهو يؤدي إلى الصلاح لا محالة ، وإن تعثر في أخطاء أحيانا ، لأنه من الخطأ يتعلم الناس الصواب ، ومن الخط المعوج يعرف الخط المستقيم . 
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين بين الله سبحانه وتعالى قصة بني إسرائيل ، وهي قصة يتجلى فيها استخذاء الضعفاء ، إن خافوا الموت ، وجهلوا أن البقاء على الذل هو حقيقة الفناء ، ثم بين كيف تتحفز بعض العزائم لرفع نير الظلم وكف يد الظالم ، ثم بين كيف يقوم في المغلوب عليهم نزاع بين دعاة التردد والهزيمة ودعاة الإقدام ، وكيف تخضع النفوس لخواطر الرغبة في العزة والإقدام على التغيير ، وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، ثم بين حال الجيوش القوية في وجوب توحد قيادتها تحت سلطان قائد قوي عالم مفكر مجرب ، وكيف تضعف العزائم عند الذين ألفوا الذل فيستنيمون إلى الراحة الذليلة ، بدل الشدة العزيزة ، ثم بين سبحانه كيف تغلب فئة قليلة مسلحة بالإيمان القوي والتصميم على طلب العزة ، مستعينة بالصبر ، معتمدة على الله جلت قدرته .  
[ ص: 911 ] بين سبحانه كل ذلك في عبارة جلية ، أو إشارة واضحة ، ثم بين سبحانه أن سنة الله في خلقه أن يدفع الخير والشر ، وأن تكون المدافعة بينهما مستمرة ، حتى لا تفسد الأرض، فإنه إن غلب الشر كان الخراب والدمار . 
إن الله سبحانه قد قدر أن يبتلى الناس من يوم أن هبط 
آدم  وحواء  إلى الأرض، فقد ابتلاهم بإبليس وإخوانه ، فكان النزاع بين الخير والشر والحق والباطل ، والظلم والعدل ، والله دائما يسخر للحق أنصارا يعملون لنصرته ، ويتخذون الأسباب والأهبة ، ثم يؤيدهم بنصره وتوفيقه فإن الأرض لا تخلو من قائم للحجة ظاهرا مشهورا ، أو مستورا مغمورا ، حتى لا تذهب بينات الله كما قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=8علي رضي الله عنه   . 
ولذا قال سبحانه : 
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض أي لولا دفع الله سبحانه بعض الناس الأشرار ببعض الناس الأخيار لفسدت الأرض ، لأنهم إن تركوا من غير أن يدافعوا عم الفساد وعم الدمار . وإن دفع الشر بالخير يكون في داخل الأمم وبين الآحاد ، وبين الأمم بعضها مع بعض ، فالأمة الواحدة يكون من آحادها الأخيار والأشرار ، ويدفع الله بعمل الأخيار وبال عمل الأشرار . 
ودفع ذلك يكون بطرق مختلفة : 
منها : أن يكون الشر في خفاء ، والخير في جلاء ، فيكون انزواء الشر دفعا له وفي ظهور الخير دعوة إليه ، وحثا عليه . 
ومنها : أن يقل عدد الأشرار الظاهرين ويكثر عدد الأخيار البارزين فيدفع الله سبحانه بتلك الكثرة الظاهرة شر تلك القلة الفاجرة . 
ومنها : أن 
عمل الأبرار في الأمة يصلح الله به ما أفسده الأشرار مهما يكن عدد هؤلاء ، ففي بعض الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " 
إن الله يدفع العذاب - أي الدنيوي - بمن يصلي من أمتي عمن لا يصلي وبمن يزكي عمن لا يزكي ، وبمن يصوم عمن لا يصوم ، وبمن يحج عمن لا يحج وبمن يجاهد عمن لا يجاهد ، ولو اجتمعوا  [ ص: 912 ] على ترك هذه الفرائض ما أنظرهم الله طرفة عين ثم تلا قوله تعالى ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض  . 
وأما دفع الله بعض الناس الأشرار ببعض الناس الأخيار في الأمم بعضها مع بعض فإن ذلك بجهاد الأمم التي تعمل للحق للأمم التي يناصر أكثرها الباطل ، أو تسكت عن ظلم حكامها لغيرهم من الأمم . ولقد رويأن 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس  قال في تفسير قوله تعالى : 
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض  " لولا دفع الله العدو بجنود المسلمين لغلب المشركون فقتلوا المؤمنين وخربوا البلاد والمساجد "  . 
وفي الجملة أنه لا بد للحق من قوة تدفع الباطل ، وأن الله قد أمد الأخيار بقوته ، ليدفعوا الشر ويكفكفوا من حدته . 
وفي العبارة السامية إشارة إلى أن تلك المغالبة هي في طبيعة البشر بمقتضى خليقتهم وفطرتهم ، إذ قال سبحانه : 
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض فهو سبحانه قد حكم بأن دفعه للناس أجمعين ، ثم أردف القول بالبدل بقوله : 
بعضهم ببعض وفي ذلك إشارة إلى أن تلك المدافعة بين الناس مستمرة ، وأنها ليست في جيل دون جيل ، ولا زمان دون زمان ، ولا يتعين أن يكون قوم بأعيانهم للشر ، وآخرون للخير ، فقد يكون بعض الناس فيه خير في بعض نواحيه ، فيدفع شر غيره في هذه الناحية ، ويكون في الآخر ما يدفع به شرا في بعض نواحي الأول ، وقد يكون بعض الأقوام في جانب الحق ينصرونه لغايات في نفوسهم ، وإن لم يكونوا فضلاء في عامة أحوالهم ، فالشر يدفع بالبر والفاجر ، وينصر الحق بالأخيار والأشرار ، ولذا لم يقل سبحانه وتعالى : ولولا دفع الله الأشرار بالأخيار ، بل قال سبحانه : 
بعضهم ببعض ليعم تلك الأحوال ، وذلك من فضل الله على عباده ; ولذا ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالت كلماته : 
ولكن الله ذو فضل على العالمين  [ ص: 913 ] وقد دل ذلك الختام الكريم على ثلاثة أمور : 
أولها : أن ذلك التنظيم الحكيم هو من فضل الله ورحمته ، وإنعامه على خلقه ، وليس ذلك بواجب عليه سبحانه ; وذلك لأنه خلق الناس ، وخلق معهم عقولا يعرفون بها خيرهم وشرهم ، فإن ساروا في طريق الخير والفلاح فلهم ما قصدوا إليه ، وإن ساروا في طريق الشر والفساد فإلى الهاوية يسيرون ، وعليهم وبال أمرهم ، وعاقبة عملهم إنما هو من فضله ، وقد دل على ذلك الاستدراك بقوله تعالى : 
ولكن الله ذو فضل وصف ذلك بأنه فضل من رب العالمين خالق الناس أجمعين . 
الأمر الثاني : فضل الله سبحانه وتعالى الكثير ، ووصفه سبحانه بأنه ذو فضل ، وقد دل على كثرة الفضل التنكير في قوله تعالى : 
ذو فضل أي ذو فضل كثير ، لا يدرك الناس قدره ، ولا يعرف كنهه ، ولا يحد بمقدار حتى يعرف ويعين بالتعريف . 
الأمر الثالث : أن 
النعمة التي أنعم الله بها على خلقه من دفع الفساد ينعم بها المؤمنون والمشركون ، والأشرار والأبرار ، لأن الفساد إذا عم لا يسلم منه أحد ، والخير إذا تحقق عم الجميع ، وقد دل على هذا المعنى قوله تعالى : 
على العالمين فلم يقل على المؤمنين أو المتقين ، بل عم الخير على الناس أجمعين للإشارة إلى ذلك المعنى الجليل . 
هذه قصة بني إسرائيل الذين غلبوا على أمرهم ثم بدلوا من الذلة عزة ، وهي قصة تكشف عن سنن الاجتماع والحروب ، وأمثل طرق الحكم . 
فمن سنن الله في الجماعات التي أشارت إليها الآيات أن الجماعة إن غلبت على أمرها ، وسامها الغالب الخسف والهوان تحفزت قوى آحاد منها للحياة ، فطلبوها عزيزة كريمة ، فإذا طالبوا اتجهوا إلى قيادة تجمع أمرهم ، وتنظم شئونهم ، ثم ساروا تحت لواء تلك القيادة ، وقد تصارعت عوامل الضعف مع دوافع العزة ، فإن كان الصبر كان معه النصر وإن ضاقوا بأمرهم كان الخذلان ، وضربت عليهم الذلة إلى يوم القيامة .  
[ ص: 914 ] ومن سنن الله في الحروب التي استبانت من القصة أن 
النصر يكون عند اتحاد العزائم وتلاقي القلوب، وأخذ الأهبة ، والصبر والثبات ، وأن النصر ليس بكثرة العدد ، وإنما هو بالعزيمة الماضية والثبات والصبر ، والمعونة من الله العلي القدير ، وأن الحق في ذاته قوة إن آمن به صاحبه ، وأراده عزيزا كريما غير ذليل . 
ولقد سن سبحانه في هذا القصص الطريق لاختيار الحكام ، فبين أن الحاكم لا يختار لنسب رفيع ، ولا يختار لمال وغير ، ولكن يختار لقدرته على القيام بأعباء الحكم من قوة في نفسه ، وقدرة على الاستيلاء على أهوائه وشهواته ، وعلم غزير بشئون الاجتماع وأحوال الناس ، ومن تجارب هادية إلى الحق في الأمور ، وإخلاص ينير الطريق والبصائر ، وليس الحكم عطاء يعطى ، ولكنه ابتلاء وأعباء . 
وإن الحاكم الذي تجتمع القلوب حوله هو حكم الجماعة ، والحاكم مظهرها ، وإن قتل الحاكم أو مات أقامت الجماعة مثله ، أو خيرا منه، أما الحاكم المتسلط المتجبر فإنه جامع للناس على رغباته ، فإن قتل أو مات تفرق الجمع - وولى الأدبار . وهذه إشارات إلى العبر في ذلك القصص الحكيم .